المتروصوفيا: الفلسفة والمدينة
مقال لديفيد كيشيك*
عن النيويورك تايمز، 6 يوليو 2015
ترجمة يحيى محمد
ديسمبر 2018
الترجمة خاصة بـ Boring Books
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
*ديفيد كيشيك، أستاذ مساعد للفسفة بكلية إمرسون، كتابه الأخير «مشروع مانهاتن: نظرية مدينة».
***
 
عن النيويورك تايمز

أين الفلسفة؟ ليس هذا خطأ كتابيًا. فسؤال «ما الفلسفة؟» هو الأكثر انتشارًا، لكن نادرًا ما نتساءل أين هي. من الناحية المادية لنتخيل فيلسوفًا في مكان عمله، أين يحدث ذلك المشهد؟

تجبرنا النظرة النموذجية  للفلسفة على اعتبارها نشاطًا منفردًا يُمارَس في أماكن طبيعية منعزلة؛ كوخ مجاور لخليج، أو أرض خلاء وسط غابة، أو كهف على منحدر جبلي، أو في هذه الأيام كرسي هزاز تحت سقيفة في مدينة جامعية عتيقة. بالتأكيد كان بعض المفكرين العظام مثل فتجنشتاين وهايدجر ونيتشه مسؤولين عن الترويج لتلك الروح الرعوية، لكن حتى الإلمام السطحي بتاريخ الفلسفة الغربية يكشف أن المدينة شرط ضروري فعليًا لإمكانية القيام بالعمل النظري، الذي يمكن إكماله لاحقًا في مكان أقل صخبًا.

ربما تكفينا الإشارة ﻷهمية أثينا المحورية لميلاد الفلسفة القديمة، مع سقراط وأفلاطون وأرسطو، أو الطريقة التي بدأت بها الفلسفة الحديثة في لندن بيكون، وباريس ديكارت، وأمستردام سبينوزا، أو في أعمق جذور البراجماتية الأمريكية في نيويورك؛ حيث قضى وليام جيمس أعوامه الأولى طفلًا فضوليًا، وقضى جون ديوي أعوامه الأخيرة أستاذًا مرموقًا.

وليست تلك الملاحظات البيوجرافية تافهة، خاصة إذا أقررنا بأحد أكثر المعتقدات البراجماتية جوهرية: أن الأفكار لا تعمل في الفراغ، إنما تستجيب للكائنات البشرية في مواقف محددة وتعتمد عليها. لا تستمر الأفكار بسبب منطقها الثابت لكن لأنها مدمجة في البيئة الاجتماعية الحاضرة.

هكذا يعتبر الحديث عن «الفلسفة المدينية» مُضَلِّلًا إلى حد ما، أو زائدًا عن الحاجة، أليست الفلسفة مدينية بالكامل فعلًا؟ أيمكنها ألا تكون كذلك؟ تفترض الفلسفة المدينية أن هناك أنواعًا من الفلسفة ليست مدينية، أو أنها في حد ذاتها فرع من مجال أوسع.

حينما تظهر الحاجة للإشارة لشيئين باعتبارهما واحدًا، فإننا عادة ما نخترع التراكيب؛ كلمات مثل الأعدقاء (Frenemies – الأصدقاء/الأعداء) وبرانجلينا (براد بيت وأنجلينا جولي). وربما يستطيع مصطلح المتروصوفيا أن يعبر بصورة أفضل عن العلاقة بين الخبرات المتروبوليتانية والفلسفية، فالمراد به أن يساعدنا أن نرى المدن لا كمراكز اقتصادية فقط إنما كينابيع للتأمل المجرد أيضًا.

*

بصورة مثيرة للاستغراب، كانت الفلسفة الحديثة غير عابئة بنشأة المدينة الحديثة.

في القرن الثامن عشر، حينما بدأت باريس في التشكل كعاصمة للعالم، رَعَت أيضًا الشخص الذي سيثبت أنه أكثر نقادها حماسة. وصل جان جاك روسو هناك شابًا دون نقود أو مكانة أو تعليم أو سمعة تُذكر، لكنه سرعان ما بدأ في تجميع الدعوات لبعض من أكثر الصالونات الأنيقة، حيث صادق عددًا من أكثر مثقفي عصره شهرة، وبزغ نجمه خلال السنين القليلة التي قضاها في باريس.

ومع شهرة روسو أتى كذلك نفوره العميق من المدينة: «أسلوب الحياة في باريس، بين المدعين، كان كريهًا بالنسبة لي. كانت عصابات رجال الأدب، وافتقار كتاباتهم للصراحة، ومسحة الأهمية التي أضفوها على أنفسهم في العالم، بغيضة بالنسبة لي. لقد وجدت القليل من الدماثة وانفتاح القلب والصراحة في التواصل حتى مع أصدقائي. ومع شعوري بالقرف من حياة التشوش تلك، بدأت أتمنى اللجوء إلى الريف بإخلاص».

