الدليل في طلب المستحيل
 
كتابة: جافن جيرندون وجون جوردون
رسوم: ريتشارد هوجيوز
 
إنتاج مختبر الخيال الانتفاضي، لندن، ديسمبر 2010.
www.labofii.net
 
 
ترجمة: حسين الحاج
 
(ترجمة محتوى هذا المنشور منشورة برخصة المشاع الإبداعي النسبة-بذات الرخصة، الإصدارة ٣.٠)
 
***
 

كُتب هذا المنشور في معمعة الأيام الثلاث من ديسمبر 2010، في اليومين اﻷول والثاني من احتجاجات طلاب المملكة المتحدة ضد خفض اﻹنفاق الحكومي، وهدف إلى التأمل في احتمالية خلق أشكال إبداعية جديدة من النشاط في الحركات الحالية. وتم توزيعه أولًا في «نهاية اﻷسبوع الطويلة»، وهي فعالية أقيمت في لندن كي تجمع الفنانين والنشطاء معًا لتخطيط وإعداد عمليات للأيام التالية، من بينها مقاطعة حفل تسليم «جائزة ترنر» في متحف تايت بريطانيا، والكتابة الجماعية للمانيفستو في المعرض الوطني ونسخة المملكة المتحدة من البوك بلوك[1].

«لست أرى الفن يغيِّر بالمعنى الحقيقي مسار العلاقات اﻹنسانية مطلقًا».
~
كليمنت جرينبيرج

 

الفن عديم الفائدة، هكذا يقال لنا، وبمجرد أن يؤثر في العالم يفقد مقامه بصفته فنًا. (من يعرف! ربما ينحدر إلى اﻷسفل فيصبح أداتيًا أو دعائيًا أو أسوأ فيصبح حرفة!) الشيء الغريب أن من يقولون لنا هذا عادةً ما يكونوا نفس أولئك الناس الذين يضعون الفن في خدمة أقسى اﻷدوات، وهو سوق الفن. وربما ما يقصدونه أن الفن عديم الفائدة ما لم يكن يُستعمل لتحقيق اﻷرباح في النهاية. قد يكون هذا هو نفس المنطق الذي يجادل أن التعليم غير نافع خارج عملية قذفنا إلى عالم العمل والاستهلاك المفسد. كُتب هذا الدليل من أجل من يظن أن الفن له استخدامات أخرى وأننا مستعدون للوصول إليها.

 

«الفن ليس فكرة بل حركة، فليس المهم ما هو الفن بل ما يفعله الفن».

~ جيل دولوز

دائمًا ما كان الفن نافعًا لشخص ما، عندما يصبح شيئًا مسلعًا، مقيدًا بحدود السوق، يصبح مناديًا جماليًا لقيم الوضع الراهن، وعندما يسيَّج «الشكل السياسي» منه بأمان في المتاحف، يصبح قناعًا ثقافيًا رائجًا للكارثة، التي هي الرأسمالية. لكن هناك قصة أخرى للفن. قصة يهرب فيها من سجون عالم الفن، وينسى اسمه، ويترك أناه المضاءة بالنجوم ويصبح حركة جماعية من اﻹبداع المُطَبَّق في واقع الحياة اليومية.

في تلك اللحظات، تنشأ علاقات أخرى مع الفن وتظهر طرق أخرى من اﻹبداع، وتبدأ في إعادة تشكيل الحياة التي نتشاركها، متحررة من طلب السوق، مغيِّرة الطريقة التي نفهم بها الفن ونخلقه، والطريقة التي نرفض بها ونتمرد، والطريقة التي نحب بها ونأكل. عندما يحدث ذلك في خضم النضال والاعتصام والحركة الاجتماعية والاحتجاج، تُعقد صداقات جديدة وتصبح أنماط جديدة من العيش ممكنة. هذا النوع من الثقافة يجمعنا معًا بدلًا من أن يفرقنا، ويسمح لنا بأن نجد بعضنا بين الحطام. تعيد هذه اللحظات إنتاج المشاعر وتشعل الحواس التي اعتادت أن تحمل اسم «الفن»، لكنها تبني رغبات مختلفة وعوالم أخرى، قد تكون تلك التي تجرَّأ بعض الناس على تسميتها بالمستحيلة. هذا هو الفن الذي لا يُظهر لنا العالم بل يغيره. تُشَكِّل العروض التمردية والصور الخفية والابتكارات الانتفاضية والأصوات المغيرة تاريخًا سريًا خاصًا بفن الحركة الاجتماعية ولا يكمن التحدي الذي يواجهنا اليوم في تذكر (استجماع الذاكرة حرفيًا) هذا التاريخ السري للفن فحسب، بل في اكتشاف وخلق التيارات الحاضرة التي توفر مسارات بديلة خارج اﻷزمة الحالية.

هذا الدليل ليس خارطة طريق أو كتيبًا إرشاديًا. فهو ليس إلا عود كبريت يشتعل في الظلام، أداة منزلية الصنع متعددة الاستخدامات تساعدك أن تشق طريقك الخاص خارج خراب الحاضر، مدفأة بقصص وإستراتيجيات أولئك الذين طبقوا كلمات برتولت بريشت حرفيًا، «ليس الفن مرآة تعكس الواقع، بل هو المطرقة التي نشكله بها».

