" الحالمون بالممكن والمنطقى القريب يثيرون شفقتى أكثر من الحالمين بالبعيد والغريب. الحالمون بالكبير، هم إما مجانين يؤمنون بما يحلمون محققين بذلك سعادتهم الخاصة وإما هذيانيون بسطاء ممن يمثل الهذيان بالنسبة إليهم موسيقى روحية تهدهدهم بدون أن تقول لهم شيئا. لكن من يحلم بالممكن لديه دوما الإمكانية الواقعية لخيبة الأمل الحقيقية. لا يمكن أن يؤثر فىّ كثيرا لو تخليت عن أن أكون امبراطورا رومانيا، لكن يمكن أن يؤلمنى عدم قدرتى على محادثة الخياطة التى تجتاز، حوالى الساعة التاسعة صباحا، الزاوية اليمنى من الشارع. الحلم الذى يعدنا بالمستحيل يحرمنا منه بمجرد الاستسلام للحلم. لكن الحلم الذى يعدنا بالممكن يندرج فى الحياة الفعلية ويفوض لها إمكانية تحقيقه، الأول يحيا منفصلا ومستقلا؛ الثانى خاضعا لاحتمالات الحدث."
" لا أنام إلا عندما أحلم بما لا وجود له، وأستيقظ فقط عندما أحلم بما يمكن أن يوجد."
***
" تجاوزت منعطف الطريق، كن فتيات كثيرات. مغنيات أتين عبر مسيرهن، سعيدات كن من خلال نبرة أصواتهن. لا أدرى ماذا سيصرن. أصغيت للحظة إليهن من بعيد، بدون إحساس خاص. أحسست بمرارة فى القلب لأجلهن.
أللمستقبل الذى ينتظرهن؟ ألأجل لا وعيهن؟ لا ليس لأجلهن مباشرة، من يدرى؟ ربما لأجلى أنا فحسب."
***
" لم يكن لدىّ أبدا فى أى وقت من الأوقات من يمكن تسميته بـ (المعلم). لم يمت لأجلى أى مسيح. لم يدلنى بوذا على الطريق. فى أعلى أحلامى ، لم يتجل أى أبولو أو أثينا كى ينير لى الروح."
***
" دائما عندما يحدثنى أحدهم عن أحلامه أفكر فيما لو لم يكن قد فعل شيئا آخر غير الحلم!"
***
" كونى لا أحد فى العالم هو الميتا فيزيقا برمتها."
***
" (أنا) بحجم ما أراه.. لا بحجم قامتى."
***
" علىّ أن أحس دائما مثل الملاعين الكبار، أن للتفكير أفضلية دائمة على العيش."
***

" إن الطيبة هى محض نزوة مزاجية.. لا يحق لنا أن نجعل من الآخرين ضحايا لنزواتنا."

***

" تتعبنى الأشياء كلها، حتى تلك التى لا تتعبنى، مسراتى مؤلمة كلها مثل آلامى.

ليتنى كنت طفلا يضع مراكب من ورق فى بركة إحدى الضيعات الريفية بمظلة خشنة من تشابكات عريشة تصنع فتحات من ضوء وظل أخضر فى الانعكاسات المعتمة للماء الضحل.

بينى وبين الحياة بلور رقيق. ولست بقادر على مسها، بسبب رؤيتى وإدراكى الجليين جدا لها.

أو علىّ أن أعقلن كآبتى؟ لأجل ماذا، طالما العقلنة تتطلب مجهودا؟ من هو حزين ليس بمقدوره بذل المجهود.

لست بقادر على التخلى عن تلك الحركات المبتذلة الدالة على الحياة والتى طالما رغبت فى التخلى عنها. التخلى يحتاج إلى جهد، وأنا لا أمتلك الروح المحفزة على بذل الجهد.

كم من مرات أحزننى ألا أكون أنا مشغل تلك السيارة، أو سائق هذا القطار؛ إن حياة أى شخص آخر عامى مفترض، تغرينى بأن أرغب فى أن تكون حياتى فقط لأنها ليست بحياتى.

وخوفى من الحياة لا يماثل خوفى من الأشياء. إن مفهوم الحياة ككل لا يثقل على كاهل تفكيرى.

أحلامى عبارة عن ملاذ بليد. مثل مطرية موجهة للاحتماء من شعاع.

لكم أنا خامد، كم أنا مسكين، لكم أفتقر إلى الحركات و الأفعال.

