نافذة

هاروكي موراكامي

ترجمة كاملة لقصة «نافذة» للكاتب الياباني هاروكي موراكامي

نُشرت القصة عام 1993

ترجمة: أحمد طارق

ديسمبر 2018

عن ترجمة جاي روبن للإنجليزية

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

«تحياتي،

مع كل يومٍ يمر تقل برودة الشتاء، وضوء الشمس محمّلٌ الآن برائحة الربيع الخفيفة، أنا واثقٌ من أنكِ بخير!

لقد استمتعت بقراءة خطابك الأخير، لقد أتقنتِ كتابة الفقرة عن العلاقة بين شريحة لحم البرجر وجَوْز الطِيب، لقد شعرت أنني مغمورٌ تمامًا بالإحساس الحميميّ للحياة اليومية، إنني مندهش كيف نقلتِ النكهات الدافئة للمطبخ بطريقة شديدة الحيوية؛ وذلك الصوت البهيج لارتطام السكين بمائدة المطبخ وهي تقطع البصل.

وبينما أنا مستغرقٌ في القراءة ملأني خطابك برغبة لا تقاوم في تناول شريحة برجر، لدرجة أن الرغبة دفعتني إلى الذهاب إلى مطعمٍ قريب والحصول على واحدة في نفس الليلة. في الحقيقة يقدم هذا المطعم القريب تحديدًا ثماني طرق مختلفة لطهي شرائح البرجر: على طريقة تكساس، على طريقة هاواي، الطريقة اليابانية، وغيرها. على طريقة تكساس تكون شريحة ضخمة، لحظة، إنها ضخمة لدرجة أنها، بلا شك، ستفاجئ أي شخص من تكساس يأتي إلى تلك البقعة من طوكيو. الشريحة المصنوعة على طريقة هاواي تُقدَّم مع حلقة أناناس، والبرجر من كاليفورنيا، آخ.. لا أذكر! أما الشريحة اليابانية فإنها مغمورةٌ تمامًا بالفجل المبشور. كان المكان ذا تصميمٍ أنيق وكانت كل النادلات حسناوات ويرتدين تنانير شديدة القصر.

في الحقيقة لم أذهب لدراسة الديكور الداخلي للمكان أو سيقان النادلات، ذهبت هناك لسببٍ وحيد، وهو تناول شريحة برجر، وليس على طريقة تكساس، أو كما يُصنع في كاليفورنيا، فقط شريحة برجر عادية وبسيطة.

هذا هو ما حاولت أن أخبر به النادلة، فقالت لي: (أنا آسفة و لكن لا يوجد لدينا سوى هذه الأنواع).

بالتأكيد لم أستطع لوم النادلة، إنها لم تكتب قائمة الطعام، لم تختر أن ترتدي هذا الزي الذي يكشف قدرًا كبيرًا من فخذيها كلما انحنت لترفع صحنًا من فوق إحدى الطاولات! ابتسمت لها وطلبت شريحة على طريقة هاواي. كما نصحتني، عليَّ فقط أن أزيل حلقة الأناناس. كم هو غريبٌ عالمنا؟ لكي أحصل على شريحة برجر عادية تمامًا عليَّ أن أطلب شريحة على طريقة هاواي ثم أزيل عنها الأناناس.

كما فهمت فإن شريحتِك من النوع العادي! أشكر لكِ خطابكِ، ما أردته فقط كان شريحة عادية مثل التي تطهينها.

على النقيض من خطابك وجدت النص الذي كتبتيه عن ماكينات التذاكر الأوتوماتيكية لهيئة النقل الوطنية سطحيًا قليلًا، إنني أؤكد لكِ أن الزاوية التي ناقشتِ منها المشكلة جيدة، ولكن القارئ لا يستطيع أن يُلمَّ تمامًا بالمشهد، لا تحاولي مطلقًا أن تكوني ذلك المُشاهد المدقق، فالكتابة في النهاية ليست سوى شيء مؤقت.

إن درجتك العامة على هذا الخطاب الجديد هي سبعون، إن أسلوبكِ يتطور ببطء ولكن بثبات، لا تتعجلي، فقط واصلي العمل الجاد كما تفعلين دومًا. إنني أنتظر بلهفةٍ خطابكِ التالي. أليس حلول الربيع جميلًا؟

ملاحظة: أشكرك على صندوق الحلوى الذي اخترتيه، إنها لذيذةٌ، إن قوانين الجمعية تمنع بصرامة الاتصال الشخصي فيما عدا الخطابات، لذلك أجد نفسي مضطرًا أن أطلب منكِ أن تمتنعي عن إرسال الحلوى في المستقبل.

أشكرك مرةً أخرى».