وفي خطاب لديني ديدرو أنهى فيه صداقتهما، يقول روسو: «يتعلم الناس في الريف أن يحبوا الإنسانية ويخدموها، وكل ما يتعلموه في المدينة هو أن يكرهوها».

عَرِف الجميع لمن كان يشير ديدرو حينما كتب لاحقًا «فقط الخبيث يعيش وحيدًا»، ومع ذلك كان لروسو الكلمة الأخيرة، بعدما مات كلاهما بوقت طويل، وخسر ديدرو ورفاقه الفلاسفة، الذين مالوا لتقدير مدينتهم النامية، المعركة الثقافية ضد الرومانتيكيين الألمان.

سار الرومانتيكيون الألمان، يتقدمهم الفيلسوف والشاعر يوهان جوتفريد هيردر، على خطى روسو باعتبار الريف جنة عدن التي ستنقذ البشرية من جهنم الحياة المدينية، ونظروا للعبقري المتوحد كمنقذ للجموع. هكذا استطاع رالف والدو إيمرسون أن يسأل قراءه الأمريكيين على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي: «أليس رجل واحد أفضل من مدينة» وبدا أنه غير متهيب من سؤاله، وهو سؤال عبثي بعض الشيء من وجهة نظر المتروصوفيا.

وما كان على المحك في ذلك المسار الفكري ليس مجرد الخيار الإستطيقي المتعلق ببيئة بعض الكتب والأعمال الفنية في القرن التاسع عشر، أو الخيار الأخلاقي المتعلق بالمسكن المفضل لبعض المثقفين المتميزين، لقد كانت المسألة الحقيقية سياسية.

بين المفكرين بداية من روسو وحتى هيجل، لم يسر نقد المدينة جنبًا إلى جنب مع الهوس بالريفي، وعادة ما كانت القومية هي الفكرة الرائدة لمعارضة المدينية، وكانت دولة السيادة الحديثة مركز الاهتمام الفلسفي، بينما لم تُعامَل المدينة المركزية  سوى من منطلق أنها عَرَض جانبي للثورة الصناعية.

كانت الدولة القومية فكرة جديدة حينما عقلن روسو وهيجل وأتباعهما وجودها وتوقعوا صعودها، واليوم تنقسم الأرض كلها تبعًا لأيديولوجيتيهم. لكن ذلك التحول الشامل من النظرية للواقع بعيد كل البعد عن كونه تحولًا سعيدًا. تذكَّر فحسب أنهار الدماء التي تسيل حينما تقف الحدود أو الشعوب في طريق ذلك المشروع السياسي الكاسح.

من المثير ملاحظة كيف استمر روسو بشخصيتيه -المخالف للنسق العام كاره المدينة وكل ما تمثله، والسلطوي الذي رَوَّج للعقد الاجتماعي والإرادة العامة المجسدة في حاكم قوي- في التعبير عن طريقة تفكير المجتمع الحديث وتصرفاته، ومن المهم أيضًا إيجاد طرق لإعادة تقييم هاتين المنظومتين القيميتين.

من الصعب تحديد الفرق بين منطق المدينة ومنطق الدولة. مع ذلك من الناحية الجغرافية عادة ما تكون المدينة رقعة على خارطة الدولة فحسب، أما من الناحية الفلسفية يتباعد الاثنان كل البعد. على سبيل المثال، لاحظ كيف تعمل الدولة القومية الحديثة كصَدَفة ودرع؛ فهي لا تحتوي وتحمي ما هو داخل حدودها من عناصر (مواطنين) فحسب، لكنها تستبعد وتتخلى كذلك عن الآخرين (اللاجئين).

على العكس تميل المدينة للعمل كمنطقة تُيَسِّر الروابط والتعاملات بين كثير من العناصر (الأفكار، والسلع، والمهارات، والأشخاص، والاهتمامات، والثروات، والرغبات، والمدركات، والأيديولوجيات، والحماقات). نظريًا على الأقل، ليست المدينة وعاء للحيوات بل ملتقاها، ويجب ألا نخلط بين ذلك والبوتقة. (فالملتقى يسمح بالاختلافات بين الأطراف المشاركة، بينما تُحَوِّلهُم البوتقة إلى مزيج واحد).

