الديموقراطية، والأناركية، والسياسة الراديكالية اليوم: حوار مع جاك رانسيير
 حوار تود ماي، وبنجامين نويز، وصول نيومان*
عن مجلة أناركيست ستاديز
Anarchist Studies, 16-2. 2008. pp. 173 -185.
ترجمة: أحمد حسان
تُنشَر الترجمة بالتعاون مع صفحة راية التمرد.
يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
* وجَّه المحاورون، وهم من أعلام الأناركية، الأسئلة بالإنجليزية، بينما أجاب رانسيير بالفرنسية.
***
 
جاك رانسيير - Lyoncapitale.fr

في كتاب «سوء الفهم»  Mésentente تُجادل بأن الديموقراطية لا يمكن مأسستها. هل يمكنك توضيح ما تعنيه بذلك ولماذا تعتقد أنها لا يمكن مأسستها؟ (ت م)

 ما أود قوله، هو أنها لا يمكن أبداً مماهاتها مع نسقٍ من الأشكال الدستورية. الفكرة والممارسة الديموقراطية يمكنهما بالتأكيد أن تُلهما وتحفزا أشكالًا دستورية وأنماطَ حياةٍ عامة. لكن هذه الأشكال والأنماط لا يمكنها أبدًا أن تجسدها بالتمام والكمال، لأن الديموسdémos  (الشعب) من فوره مزدوجٌ. فهو، من جهة، المجموع الذي هو مصدر مشروعية السلطة. وبهذا المعنى تشير «الديموقراطية» إلى نسق الأشكال التي تُفَعِّل سلطة الشعب هذه في نصوص، ومؤسسات، وممارسات مؤسسية. يُشير الديموس إلى سيادةٍ معينة، من نفس نوع سيادة العاهل أو «الطبقة الأرقى» (الأرستوقراطية). لكن في نفس الوقت، فإن الديموس هو الذات التي تُدمّر نفسَ فكرةِ السيادة بتدميرها للمبدأ الذي يربطها بميزةٍ نوعية قاصرة على سُكانٍ بعينهم [...] الملك، أو «الطبقة الأرقى»، أو الحكماء أو الكهنة الذين يُفترض أن يحكموا باسم ميزتهم ذاتها. أما الشعب فيحكم باسم هذا الغياب للميزة. هذا هو مبدأ الآرخي [1]: من يحكمون هم من يملكون في ذاتهم المبدأ الذي يمنحهم الحق في ذلك. أما سلطة الشعب، فهي فوضوية في مبدئها، لأنها توكيدُ سلطةِ أي أحدٍ كان، سلطة من لا يملكون لقبًا ليحتلوها. إنها، إذن، توكيدُ اللامشروعية النهائية للسيطرة. ومثل هذه السلطة لا يمكن أبدًا مأسستها. يمكن بالمقابل ممارستها، وضعُها موضعَ التنفيذ من جانب تجمعات سياسية. لكن هذه التجمعات على وجه الدقة تعمل بشكل مُتجاوز [للتخويل القانوني] على المسرح العام الرسمي، الذي هو مسرح سلطة أوليجاركياتٍ صغيرة تجري ممارستها باسم الشعب. الفعل الديموقراطي يتيح تدخُّل ذواتٍ إضافية بالنسبة للشخص البسيط للمواطن الناخب المُمثَّل في النظام المؤسسي، وتتدخل تلك الذوات في مواقع ليست هي مواقع السلطات التنفيذية والتمثيلية (في الشارع، وموقع العمل، والمدرسة، إلى آخره)؛ فتتيح الاستماع إلى أصواتٍ أخرى، وتتيح رؤية أشياءٍ أخرى. ثمة إذن نقشٌ مؤسّسيٌ لـ «سلطة الشعب»،  لكن بدءًا من ذلك ثمة تعارض بين منطقٍ دولتي هو منطقُ تقييدِ تلك السلطة، وخصخصة الشأن العام، وبين منطقٍ سياسي ديموقراطي يستهدف، بالمقابل، توسيع تلك السلطة بواسطة أشكاله الخاصة للفعل.