لقد استمررت بالعمل في تلك الوظيفة بدوامٍ جزئيّ لمدة عامٍ واحدٍ، كنت حينها في الثانية والعشرين من عمري.

جنيت في تلك الوظيفة ألفي ين مقابل الرد على الخطاب الواحد، كنت أرد على حوالي ثلاثين خطابًا مثل هذا الخطاب في الشهر، لصالح شركة صغيرة ومريبة في حي أيداباش، وكانوا يدعون أنفسهم «جمعية الكتابة».

«أنت أيضًا يمكنك تعلَم كتابة خطاباتٍ آسرة»، هكذا كانت تقول إعلانات الشركة. يدفع الأعضاء الجدد بالجمعية مبلغًا مقدمًا ثم مبلغًا شهريًا محددًا، في مقابل ذلك يستطيعون أن يكتبوا أربعة خطاباتٍ شهريًا إلى جمعية الكتابة! نحن معلمو الكتابة نرد على تلك الخطابات بأخرى من كتابتنا، مثل الخطاب المذكور سابقًا، وتحوي ردودنا تعليقات، ونصائح، وإرشادات للتحسين المستقبلي. تقدمتُ لمقابلة العمل بعدما شاهدت الإعلان معلقًا في قسم الأدب بالكلية، في تلك السنة دفعتني بعض الأحداث لتأجيل التخرج لعامٍ، وقرر والداي أن يقتطعا من مصروفي الشهري، كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي كان عليَ أن أتكفل بمصروفاتي دون الاعتماد على الغير. بالإضافة إلى المقابلة طلبوا مني أن أكتب في عدة موضوعات. بعد أسبوع عينوني، بعدها مررتُ بأسبوعٍ من التدريب على كيفية وضع التصحيحات، وإضافة التعليقات وتقديم المساعدة، وغيرها من الحيل المهنية، كل ذلك لم يكن صعبًا مطلقًا!

كل أعضاء الكتابة كانوا مسجلين مع معلمي كتابة من الجنس المخالف، كان لديَّ أربع وعشرين عضوة، تتراوح أعمارهن بين الرابعة عشرة إلى الثالثة والخمسين، أعمار الغالبية منهن بين الخامسة والعشرين إلى الثلاثين. ما أقصد قوله هو أن أغلبهن كنّ أكبر مني عمرًا. في أول شهرٍ لي أصابني الهلع، كانت النسوة يكتبن أفضل مني بشكل كبير، ولديهن خبرة كبيرة بالمراسلة، حينها لم أكن  قد كتبت خطاباً حقيقيًا واحدًا، إنني لا أعرف بالضبط كيف استطعت اجتياز الشهر الأول. دائمًا ما كان يتصبب مني عرق بارد بسبب الخوف من أن تطلب إحدى عضوات الجمعية تغييري، وكانت اللوائح تتيح ذلك.

مر الشهر الأول دون أن تشكوني أية عضوة بالجمعية، بل على العكس، لقد قال لي المدير إنني أحظى بشعبيةٍ كبيرةٍ، مر شهران آخران وللغرابة زاد مرتبي بسبب «توجيهاتي». هؤلاء النسوة كنّ ينظرن لي كمعلمٍ لهن، وكن يثقن فيَّ تمامًا، عندما فهمت هذا مكنني الأمر من أن أقدم لهن التعليقات والتعقيبات بقدر أقل من المجهود، ودون قلقٍ كبير.

ربما لم ألاحظ ذلك وقتها ولكن هؤلاء النسوة كن وحيدات (كذلك كان أعضاء الجمعية من الذكور)، كن يردن الكتابة، ولكن لم يكن هناك أحدٌ ليكتبن إليه، لم يكنّ من نوع النساء اللائي يرسلن رسائل إعجاب لأحد مشغلي الاسطوانات، لقد أردن شيئًا أكثر خصوصية وذاتية، حتى لو كان على هيئة تصحيحات وتعليقات من معلم كتابة.

وهكذا وجدت نفسي أقضي جزءًا من بداية العشرينيات من عمري كحيوان فقمة كسيح ومحاط بدفء خطاباتٍ نسائية.

كانت تلك الخطابات متنوعةً جدًا، هناك الخطابات المملة، والخطابات الممتعة وحتى الحزينة، للأسف لم أستطع الاحتفاظ بأي منها (نصت قوانين الجمعية أن تعاد جميع الخطابات للجمعية)، وحدث الأمر منذ وقتٍ طويل لدرجة أنني لا استطيع تذكر الخطابات بشكل تفصيلي الآن، فقط أذكرها كخطاباتٍ ممتلئةٍ بالحياة، الحياة كلها، من أكبر الأسئلة التي يسألها الإنسان إلى أصغر التفاهات اليومية. إن الرسائل التي كنّ يرسلنها بدت لي -أعني كطالبٍ جامعي- منفصلةً عن الواقع بشكلٍ غريب، بل أحيانًا كنت أراها بلا معنىً، إنني موقنٌ الآن أن واقع الأشياء ليس أمرًا تنقله إلى الآخرين، بل أمرٌ تصنعه بنفسك، إن هذا هو ما يُنتِج المعنى. لم أعِ ذلك حينها، وكذلك هاته النسوة، وكان هذا بالتأكيد أحد أسباب أن كل شيء في كتاباتهن بدا ثنائي الأبعاد.