هنا واﻵن

الحاضر هو أعظم الوسائط. فكما قال جوزيف بويس، «لا تنتظر البداية، استعمل ما بيديك». ابدأ من حيث أنت. لقد بدأت بالفعل. ما هي اﻷدوات والتيارات حولك؟ فيك أم بجانبك؟ يمكنك أن تبدأ بجسدك، فهو النظام البيئي الذي تعرفه جيدًا، وهو مصدر أغلب معرفتك وأحلامك. فن الحركات الاجتماعية بدأ عادة من العروض الجسدية الجماعية بصفتها المصدر اﻷكثر وفرة في المقام اﻷول.

عندما تخلت سيلفيا بانكهيرست عن استكمال تعليمها في الكلية الملكية للفنون من أجل أن توظف إبداعها في خدمة حركة المطالبات بحق المرأة في الاقتراع العام (سفراجيت)، كانت الطاقة اﻷدائية الكامنة في أجساد النساء هي التي أشعلت نشاطها، فلقد صممت أنشطة تمحو بها اﻷجساد مظالم النظام وتخربها، وأفزعت السلطات صورة النساء ذوات التنانير المدعمة باﻷسلاك اللواتي يقمن بأفعال جذرية، وحكى أداءهن قصة جديدة غير مريحة لمن في السلطة.

لكن ماذا بحوزتنا أيضًا؟ الرسم؟ لحام المعادن؟ ماكينات الطباعة الرقمية؟ ماذا يمكنك أن تفعل بها؟ ما *اﻷشياء اﻷخرى* التي يمكنك أن تصنعها بها؟ عندما احتل طلاب الفنون كليتهم في باريس أثناء انتفاضة 1968، استعملوا غرف طباعة الشاشة وأصدروا آﻻف الملصقات العريضة. استعاد الطلاب الفن الثوري في صناعة الملصقات المندثرة في فرنسا، غالبًا بسبب قوانين منع تعليق الملصقات، وغطوا حوائط المدينة بصور أيقونية بسيطة، وتعدى إبداعهم القانون، فمثلما أعلن ملصق منهم، «ممنوع المنع».

قشر عيونك، مدد آذانك

إذا أردنا خلع المؤسسات أو اﻷنظمة وإعادة تأسيسهما يجب أن نبدأ من الجذور، من الثقافة التي تدعمهما. الثقافة هي الشريحة المادية للسياسة، والقاعدة الطينية التي تقوم عليها. لكن هذه القواعد لا يمكن تغييرها بنفس الطريقة التي يمكنك بها إلغاء قانون - فهي تتغير عن طريق التسرب إليها على المستوى الدقيق، من خلال الشقوق والمسام والفجوات، واختراقها بعيدًا مثل خلد عجوز يفتح الملايين من الممرات الممكنة. لحسن حظك، أنت هناك بالفعل.

اعرف عدوك، كيف يتحرك ويستجيب ويغير شكله ويكذب. اعرف خامتك، أي الناس والحركات من حولك، واﻷماكن التي تعتصم فيها، والرغبات التي تحتفظ بها. سيصبح عليك أن تنظر إلى خامتك جيدًا إلى أن تستطيع اﻹبحار فيها بأعين مغلقة. كما يقول الخلد عن النهر في «الريح في الصفصاف»[2]: «إنني أعيش فيه ومعه وبه». اتخذ إقامتك في الشيء الذي ستحوله، وتدفق معه حتى تصبح علاقتك به سلسة، واستشعر أنماطه وشبكاته عميقًا حتى يصبح جزءًا منك بطريقة ما.

انظر حولك. نحن في الفضاء الواقع بين اليقينيات، ولحظة تاريخية يكون المجتمع فيها طيعًا أكثر من اﻷوقات العادية، حيث يكون للممكن قوة ويمكن لصور الحياة أن تتغير بسرعة. أثناء كوميونة باريس، هرب الانطباعيون من المدينة المتمردة كي يجدوا معزلًا هادئًا في الضواحي، لكن جوستاف كوربيه ترك فرشاة الرسم وانخرط بنفسه في الكوميونة وكتب قائلًا من باريس التي وصفها بالجنة بدون شرطة، «أنا غارق حتى عنقي في السياسة». خطط بخياله الجريء الاحتفال الذي أسقطوا فيه عامود فيندوم، ذلك النصب التذكاري الكريه للإمبراطورية والهرمية. كان التمرد الجماعي رسمه، والمدينة كانت لوحته.

صحراء

بمجرد أن عرفت خامتك وموقعك.. فهذا وقت الهرب. كل شيء يبدأ بقفزة. ليس فرارًا بصفته انسحابًا، بل بصفته اشتباكًا. إن كنت معارضًا لمنطق تحويل الفن أو التعليم إلى سوق، فأنت بذلك تعارض أن تُعَرِّف نفسك طبقًا لهذا المنطق، فلست الفنان أو الطالب أو العامل الذي يحتاجه رأس المال، مما يعني أنك بالفعل بدأت في محو نفسك. «حقيقة أنني ألتهم نفسي تُظهر بالكاد وجودي»، هكذا أعلن البيان الملحق بمجموعة رسومات ألكسندر رودشنكو السوداء في عام 1919. هذا المحو الذاتي، أو رفض ذلك الجزء من هويتك الذي يطالب به رأس المال، يعني التصرف بصورة مختلفة وبطرق قد لا يكون لها اسم بعد. لكن بدون هويتك، فأنت حر، ويصبح ما تفعله أهم من كينونتك، وقد يصبح ما تفعله أي شيء. قد تتفاجأ بقدرة الفن الذي ينسى اسمه على اختراق أماكن غير متوقعة. فالتحول نحو أنواع أخرى من الفعل وطرق أخرى من الارتباط يعني الانزلاق، جزئيًا على اﻷقل، خارج صفحات تاريخ الفن ومؤسساته. لكنك بذلك لن تكون أول شبح يطارد مدارس الفنون.