كل سبل أحلامى ستقود إلى تجليات الغم.

حتى أنا الحالم دوما، تأتينى بعض اللحظات التى يهرب الحلم منى فيها؛ حينئذ تبدو الأشياء واضحة بالنسبة إلى، فينزاح ضباب ما يحيط بى. وكل النتوءات المرئية تجرح بحدة جلد روحى. كل القساوات المرئية تؤذى ما بداخلى من قساوات.

كل أعباء وضغوط الأشياء المرئية تثقل على من داخل الروح.

حياتى هى جَلَدى الدائم بحياتى نفسها."

***

" سعداء هم أولئك الذين يتوصلون إلى ترجمة معاناتهم إلى الكونى. أنا لا أعلم حالة العالم أحزين هو أم مريض ولا يعنينى ذلك لأن ما يعانيه الآخرون يبدو لى مضجرا وغير جدير بالاكتراث."

" ولست بمتشائم. لست أشكو رعب الحياة. أشكو رعب حياتى وحدها. الحدث الوحيد المهم بالنسبة إلىّ هو حدث وجودى على قيد الحياة."

***

" الروح الإنسانية هى ضحية حتمية للألم، تقاسى ألم مفاجأة الألم، حتى مع ما تتوقعه من آلام. الرجل الذى يتحدث طوال حياته عن التقلبات الأنثوية كأمور طبيعية وأصلية، سوف يجرب كل ألم المفاجأة عندما يجد نفسه مخونا فى الحب... والآخر الذى كل الأشياء بالنسبة إليه ألم وفراغ، سيشعر كما لو أن صاعقة مفاجئة أصابته عندما يكتشف أن الآخرين يعتبرون ما يكتبه سخافة. أو أن مجهوده فى التعليم عقيم أو أن تأثير عاطفته زائف.

لا ينبغى الاعتقاد بأن الرجال الذين يتعرضون لهذه البلاوى، ولما يماثلها، قد كانوا قليلى الصراحة فيما قالوه، أو كتبوا عنه، وأن تلك المصائب كانت متوقعة ويقينية. لا وجود لأى علاقة بين صراحة التأكيد الذكى المعقلن وفطرية الانفعال التلقائى. ولعل الروح إنما تتلقى مفاجآت من هذا النوع، فقط لأن الألم لا ينقصها، ولأن الخزى لا يترك لها مجالا للمصادفة، ولأن الغم لا ينقصها كجزء معادل من الحياة. كلنا متساوون فى مقدرتنا على الخطيئة وعلى المعاناة. وحده العديم الإحساس لا يصيبه شيء؛ والناس الأكثر سموا، والأكثر نبالة، الأكثر فراسة، هم الذين يقعون فريسة لما توقعوه واحتقروه. وهذا ما يدعى الحياة."

***

" عليك بتأجيل كل شيء. لا ينبغى أبدا أن تعمل اليوم ما يمكن أيضا أن تؤجل عمله غدا.

ليس حتى ضروريا عمل شيء. غدا.

لا تفكر أبدا فيما ستفعله. لا تفعله.

عش حياتك. لا تدعها تعيشك.

فى الصواب وفى الخطأ، فى الرخاء وفى الشدة، إعرف كينونتك الخاصة. فقط بإمكانك أن تفعل ذلك حالما، لأن حياتك الواقعية، حياتك الإنسانية هى تلك التى ليست حياتك وإنما حياة الآخرين. هكذا تستبدل بالحلم الحياة وستحرص فحسب على أن تحلم بإتقان. فى كل أفعال حياتك- الواقعية، منذ الولادة حتى الموت، أنت لم تفعل شيئا: كنت مفعولا به؛ أنت لم تعش: كنت معيوشا فحسب.

تحول بالنسبة إلى الآخرين أبا هول سخيفا. أغلق على نفسك، لكن بدون صفق الباب، فى برج من عاج هو أنت ذاتك.

وإذا قال لك أحدهم إن هذا الوضع مصطنع ولا معقول، لا تصدقه. لكن كذلك لا تصدق ما أقوله لك، لأنه لا يجب تصديق أى شيء.

ازدر كل شيء، لكن على نحو لا يسبب لك معه الازدراء أى مضايقات. لا تعتبر نفسك أعلى من ازدرائك. فن الازدراء يمكن فى هذا بالذات."

 

فرناندو بيسوا

كتاب اللا طمأنينة

ت: المهدى أخريف