عندما حان الوقت لي أن أترك الوظيفة، عبرت كل عضوات الجمعية اللاتي أراسلهن عن حزنهن، وحتى أنا، رغم أني كنت قد بدأت أمل من هذا العمل الذي لا ينتهي من المراسلات، شعرت ببعض الأسف: فبداخلي علمت أنه بعد اليوم ربما لن أصبح قريبًا من كل هذا العدد من البشر، وبهذا القدر من القرب.

***

شريحة البرجر. في الحقيقة لقد واتتني الفرصة أن أتناول شريحة برجر طهتها المرأة التي أرسلت إليها الخطاب المذكور بالأعلى.

كان عمرها اثنين وثلاثين عامًا، بلا أطفال، يعمل زوجها في شركة تُعَد، بشكلٍ عام، خامس أفضل شركة في البلاد. عندما أخبرتها في خطابي الأخير أنني مضطرٌ أن أترك الوظيفة بنهاية الشهر، دعتني لتناول الغداء بصحبتها، وعلى الرغم أن قوانين الجمعية تُحَرِّم ذلك، إلا أنني قبلت الدعوة! كان لديَّ فضول شاب في الثانية والعشرين.

كانت شقتها تواجه قضبان خط قطار أوداكيو، اتسمت الشقة بالنظام الشديد بما يتناسب مع زوجين بلا أطفال، لم تكن المفروشات، أو الإضاءة، أو سترة المرأة، ذات ثمنٍ باهظ، ولكنها كانت جميلةً بما يكفي. شعر كلانا بالاندهاش! أنا بسبب ملامحها الشابة، وهي بسبب سني الصغيرة، لقد اعتَقدَت طوال تلك الفترة أنني أكبرها عمرًا، فقد كانت قوانين الجمعية تمنع أن يعلن معلمو الكتابة عن أعمارهم.

عندما انتهينا من مفاجأة بعضنا، كان قد اختفى التوتر المصاحب عادةً لأول لقاء، تناولنا شريحتينا وتناولنا القهوة ونحن نشعر أننا ربما مسافران فاتهما نفس القطار، وينتظران قطارًا قادمًا. وبالحديث عن القطارات، يمكن للمرء أن يرى، من شرفة شقتها بالدور الثالث، قضبان القطار الكهربي بالأسفل، كان الجو جميلًا ذاك اليوم، وفوق حواجز شرفات المبنى كانت تشكيلات ملونة لشراشف ووسائد تجف في الشمس، كل برهة وأخرى يمكنك أن تستمع إلى صوت مضرب غسيل وهو يلطم وسادة ما، حتى الآن أستطيع أن أستدعي ذلك الصوت، والغريب أنني أشعر أن  ذلك أمر ليس بعيدًا مطلقًا.

كانت شريحة البرجر كاملة، والنكهة مضبوطة تمامًا، والطبقة الخارجية من الشريحة محمّرةٌ كليًا، أما داخل الشريحة فكان رطبًا من العصارة، وكان الصوص مميزًا، على الرغم من أني لا أستطيع أن أدَّعي بقلبٍ مطمئنٍ  أنني لم أتناول شريحة برجر مثلها من قبل، إلا أنها بالتأكيد الشريحة الأروع التي تناولتها منذ زمنٍ بعيد. قلت لها ذلك، وأسعدتها كلماتي.

بعد القهوة أخبر كلٌ منا الآخر بقصة حياته، بينما كانت أسطوانة لبيرت باكاراك[1] تدور، ولأنني وقتها لم يكن في حياتي ما يستحق الحكي، بادرت هي بمعظم الحديث. قالت إنها في الجامعة أرادت أن تصبح كاتبة، تحدثت كذلك عن فرانسوا ساجان، واحدة من كاتباتها المفضلات، أحبت بشكلِ خاص كتاب ساجان (هل تحب برامز؟)، أنا شخصيًا لم أكره ساجان، على الأقل لم أرها رخيصة تمامًا كما كان متداولًا، أعني ليس من المفترض بالجميع أن يكتبوا مثل هنري ميللر أو جان جينيه.

«مع ذلك أنا لا أجيد الكتابة».