النفي الجذري للدادائيين من رفض الحرب والعمل والفن والسلطة والجدية والعقلانية عندما امتزج بالقلب الصلب للحركات المناهضة للحرب والرأسمالية في برلين في عهد جمهورية فايمار، شَكَّل صورًا إبداعية من المقاومة لم تُشهد من قبل. فلقد ساروا في موكب عبر الشوارع في زي جنود المشاة يثغون مثل الخراف كما لو كانوا يساقون للذبح في الحرب العالمية اﻷولى، وأصدروا شهادات مسيحانية رسمية باسم «شركة المسيح المحدودة» التي أسسوها للمواطنين الذين رغبوا في أن يحكم عليهم بعدم اللياقة للتجنيد اﻹلزامي. وأرسلوا هدايا مستفزة للجنود في جبهة القتال، «قميصين، أحدهما أبيض واﻵخر مشجر، وزوجين من اﻷصفاد، ولبَّاسة أحذية صغيرة ومجموعة من عينات أكياس الشاي التي وفقًا للصائق المكتوبة يدويًا يجب أن تحث على الصبر وتجلب اﻷحلام السعيدة والاحترام للسلطة والولاء للعرش». يذكرنا الدادا أن ما يغلف كلمة «لا» المدوية يمكن أن يكون كلمة «نعم» آخاذة، والمرح الآسر الذي يمكن أن نحظى به ما دمنا نخلق مجتمعات من الرفض.

فكما أدرك الناقد الفني براين هولمز أن الكثير مما يطلق عليه «فنًا سياسيًا» في عالم الفن يدعي أنه مسيسًا، لكن أغلبه «سياسات صورية»، تمثيلات من الفعل السياسي. الخروج عن إطار التمثيل ضمن عالم الفن يضعك في مشكلة. دُعيَ مختبر الخيال الانتفاضي في العام الماضي كي يقيم ورش عمل في الفن والنشاط السياسي في متحف تايت وأطلقوا عليه اسم «العصيان يصنع التاريخ». أراد منسقو المتحف أن تنتهي الورشة بعرض أداء عام، وعندما أرسلوا رسالة إلكترونية للمختبر قائلين إن لا يمكن عمل عرض ضد رعاة المتحف (التي كانت شركة بيرتش بيتروليم من بينهم)، قرر المختبر استخدام هذه الرسالة كأحد مواد الورشة، وسألوا المشاركين من خلال عرضها على الحائط إذا ما كان على الورشة أن تطيع أو تعصي أوامر المنسقين. بالرغم من محاولة إدارة المتحف لإفساد النقاش، انتهى المشاركون إلى اتخاذ موقف ضد رعاية الشركة وأقاموا مجموعة بعد ذلك تهدف إلى تحرير تايت من هيمنة بارونها البترولي. بعد أشهر قليلة، ظهرت المجموعة في العناوين الرئيسية عندما سكبت مئات اللترات من العسل اﻷسود داخل وخارج المتحف، أثناء احتفالها بمرور عشرين سنة من رعاية شركة البترول، بينما يتدفق البترول في خليج المكسيك.

من الواضح أن المختبر لن يُدعى إلى المتحف بعد ذلك، لكن هجرهم أطلق حريتهم في الاستمرار في اتخاذ مواقف صلبة ﻷنهم لن يكون عليهم الاعتماد على تملق المتحف مرة أخرى.

أعد تمثيل المستقبل

«كن حذرًا مع الحاضر الذي تصنعه ﻷنه يجب أن يبدو مثل الحاضر الذي تأمل فيه»، هذا ما كتبته المجموعة الفنية اﻷناركية النسوية، مويخيس كريندو، بحروف يدوية كبيرة على حائط قديم في لاباس. مثل الكثير من الفنانين النشطاء، عرفوا أن المستقبل ليس بالخارج ننتظر وصوله مثل قطار سكة حديد كارثي، إنه شيء نخلقه اﻵن في الحاضر ومسؤوليتنا عن الحاضر هي المسؤولية الجادة عن المستقبل فحسب.

المسيرة التي تنطلق من نقطة ألف إلى نقطة باء بشعارات وهتافات مكررة ترددها أصوات خشنة، وجماهير المتظاهرين المحتشدة في البرد لساعات تستمع إلى رجل ملتح يخطب فيهم، واللافتات المملة المعلقة على البنايات، والمنشورات المليئة بإحصائيات حول الكارثة.. هل تمثل هذه اﻷفعال المستقبل الذي نريده؟ كيف يمكن لمطالبنا ورغباتنا أن تظهر بصورة أخرى؟ كيف يمكن لأفعالنا أن تبدو وتُستشعر بطريقة أخرى؟

آمن آلان كابروف بينما كان يتخيل فن المستقبل أن «ربما نرى أن المعنى الكلي للفن تغير بعمق - من كونه غاية إلى كونه وسيلة، من كونه يحمل وعدًا بالمثالية في عالم ما آخر، إلى إظهار طريقة حياة ذات معنى في هذا العالم». فهم كابروف الفن بصفته مروجًا للفعاليات، أي العروض التي محت الفروق بين الجمهور والمبدع في الستينيات، أن الفن يحمل داخله إمكانية خلق صور للمستقبل التي يمكن التدرب عليها هنا واﻵن. وأنجح اﻷفعال السياسية هي التي تفعل المثل، فهي ليست تطالب بشيء أو تمنع شيء، لكنها تجعل أحلامها مرئية، وليست تعلن رفضها فقط، بل تعرض طريقة أخرى ممكنة للعيش.