في كتاب «كراهية الديموقراطية»La Haine de la democratie  تقول إن الديموقراطية فوضوية، بالمعنى المحدد لكونها «لا تقوم على أي أساس سوى غياب كل لقبٍ للحكم». (الترجمة الإنجليزية، صـ 41) فهل ثمة خيوط ضمن التقاليد النظرية الفوضوية في ذهنك هنا، ,إذا كان الأمر كذلك، ما هي؟ (ت م)

 ثمة بالتأكيد رابطةٌ بين مفهومي عن الفوضى وبين التقاليد المناهضة للسلطوية التي تحملها النزعة الأناركية التاريخية. الأن ـ آركية، هي بوجهٍ عام فكرُ لامشروعية السيطرة وممارسةُ وضعِ قُدرةِ أكبرِ عددٍ ممكن موضع التنفيذ. وتجدُ النزعةُ الأناركية العمالية للقرن التاسع عشر جذورها في الممارسات التي ربطت أشكالَ النضال باختراع أشكالٍ لتنظيم العمل والتبادل تتطلع إلى المستقبل. هذه الرابطة بين النزعة الأناركية وبين إظهارِ قُدرةِ أكبر عددٍ ممكنٍ هامةٌ جدًا بالنسبة لي وتتعارضُ مع الميول الأستاذية والعلموية التي أثرت فضلًا عن ذلك على التقاليد الأناركية، بالمنظّرين الذين يزعمون جلب الصيغةِ المناسبة للمستقبل الاجتماعي. وبعد أن قلتُ هذا، يظل بين «نزعتي الأناركية» وبين التقاليد الأناركية اختلافٌ هام في المنظور. فقد ظلت التقاليد الأناركية تميلُ إلى تحديدِ موضع الاضطهاد في الدولة بإقامة تماهٍ بين السياسة وبين الدولة، وإلى معارضتها بحريةٍ تتجسد في المجتمع، في الجماعة الاجتماعية المنتجة. ترتكز النزعةُ الأناركية التاريخية بملء إرادتها على التعارض بين واقع الانتاج والتبادل وبين طفيلية الأشكال الدولتية. وهذه الرؤية بالغة القرب من التعارض الماركسي بين الواقع الاقتصادي والاجتماعي وبين التبدّي السياسي. وتتغذى على مفهومٍ عضوي مُعيّن تكون فيه الخليةُ الاجتماعية بوصفها كيانًا عضويًا حيًا في تعارضٍ مع الاصطناع السياسي. وأنا شديد البعد عن هذه الرؤية الطبيعية النزعة. وما حاولتُ تسليطَ الضوء عليه، هو فوضى متضمّنةٌ في ذاتِ تعريف السياسة وتميِّزها بالضبط عن كل نزعةٍ عضوية. حاولتُ إظهارَ أن في فكرة الحكم السياسي ذاتها، ثمة إحالةٌ ضرورية إلى كفاءةٍ لم تعد كفاءةَ فئةٍ بعينها بل كفاءةِ الجميع. ثمة قطيعةٌ في منطق الأرخي الذي بمقتضاه تكون ممارسةُ السلطة هي ممارسةُ الكفاءة الخاصة لفئة بعينها. ومن المؤكد أن هذه «النزعة الأناركية» الأولية في قلب السياسة يُعاد اكتشافُها باستمرار عن طريق ممارسات الحكم ولا توجدُ الديموقراطيةُ إلا من خلال نشاط ذواتٍ يُعيدون تفعيلها، ويخلقون مشهدًا مشتركًا مختلفًا عن المشهد العام الرسمي.