«الوقت لم يتأخر بعد كي تبدأي ولن يتأخر أبدًا!»

«كلا، أنا أعلم أنني لا أستطيع الكتابة، أنت من أخبرني بذلك». ابتسمت و أضافت: «بكتابتي خطاباتٍ لك، أيقنت الحقيقة، أنا لا أملك الموهبة!»

أصبح لوني أحمر من الخجل، إنه أمرٌ لا يحدث لي الآن أبدًا،  لكن عندما كنت في الثانية والعشرين كنت أشعر بالخجل الشديد طوال الوقت، «في الحقيقة ورغم ذلك فإن كتابتك تحمل شيئًا ما صادقًا».

عوضًا عن الرد، ابتسمت ابتسامةٌ صغيرةُ.

«على الأقل جعلني أحد الخطابات أخرج لتناول شريحة برجر!»

«لا بد وأنك كنت جائعًا».

في الحقيقة قد يكون ذلك صحيحًا.

مر قطارٌ تحت النافذة وارتفع صوت القرقعة المكتوم.

عندما دقت الساعة الخامسة قلت لها إنني سأرحل. «أنا متأكدٌ أن عليكِ أن تعدي طعام الغداء لزوجك».

«إنه يعود إلى المنزل متأخرًا جدًا». قالت و أسندت رأسها على يدها: «لن يعود قبل منتصف الليل!»

«يبدو رجلًا شديد الانشغال».

«أعتقد ذلك»، توقفت لدقيقة ثم واصلت: «أعتقد أنني كتبت إليك ذات مرة عن مشكلتي، هناك بعض الأشياء التي لا أستطيع أن أتحدث عنها معه، إن مشاعري لا تجد طريقها إليه، في كثير من المرات أشعر أننا نتحدث لغتين مختلفتين».

لم أدرِ ما أقول لها، لم أفهم مطلقًا كيف يمكن للمرء أن يواصل العيش مع شخص يستحيل أن ينقل إليه مشاعره.

«و لكن كل شيء على ما يرام!» قالت ذلك برقة وبدا لي فعلًا أن كل شيء على ما يرام. «أشكرك أنك كتبت لي خطابات كل هذه الشهور، لقد استمتعت بها، والكتابة لك كانت بمثابة الخلاص بالنسبة إليَّ».

قلت لها: «لقد استمتعت كذلك بخطاباتك». مع أنني في الحقيقة لا أذكر أي شيء كتبته لها، نَظَرَت باتجاه الساعة صامتة لبرهة، بدا كأنها ترقب مرور الوقت.

سألتني «ماذا ستفعل بعد التخرج؟»

قلت لها إنني لم أقرر بعد، بالفعل لم يكن لديَّ أي فكرة عن الذي علي فعله. عندما قلت ذلك ابتسمت مرة أخرى: «ربما عليك أن تمارس عملًا له علاقة بالكتابة! إن تعليقاتك كانت مكتوبة بشكل رائع، كنت أنتظرها، كنت أنتظرها حقًا و بلا مجاملة»، أضافت: «حسبما أعلم كنت تكتبها لتؤدي وظيفة، ولكنها احتوت على مشاعر حقيقية! لقد احتفظت بها كلها، أخرجها من حين لآخر وأعيد قراءتها».

قلت لها: «شكرًا لكِ و أشكركِ على الشريحة».

مرت عشر سنوات، ولكن كلما مررت بحيها على خط قطار أوداكيو أفكر بها، وفي شريحة البرجر المشوية لدرجة القرمشة، أرنو إلى المباني المصطفة بجانب القضبان وأتساءل أي نافذةِ يمكن أن تكون نافذتها؟ أحاول تذكّر المشهد من نافذتها، وأن أحزر أي واحدة قد تكون، و لكني لا أستطيع التذكر نهائيًا.

ربما لا تعيش هناك الآن، ولكن لو كانت ما تزال هناك فهي على الأرجح تستمع إلى نفس أسطوانة برت باكاراك على الجانب الآخر من النافذة.

هل كان عليّ أن أمارس الحب معها؟

هذا هو السؤال المحوري في هذه القصة!

ربما كانت الإجابة  أكبر مني، حتى الآن لا أدري، هناك أشياء لا نفهمها أبدًا، مهما تراكمت خبراتنا، ومهما تَقَدَّم عمرنا. كل ما أستطيع فعله هو أن أنظر من القطار ناحية النوافذ التي قد تكون إحداها نافذتها، أحيانًا أفكر أي نافذة قد تكون لها وأحيانًا أقول إن نافذتها ليست من بين هذه النوافذ. في حقيقة الأمر هناك العديد من النوافذ.


برت باكاراك: مغني و ملحن و كاتب أغنيات أمريكي. [1]