لم تحرر جماعات استعادة الشوارع في التسعينيات الشوارع من زحام السيارات الملوث، بل اﻷهم من ذلك أنها ملأتها بالأجساد الراقصة والموسيقى ورؤية للعالم حيث تدور السياسة حول البهجة وليس التضحية، وحول تجسد التغيير وليس انتظار ثورة أن تأتي به. عندما يحتل الطلاب من جميع أنحاء إنجلترا غرفًا في جامعاتهم ويحملون أشكالًا بديلة من التعليم داخلهم، إنهم يرفضون ويبنون في الوقت ذاته، إلى درجة أن بعض الطلاب من جامعة جولدسميث نقلوا مؤخرًا روح الرفض والمقاومة تلك إلى مساحات غير مألوفة.

أنشأ الطلاب مؤسستهم، جامعة التفاؤل الإستراتيجي، وبدلًا من أن يرتضوا تسويق التعليم، بدأوا في تعليم السوق، وأقاموا محاضرات في اﻷماكن التي احتلوها وأعادوا تعريف مساحات الاستهلاك، مثل ردهات البنوك وممرات المتاجر الكبيرة بصفتها أماكن للتعلم والمناقشة بصورة اجتماعية.

في منتصف الستينيات، بعض ممثلي وفناني سان فرانسيسكو المقيمين في المهجر أطلقوا على أنفسهم الحفارين افتتحوا محلًا أطلقوا عليه «المتجر المجاني». يمكن فيه ترك البضائع أو تبديلها أو أخذها. تم تدوير اﻷدوار كذلك، وعُلقت لافتة في المحل تقول «إذا سألك أحدهم عن المدير، فقل له أنت المدير». وأصبح مكان يستطيع فيه المجندون الهاربون من حرب فيتنام أن يجدوا فيه ملابس بديلة وأوراقًا بأختام «رسمية» حتى يتركوا خلفهم ملابس التجنيد على الرفوف. كما قُدم طعام مجاني إلى المسافرين، وأنشئت عيادات رعاية صحية مجانية.. ادَّعوا أن كل شيء يمكن أن يصبح مجانيًا، وأظهروا كيف يمكن عرض ما أسموه «المبادرة بالحياة»، حيث يصبح الفن طريقة الحياة التي يعيشها المرء وليس العكس. وبرغم من أن إغلاق البوليس للمحل، إلا أن أسلوبهم المبدع انتشر في أنحاء الولايات المتحدة، حتى أنه قد افتتح مؤخرًا «متجر البيت غير التجاري المجاني» في الشارع التجاري في شرق لندن.

ليس توافر المعلومات ما سوف يحفزنا للفعل، ولا تصوير أو تمثيل السياسة، ما سيجعلنا نتحرك هو أن نتذوق أحلام ما يحتمل أن يكون، العبور داخل الشقوق حيث يصبح في منظورنا عالم آخر.

اصنع آلات ما بعد رأسمالية

يمكننا جميعًا أن نصبح مهندسي الخيال، جادل ماركس أن «ذكاءنا العام»، أي كل معرفتنا ومهاراتنا الجمعية التي نستعملها في صناعة اﻷشياء، يُسلب مننا ويُجَسَّد في الآلات التي نعمل عليها بدلاً من ذلك. ماذا يمكن أن يحدث إذا أعدنا هندسة تلك الآلات بطريقة ما، إذا فعلنا ما اقترحه جي ديبور بأن «ننتج أنفسنا.. ونكف عن إنتاج اﻷشياء التي تستعبدنا».

ما الآلات التي تعمل بها؟ لافتات الشوارع ولوحات اﻹعلانات؟ اﻹنترنت والشبكات الاجتماعية؟ الملابس التي ترتديها؟ محلات الطرق السريعة؟ الهواتف المحمولة؟ مثل أول مخربة قذفت بصندلها الخشبي في آلة المصنع كي تتعطل وتتوقف مؤقتًا فخلف لها ذلك وقتًا حرًا بدلًا من الربح لمديرها، يمكننا أن نعكس هندسة العالم من حولنا. بعد صدور العفو عن الديكتاتوريين الذين أخفوا آلاف المواطنين قسريًا، اتبعت (مجموعة فن الشارع) في بوينس آيرس دروس الفن المفاهيمي، وعلقت لافتات شوارع حقيقية وخرائط للعامة تشير إلى مواقع منازل هؤلاء الجنرالات السفاحين.

عند منعطف القرن الحادي والعشرين، أطلق النشطاء الفنيون على مجموعتهم اسم يو-مانجو كي يقوضوا علامة ملابس «مانجو» التجارية ومن ثم يخلقون تورية تعني «أنا أجرح» في اللغة الأسبانية الدارجة. كان هدفهم أن يعيدوا هندسة التسوق، وأعلنوا أنه «يجب ألا نتخلى عن رغبتنا في اﻷشياء، بل نسرقها». لقد حولوا السرقة إلى فن اجتماعي وماركة تجارية مرغوبة في نفسها، روجوا للقَطْع المعيوب في مؤخرة السروال الجينز، الذي انتُزع منه الجهاز المضاد للسرقة، على أنه أكثر روعة من ماركة ليفايس، وقدموا ورش عمل شاركوا فيها طرق السرقة الناجحة، وصنعوا ملابس وحقائب تستطيع إيقاف إنذارات المتاجر أو لها جيوب كبيرة تختفي فيها اﻷشياء، وحولوا ما يعتبر عادةً غشًا إلى عرض كرنفالي يشكك في الاستهلاك الجماهيري. عندما عُرض أحد أثوابهم المسروقة في متحف برشلونة للفن الحديث، انقلب بيروقراطيو المدينة حانقين.