*

يُعامِل كثير من الفلاسفة المدينة بجفاء، لا على أسس سياسية فقط، فالسبب ذو العلاقة الأوثق إبستمولوجي. وعلى خطى كانط، يفضلون التفكير كونيًا أو عالميًا لا محليًا. فوظيفتهم، على حسب افتراضهم، هي فك رموز مبادئ العقل الإنساني التي لا تتغير من مكان لآخر.

ويعتقد عدد من الفلاسفة الجدد، تبعًا لديكارت، أن الفكر منفصل عن الحيز، وأن العقول ليس لها موضع محدد في المكان. على الرغم من أن ديكارت تأكد من أنه يفكر، ظل المكان الذي يفكر بداخله مسألة شك كبير. لذلك يُفَضِّل التفكير الفلسفي أن يلزم الأمان بأن يبقى منفصلًا عن المكان الذي يعيش فيه.

بالتالي كتب ديكارت في خطاب سنة 1631: «في المدينة الكبيرة يشارك الجميع عداي في التجارة، ويلتفت الجميع لتحقيق  المكاسب، لذا يمكنني أن أعيش هنا طوال عمري دون أن يدركني أحد». لكن هل يمنحك فشل ما يحيط بك في إدراكك الحق في أن تفشل في إدراك ما يحيط بك؟

متأخرًا، في السبعينيات، استطاعت حنة آرنت أن تجلس في شقتها في غرب مانهاتن وتتساءل «أين نحن حين نفكر؟» وكانت إجابتها «ليس في أي مكان». كتبت ذلك بعد صدور أعمال عبقرية في الأنثروبولوجيا والنظرية النقدية (من ضمنها أعمال صديقها الحميم فالتر بنيامين) أظهرت حيوية في التفكير محليًا.

على الرغم من فَصل فعل التفكير وموضوع التفكير عن فكرة المكان، يظل الارتباط بين الفلسفة التقليدية والمدينة عميق، وآرنت هي أول من أقرَّت بذلك في دراساتها عن اليونان القديمة. في محاورة «فيدروس» لأفلاطون تأخذ الشخصية الرمزية على سقراط عدم استكشاف العالم خارج حوائط أثينا. أليس من الجميل أن تأخذ حقيبتك وتذهب للتجول سيرًا على الأقدام؟ بدلًا من الرد المحسوب، يجيب الفيلسوف الأول بسرعة: «ليس لدى المشاهد الطبيعية والأشجار ما تعلمني إياه! يستطيع أهل المدينة فقط أن يفعلوا ذلك».

تلك إحدى طرق لاستيعاب الاشتباك العنيف الذي خاضته جماعة سقراط مع السوفسطائيين. بالنسبة لمواطني اليونان بدا العيش في المدينة اليونانية كدرس ممتد لا ينتهي إلا باكتمال العمر، فإنك لا تتخرج  أبدًا من جامعة الشارع. لقد أغضب السوفسطائيون الفلاسفة، أولئك المدرسون الخصوصيون أو مندوبو المبيعات الجائلين الذين غرتهم حكمتهم لدرجة أنهم تعهدوا بتعليم تعقيد الحياة المدينية المبهم لطلبتهم في سبع خطوات سهلة، مقابل المال.

لم يطُل الوقت قبل أن يبلوِّر أفلاطون مواجهات معلمه في الأسواق الأثينية على صفحات كتاب ويُمأسس إرثه من خلال أكاديمية محترمة. ومنذ ذلك الوقت انسحبت الفلسفة تدريجيًا، على وجه العموم، إلى بلاط الأمراء وصوامع الرهبان والأبراج العاجية.

استمر نفي الفلسفة من المدينة يطارد فكرنا المديني حتى يومنا هذا، ويظهر في أكثر الأماكن مفاجأة، بعيدًا عن الأماكن الأكاديمية الاحترافية. على سبيل المثال كان هنري ميلر قد عبَّر عن ذلك بشكل مختصر في أوائل القرن العشرين، حين تحدث عن طفولته في بروكلن: «في الشارع تتعلم الماهية الحقيقية للكائنات البشرية ؛ بخلاف ذلك، أو بعد ذلك، تخترعهم. كل ما ليس متاح في الشارع زائف، ومستنتَج، هذا ما نسميه أدبًا».

وحتى اليوم، في مدينة مثل نيويورك الحالية، ليست هناك حاجة ملحة لسقراط «المعقم» في نسخته الأفلاطونية، ﻷن المدينة في حد ذاتها آلة سقراطية فعالة؛ إنها قاسية، وساخرة، لكنها أيضا آلة طيبة مجهزة لنزع حس الثقة والاعتداد بالنفس، وادعاء سكانها المعرفة الشاملة.


---

اقرأ المزيد: مدن العقل - هارولد بلوم