منذ انهيار الأتحاد السوفيتي واحتضان الرأسمالية في الصين، أدارت الحركات التقدمية، خصوصا في الولايات المتحدة، ظهرها للنظرية الماركسية. وبدأ الكثيرون يجدون جذورا في النزعة الأناركية، في كل من الأناركيين الكلاسيكيين للقرن التاسع عشر والتبديات الأحدث، مثلا في فكر جي ديبور والبيئي موراي بوكتشين. هل ترى أن النظرية الأناركية تقدم إطارًا يمكن ضمن نطاقه إدراك الفكر والعمل السياسيين التقدميين في عالم اليوم المعولم؟ (ت م)

 لا توجد حسب علمي نظريةٌ أناركية تقدم إطارًا شاملًا لفهم العالم وطرق تغييره. والمسألة برمتها هي معرفة إن كان يجب علينا امتلاك واحدةٍ. وقد تذبذبت النزعةُ الأناركية التاريخية بين توجهين أساسيين: فمن جهة، وضعت طاقةَ الابتكار لدي البشر المتّحِدين في مواجهة مخططات التطوّر التاريخي التي قدّمها العلم الماركسي. ومن جهة أخرى، قدّمت نفسها، ضمن التقاليد البرودونية [2]، باعتبارها حاملةَ العلم الاجتماعي الحقيقي، حاملةَ الصيغةِ الاجتماعية للمستقبل الجاهزةِ للتطبيق. ولست واثقا من أن المرجعين اللذين تُورِدُهما يحدّدان حقًّا تقدمًّا بالنسبة لهذا التذبذب التاريخي. إذ أن جي ديبور، برغم كل تهكّمه بشأن ماركسية الدولة، لديه رؤية للصيرورة التاريخية ولدور الطليعة متماشيةٌ تماما مع التقاليد الماركسية. أما موراي بوكتشين، فيبدو لي أنه يُديم الرؤية العضوية النزعة التي عادةً ما ارتبطت بها النزعة الأناركية، الرؤية التي بمقتضاها يكون المجتمع العادل مثل نبتةٍ طبيعية، جيدة التجذُّر في تربتها. ويعني ذلك أيضًا أنه يقدم الحلَ الأناركي باعتباره الصيغةَ التي يُفتَرضُ أن يُشفي تطبيقُها الداءَ الدولتي. لكنني، من جانبي، لا أؤمنُ بصيغ المستقبل الجاهزة للتطبيق. بل أؤمن بأن الأشكالَ الراهنة لمعارضةِ النظام القائم هي التي تُطوِّر الأشكالَ المستقبلية للعيش المشترك. النقدُ الأناركي وأشكالُ التجمع المرتبطة بالتقاليد الأناركية تُضفي بالتأكيد أهميةً جديدة على إفلاس ماركسية الدولة والأحزاب الاشتراكية. لكن ذلك يفترضُ التفكيرَ في ذلك الشيء الذي اعتبرته الأناركيةُ التاريخية متناقضًا: في فكرٍ سياسي للأناركية، في فكرٍ للأناركية باعتبارها ممارسةً سياسية.

بديهي أن أحداث مايو 68 كانت بالغة الدلالة لنقدك الضليع وتكوينك الفكري والسياسي. في غداة العيد الأربعين للأحداث وزعم الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أن ميراث مايو 68 يجب تصفيته، ما هو ميراث الأحداث في رأيك؟ وهل من الضروري الحفاظ على الوفاء لمايو 68 وإذا كان الأمر كذلك، لأي شيء يكون الوفاء من بين الأفعال المتنافرة التي شكلته؟