في نفس الوقت في برلين، أعلن أعضاء مجموعة أومزمومست (وتعني مجانًا) حملة دعائية مستعملين ملصقات ومنشورات تبدو رسمية تعلن عن دخول مجاني لمتحف فني «عام» تم تعيين رسم لزيارته مؤخرًا. وفي الولايات المتحدة، اشترى مركز السحر التكتيكي عربة آيس كريم وحولها إلى آلة لتوزيع اﻷدبيات الراديكالية (بجميع النكهات بالطبع) وأقنعة الغاز واﻵيس كريم اللذيذ في المظاهرات.

ما اﻵلة ما بعد الرأسمالية التي تنتظر تخيلها داخل عقلك؟

 

صمم اعتراضًا

خلال النصف اﻷول من القرن العشرين، منح بعض الروس لقب الفنان ﻷنفسهم بصفتهم بنائين ومهندسين. وحاولوا أن يتخيلوا أشياء ويصمموها كي تؤجج مشاعر وعلاقات اجتماعية غير التي تثيرها الرأسمالية. أعلن كازيمير ماليفيتش قائلًا، «أنت أيها الشاب الجريء.. امسح عنك لمسة السلطات المهيمنة، نظف العالم وقابله وابنه بوعي يومك». لكن سرعان ما سحقت سلطات الدولة الماركسية اﻷرثوذكسية إبداع روحه وروح زملائه الحرة، وتبع ذلك اعتقالات الجولاج والانتحارات، فلم يبق من كل ذلك سوى هامش مُقبض في تاريخ الفن، لكن فكرة إعادة تصميم اﻷشياء لم تذبل أبدًا.

صُنعت أقنعة متعددة الاستخدامات من أجل فعالية لندن أثناء المهرجان العالمي ضد الرأسمالية في عام 1999، الذي هز الأحياء المالية حول العالم. وقد جعلت تلك اﻷقنعة التي جمعت بين خاصية الاختباء من كاميرات المراقبة التلفزيونية وشق الجموع من أجل إفزاع الشرطة الحفل جميلًا ومؤثرًا. وفي أثناء التظاهرات الحالية في روما، أحضر الطلاب دروعًا مصنوعة من أغلفة الكتب ملصقة على أجسادهم من أجل أن يدفعوا عن أنفسهم ضربات هراوات الشرطة. حتى الثقافة نفسها أظهرت مقاومة ضد سياسة تخفيض اﻹنفاق.

أثناء احتجاجات حملة التغير المناخي في لندن في عام 2007، ظهرت دروع طُبع عليها صور ضوئية كبيرة لوجوه لاجئي التغير المناخي. التقطت كاميرات التلفزيون الشرطة بينما تضرب تلك الوجوه بهراواتها من أجل احتواء الجماهير. يمكن لصور إعادة الهندسة تلك أن تصبح فعالة بصورة مباشرة وكذلك تصبح ذات قوة رمزية. ففي منتصف التسعينيات في لندن، ابتكرت حركة استعادة الشوارع  «المتراس الذكي»، وهو عبارة عن ثلاثة أعمدة حاملة تشكل مثلثًا يقف أعلاها متظاهر رشيق. أغلقت تلك المثلثات الطرق أمام السيارات، لكنها أتاحت عبورها للناس.

في الشتاء الماضي، عمل مختبر الخيال الانتفاضي مع حملة المناخ وجمعوا معًا فنانين ومهندسي دراجات وميكانيكيين وفلاسفة كي يعيدوا تخيل طريقة (إساءة) استخدام العجلة من أجل العصيان المدني (كانوا قد فوضوا من قبل مركز كوبنهاجن للفن المعاصر في البداية، لكن المركز أخلى مسئوليته عندما اتضح ما الذي يقصدونه حقًا بكلمة «العصيان المدني»). ابتُكرت التصميمات في ورش مفتوحة في جاليري أرنولفيني في بريستل، ثم انتقل المشروع إلى مؤتمر التغير المناخي في كوبنهاجن حيث تبدلت مئات من دراجات المدينة المهجورة. كان هناك حشد منظم من الدراجات الطويلة التي رُبطت إلى بعضها كي تحمل منصات عليها أجهزة عرض وحمامات وأشخاص، وأخرى تحمل مكبرات صوت تذيع بصوتٍ عالٍ تجهيزات صوتية تلفزيونية غريبة بين الجموع السائرة، والدراجات التي أضيف إليها إضافات بسيطة حتى يمكن أن تتصل ببعضها فتشكل متاريس مفاجئة.

طقوس الاحتجاج القديمة المملة سهلة الاحتواء، لكن يمكنها أن تخرج عن السيطرة ببعض الخيال المطبق في تصميم الاعتراض.

 

(إساءة) تأدية الدور

 

لا أحد يعلم ما الذي يمكن أن يفعله الجسد، وليس العصيان المدني سوى ذلك: إساءة ممارسة الهوية المدنية. المفاجأة والغرابة أحد أكبر أسلحتك، إذن كن مشاغبًا[3]. في مطلع الستينيات، انتقل البروفوس (المشهورين بابتكار الشيء الذي نعرفه اﻵن باسم دراجة بوريس، فقد كانوا يتركون دراجاتهم المطلية باﻷبيض في جميع أنحاء المدينة للاستخدام المجاني) من اﻷنشطة الفنية إلى اﻷنشطة السياسية، وأشاعوا التجريب المبدع في شكل التظاهرات الجماهيرية، مثل الاعتصام بادعاء المشاجرة والموت وتبادل القبلات وسب الشخصيات العامة والمشاهير والتجمعات المفاجئة وغيرها. تلك هي العروض المتمردة التي ترفض أن تؤطر على أي مسرح.

ما نوع العلاقات التي يمكنك أن (تعيد) تأديتها في لحظات الشجاعة؟ عندما رفضت روزا باركس أن تتخلى عن مقعدها في الباص لشخص أبيض البشرة كانت (تسيء) تأدية دور «الملونة» المفروض عليها. وعندما وضع جريجوري جرين لوحة إعلانات عليها وصفة صناعة القنابل (أزالتها الشرطة سريعًا بعد ذلك)، كان بذلك (يسيء) تأدية دور الفنان العام. وعندما ادعى أعضاء «ياس مين» Yes Men أنهم ممثلو منظمة التجارة العالمية كي يحضروا مؤتمر النسيج الدولي، بدا سوء أدائهم «حقيقيًا» حتى نفخوا بالونًا على صورة قضيب ذهبي ضخم حينما هرَّجوا ساخرين من قسوة مصانع النسيج المستغلة.

ليس النشاط السياسي الفني مختلفًا عن مهرج المهرجان التقليدي، فأنت الذي تقف بين العوالم والهويات، وبين ادعاء الشرعية وانتزاعها، لست بفنان ولا بناشط سياسي بل كلاهما، تقاوم وتبدع على التوازي. قوة العمل في الخلفية تقدمت إلى الأمام، حين جمع جيش المهرجين السري الثوري (سيركا) بين العصيان المدني وفن التهريج القديم. استعملت السيركا سلاح السخرية واﻹرباك هادمين بذلك شخصية المهرج المنفصلة عن المجتمع بحلقة السيرك ومتحررين من دور المتظاهر العقلاني الجاد. أثناء حرب العراق، تحرك مهرجون مدربون يرتدون بزات قتالية عسكرية في مسيرة نحو مكاتب التطوع العسكري طالبين الالتحاق بالجيش، فأجبروها على اﻹغلاق بغبائها وأقاموا خارجها طاولات بالية للالتحاق بالسيركا.

أما في أثناء أعياد الميلاد المجيد في لندن الباردة في نهاية الستينيات، ارتدى أحد أعضاء مجموعة كينج موب زي بابا نويل ووزع هدايا «مجانية» على اﻷطفال في أقسام محلات سليفريدجز، لم يمض وقت طويل حتى قُبض عليه وانتزع رجال الشرطة اﻷلعاب من أيدي اﻷطفال المذهولين.

وبعد عقد في إيطاليا وهي على حافة الثورة، انضم المطارنة الهنود لمسيرات في شكل سهم حاملين فؤوس مطاطية بينما استخدموا ثيابهم من أجل أن يبتكروا مطالب ساخرة «كنائس أكثر تعني منازل أقل». كما أيضًا قاموا بأنشطة «تخفيضات ذاتية»، حيث قرروا أسعار البضائع التي يجب أن يبيع بها الباعة ورفضوا دفع أسعار المتاجر المعتادة، وذلك كوسيلة لمحاربة إجراءات التقشف.

ومؤخرًا في الذكرى السنوية اﻷولى لانتفاضة اﻷرجنتين الشعبية في العشرين من ديسمبر 2002، أعلنت يو مانجو حفلًا لرقص التانجو في برشلونة. يبدأ الحفل بزوجين متأنقين يرقصان التانجو حول فروع سلسلة محلات كارفور في ذروة حمى التسوق في أعياد الميلاد المجيد. يلتقط الزوجان عند كل انحناءة مدروسة زجاجة شامبانيا ويأخذانها خارج المحل. صور ناشطون إعلاميون المشهد وعرضوه مباشرة على حوائط الفروع من الخارج، بينما تجمعت الجماهير لمشاهدته. في اليوم التالي، أخذت زجاجات الشامبانيا إلى فروع كل البنوك المسئولة عن اﻷزمة الاقتصادية في اﻷرجنتين كي يتناولوا إفطارًا فوضويًا مرتجلًا في ردهاتها.

هناك أشياء يريد جسدك أن يفعلها، أشياء تعلم أنها صحيحة، لكن المعايير الاجتماعية تنجح في فرض «السلوك الجيد» الصارم والمتزمت على أجسادنا. تعني (إساءة) التصرف ببساطة أن يكون لدينا الشجاعة في أن نترك أجسادنا تفعل ما تريده (تعني كلمة الشجاعة اﻹنجليزية حرفيًا في الفرنسية «ما يصدر عن القلب»).

 

 

ابدأ صغيرًا لكن فكر باتساع

من السهل أن نشعر بالعجز تجاه تعقيدات العالم، وأن نشعر أن لا شيء مما نفعله سيحدث فارقًا. يريد أولئك من في السلطة أن نشعر ذلك، مع أنهم يميلون ﻷن يكونوا اﻷقلية. لكن إذا ما نظرنا إلى التاريخ، سنرى أن كل حركة وكل تحول في المجتمع يبدأ بمجموعة صغيرة من اﻷصدقاء لديهم فكرة تبدو مستحيلة التحقق في زمانهم.

إن من حلم بفكرة حركة إلغاء العبودية في المملكة المتحدة كانوا مجموعة صغيرة من المجتمعين في متجر كتب صغير في قلب اﻹمبراطورية البريطانية. وبعد خمسة وعشرين عامًا أقر البرلمان قانونًا ضد تجارة العبيد، وفي خلال عقدين تم إلغاء العبودية رسميًا، وهذا شيء كان ليبدو طوباويًا عندما جلس بضعة أصدقاء حول طاولة كي يخططوا للأمر. وعندما ضرب رجال الشرطة عشرات من نشطاء حقوق المثليين وقبضوا عليهم في ميدان ترافلجار في 1965، لم يكن لديهم أي فكرة أنهم سيشهدون عشرات اﻵﻻف من الناس يعبرون نفس الميدان في مسيرة فخر للمثلية تضم رجال شرطة معلنين مثليتهم وأعضاء برلمان. أما مجموعة الفنانين البولنديين التي تُدعى البديل البرتقالي فكانت أول من أطلقت الشرارة التي أشعلت برميل بارود الحركات التي أسقطت حائط برلين. فقد قرروا في إحدى الليالي تحت تأثير عدة مواد مخدرة أن يطالبوا بتجمع »اﻷقزام الخرافية« من أجل المطالبة بحقوقها. كانت التظاهرات محظورة في بولندا تحت الحكم العسكري، لكن عندما واجه الجنود آﻻف الشبان يرتدون قبعات أولئك اﻷقزام البرتقالية، لم يدروا ما الذي عليهم فعله، ولم يستدع الضباط الدبابات للتدخل، ولأول مرة منذ إعلان الحكم العسكري، استعاد جمهور من الناس الساحات العامة وقضوا وقتًا رائعًا فيها واستطاعوا أن ينشروا شعورًا بالثقة بصورة واسعة وكبيرة. وفي خلال سنوات قليلة كانت أوروبا الشرقية كلها تتظاهر في الشوارع.

يجيد النشطاء الفنيون إيجاد نقاط الوخز، أي تلك الشقوق الموجودة في النظام التي يمكن اختراق فتحاتها. فكما تشرح منظرة النظم دونيلا ميدوز في مقالها »نقاط النفوذ: أماكن للتدخل في النظام« أنه من النادر أن توجد سلاسل خطية من المسببات في اﻷنظمة المعقدة، لكن هناك أسباب عديدة حيث »تَحَوُّل شيء بسيط يمكن أن ينتُج عنه تغيرات عظمى في كل شيء«. من بين اثنتي عشر نقطة أحصتها صرحت أن أكثر نقاط ثلاث نافذة هي هدف النظام، والنموذج المستخدم لتصميمه، والأهم هو قوتنا على العلو على هذا النموذج. ما عنته هو التفكير الطوباوي وتقديم مجموعة جديدة من القيم وتمكين الناس باﻷمل والثقة! ثلاثة أشياء تمثل الإستراتيجيات الرئيسية للنشاطية الفنية.

عادة ما تعني البدايات الصغيرة واتباع خطوة تلو اﻷخرى أنه يمكن التعلم من أخطائنا، لكن بمجرد أن نحوز الثقة فاﻷمر يستحق المخاطرة بأشياء أكبر. فمثلما قررت جماعة قراصنة الفضاء بعد شرب كؤوس من البيرة أن يشتروا دبابة من أجل التظاهر ضد أكبر معارض اﻷسلحة في أوروبا في موانئ لندن مؤخرًا، وأقاموا طاولات في شارع بريك لين الشهير في الناحية الشرقية من لندن معلنين »نحن نريد دبابة«، وباعوا قمصانًا من أجل جمع المال. ثم أخبروا شبكة سكاي نيوز في مؤتمر صحفي بعد ثلاثة أشهر أنهم تعبوا من تضييق الشرطة عليهم وأنهم سيحضرون دبابة في التظاهرات المضادة لمعارض اﻷسلحة. وبعد أيام، فاجأوا الجميع بظهور دبابتين، وليست دبابة واحدة، لكن هذه قصة طويلة..

 

 

استعمل فرشاتك مستخدمًا القانون

كل شيء نعتبره من المسلمات: نهاية اﻷسبوع وحقوق المثليين ومنع الحمل وارتداء النساء للسراويل والحق في اﻹضراب والتنظيم النقابي وطباعة منشورات مستقلة، كل تلك اﻷشياء وأكثر تحققت بفعل العصيان وبكسر الناس للقوانين التي شعروا أنها غير عادلة. يؤكد أوسكار وايلد في مقاله «روح اﻹنسان في ظل الاشتراكية»، الذي يتخيل فيه مستقبلًا للعالم بدون حكومة، حيث يصبح الجميع أحرارًا في أن يصبحوا فنانين لحياتهم الخاصة، أن «من وجهة نظر أي قارئ للتاريخ، العصيان هو فضيلة اﻹنسان اﻷصلية، فإن التقدم لم يتحقق إﻻ من خلال العصيان والتمرد». لقد علم أنه سيصبح حرًا بحق إذا ما اتبع أكبر رغباته، حتى لو استطاعوا أن يحبسوه مؤقتًا في السجن.

عندما تجرم الشرطة واﻹعلام عصياننا، «فليس علينا أن ننسى مطلقًا أن كل ما فعله أدولف هتلر في ألمانيا كان قانونيًا وكل فعل قام به رجال المقاومة اعتبر غير قانوني»، مثلما يذكرنا مارتن لوثر كينج في رسالته التي كتبها من محبسه في السجن. دائمًا ما كسر الفنانون القوانين، وليس قواعد الفن فحسب. أثناء قداس عيد الفصح في كاتدرائية نوتردام بباريس في 1950، تنكر اثنان من الشعراء الحرفيين برداء القساوسة واعتلوا المنبر وأخذوا في إلقاء موعظة في الكاتدرائية المزدحمة، كادوا أن يُقتلوا بأيدي المصلين بعدما أعلنوا أن «اﻹله مات». وبعد عقد، أصدر صانع المقالب الشاعري آبي هوفمان كتابًا بعنوان «اسرق هذا الكتاب».

أيضًا ذهب عشرات اﻵف إلى متاجر الكتب وفعلوا ما يلي: جمعوا كتبًا أصبحت أدلة لجيل الستينيات وصاغوا قائمة باﻷفعال المبدعة وطرق العيش الحرة. أما مجموعة مسرح الاضطراب اﻹلكتروني فقد طورت برنامجًا في أواخر التسعينيات يسمح بعمل «اضطرابات افتراضية». يستطيع عشرات اﻵلاف من مستخدمي الانترنت بدون أي مهارات معينة في الاختراق أن يدخلوا موقعًا يستحق الاعتراض ويقطعوا الولوج إلى خوادمه باستخدام إدخال أمر رئيسي بسيط.

تحدث أفضل المفاجآت عندما يكسر القانون من أجل التشديد على المظالم ثم تبرئ المحكمة «كاسري القانون». قامت مجموعة من النساء من حركة بلوتشيرز المسيحية المضادة للأسلحة النووية بالسير الهادئ نحو قاعدة عسكرية وأحدثت خسارة تقدر بعشرة ملايين جنيه إسترليني في طائرة حربية مقاتلة كان يجب نقلها إلى إندونيسيا كي تضرب المدنيين في تيمور الشرقية. أحطن أنفسهن بالزهور وتركن كاميرا فيديو في كابينة القيادة (دليل إدانة في مسرح الجريمة) كي تسجل استعمال الطائرات ضد القرى، ثم انتظرن القبض عليهن. برأتهن لجنة المحلفين عندما ظهرن بعد أشهر في المحكمة ﻷن جريمتهن منعت جريمة أكبر (وهي اﻹبادة) من الحدوث. أيضًا وقعت حاﻻت أخرى مع النشطاء المناخيين عند إغلاق محطات طاقة الفحم، ورأت المحكمة تلك اﻷفعال أنها تمنع الجريمة الأكبر للتغير المناخي. فلا تخف من القانون، فقط اعرفه واستخدمه بحكمة، وتذكر أن اﻷشياء التي تعتبر أنشطة يومية عادية كانت حقوقًا يطالب بها الناس وحصلوا عليها من خلال كسر قواعد زمنهم.

 

 

إنه شيء جميل

 

قد نبدو عتيقين إذا ما انحزنا ورفضنا حالات ما بعد الحداثة الشبابية اللامبالية المتهكمة. وربما يصفنا البعض بأننا رومانسيون سذج وحالمون طوباويون، لكننا نعرف أن الطريق المضمون لتقليص ما هو محتمل هو قصر مطالبنا على ما يبدو »واقعيًا«، كما نعرف أيضًا أن »الاعتراض جميل« كما قالت مجموعة الفن الحر، فهو جميل ﻷنه يخترق روتين الفضاء والزمن، ويسمح للامتخيل بالنمو، وﻷن اﻷمل كامن في قلبه، أمل أن يتوحد الحلم والفعل، مثلما أدرك المواقفيون ذلك بعمق.

إذا كانت غاية علم الجمال أن تفتح حواسنا وأجسادنا ووجهات نظرنا على العالم، إذن لن نأخذ وقتًا كي ندرك أن هذا العالم غير منطقي. لقد أسرت الرأسمالية الجمال والخيال، ونحن نحتاج إلى استعادتها من أجل الحياة لا الربح.

إن جمال الاعتراض لا يكمن ببساطة في صورته والمرح والبهجة الذي يولده في أجسادنا، لكن يكمن بالقدر نفسه في نجاحه. ولا تكمن المقاومة المبدعة ببساطة في تصميم حيل بصرية أخاذة سيلتقطها اﻹعلام لاحقًا، بل هي أكثر من ذلك، فهي تكمن في جعل اﻷشياء تنجح، وتزيين المواقف التي تخرب ميكانيزمات السلطة وترينا قوتنا الخاصة وقدرتنا على التواصل واﻹبداع. يكمن جمال الاعتراض في كفاءة عمله، وليس هناك شيء أكثر جمالًا من انتصاره.

 

شكرًا إلى جميع أعضاء فريق مدارس الفنون المحتلة والتي سيتم احتلالها قريبًا، الذين ألهمونا إخراج هذا العمل.

إنتاج مختبر الخيال الانتفاضي، لندن، ديسمبر 2010

www.labofii.net


 [1]  البوك بلوك: هي سلسلة من الدروع المصنعة منزليًا تبدو في صورة أغلفة كتب تستخدم في التظاهرات كي تحمي المتظاهرين من عصي رجال الشرطة وهراواتهم، كما ترمز إلى حاجة الثقافة أن تدافع عن نفسها.

 [2]  رواية أطفال لكينيث جراهام.

[3]  ACT UP  في اﻷصل وتعني اختصارًا اسم رابطة أمريكية لدعم مرضى اﻹيدز AIDS Coalition to Unleash Power  وهي مجموعة مناصرة دولية تعمل على التأثير على حياة المصابين بمرض اﻹيدز عن طريق توظيف التشريع والسياسات والبحث الطبي كي تساهم في القضاء على المرض نهائيًا. أسست الرابطة في مارس 1987 في المركز المجتمعي لخدمة المثليين والمثليات تحت شعار «الصمت يساوي الموت»، وقد صنفت بصفتها مجموعة أناركية تعمل وفقًا للسياسات الديمقراطية القاعدية.