بالنسبة لي، فإن ميراث مايو 68 هو بكل بساطةٍ ميراثُ السياسة الديموقراطية كما أفهمُها. كان مايو 68 في المقام الأول تأكيدًا لقدرة الجميع على أن يأخذوا في أيديهم مصيرَهم المشترك في مقابل الفكرة التي تمُاثّلُ بين الديموقراطية وبين الإدارة الأوليجاركية للدولة. كان ردًّا مُعمَّمًا على كلِّ أشكال السلطة التي تُبنيِنُ الجسدَ الاجتماعي. ويجب إعادةُ توكيد الطابع السياسي والجماعي لهذا النقد، لأن كلَّ فكرِ العودة إلى النظام في أعوام الثمانينيات يستميتُ كي يُماهي بين النقد المناهض للسلطوية وبين توجّهٍ فردي النزعة لدى شبابٍ راغبٍ في التحرّر من أشكال السلطة التي تمنعُه من التمتّع بكل الوعودِ الجديدة للسلعة وللحياة التي تم تحويلها إلى سلعة. وقد استعاد ساركوزي هذا النقد، لكن يجب أن نرى جيدًا أن من طوَّره بشكلٍ أساسي هم أناسٌ من اليسار: مناضلون خائبو الرجاء حوّلوا آمالهم الخائبة إلى ضغينةressentiment ؛ واشتراكيون في الحكومة متلهّفون على أن يرثوا ميراث سنوات الردِّ مع محو حِدَّته القاطعة؛ وماركسيون أرثوذكسيون أو سوسيولوجيون من مدرسة بورديو، أحنقهم، عام 1968، أن يروا عِلمهم تكنِسُه «إيديولوجيا» الطلبة ويسعدهم بعدها أن يبيِّنوا أن هذا التحريضَ الذي لم يُرخِّص به العِلمُ قد فتح الطريقَ أمام تجديد رأسماليةٍ كانت تُواجه صعوبةُ، إلخ. الوفاء لمايو 68 اليوم يعني الوفاءَ لقوةِ التخريب الجماعي للحركة المناهضة ـ للسلطوية.

في حوار نُشِر في مجلة Artforum عام 2007 بدا أنك تمنح امتيازًا لوضع الفنان بطريقتين: أولًا أن تَشتُت دور الفنان يُشير إلى تحوّلٍ جديد في الأدوار والكفاءات. وثانيًا أن الفنانين، في عملهم، يمكنهم عمل «تعديل في نسيج ما هو محسوس». هل تعتقد أن ثمة أية مواقع أو أشكال أخرى للتوسطagency   يمكنها أن تؤدي مهامًا مماثلة؟ (ب ن)

 أنا لا أمنح امتيازًا لوضع الفنان بوصفه فنانًا. أنا أحاول إعادة تعريف ما يُمكِّن الممارسات الفنية من أن يكون لها دورٌ سياسي. إذ يكون لها دورٌ سياسي بالضبط حين تحطّم النسق القائم لتقسيم المجالات والكفاءات. إن تعديل نسيج ما هو محسوسٌ يعني بالدرجة الأولي هذا القلب للمواضع والقدرات. وهذا ما يحدث حين يشوّش الفنانون الحدودَ التي من المفترض أنها تفصل الاختلاق fiction عن التسجيلdocument ، مثلًا حين يحوِّل فنانٌ مثل بدرو كوستا Pedro Costa  عاملًا مهاجرًا يعاني من البطالة إلى نوع من الملك لير، (Colossal Youth) أو حينما يتناول سينمائيون لبنانيون مثل خليل جُريج وجوانا حاجي توما الحربَ الأهلية والاضطهاد الأجنبي، ليس من خلال حكايات العنف والموت، بل من خلال حكايات فيلم مختفٍ أو أشرطة سيلولويد من المستحيل تحميضها ،(Le Film disparu)  إنهم يشهدون على هذا النحوعلى قدرة اللعب لدى مجموعات آدمية يحبسها المنطقُ السائد في فئة الضحايا الجديرين بالشفقة. وهذا أيضا ما يحدث حين يستنفرُ رجلُ مسرحٍ مثل جون مالبيد John Malpede أعضاءَ جماعةٍ محرومة في لوس آنجلوس كممثلين. هذه ثلاثة أمثلة من بين ألف مثال أخرى. الفضيلة السياسية للفن تعملُ حين يشوِّشُ الحدودَ التي تفصله عن اللاـ فن (وهذا يختلف عن إرادة «تحقيق» الفن بإلغائه، التي ميّزت حقبة المشروعات الطليعية الكبرى). ومن الواضح أنه يمكن إنتاجُ تأثيراتٍ مماثلة في مجالات أخرى تتعلق بتوزيع المعارف أو بإنتاج ونشر المعلومات. وهذا مثلًا ما يجري اليوم مع الإنترنت: انفجارٌ للمنظورات التي في قلبها تجد المعلومات مساراتها. وبالنسبة لي فإن الفعل السياسي ذاته هو نشاطٌ «جمالي» بقدر ما يجعلنا نرى كمسائل سياسيةٍ موضوعاتٍ لم يكن مُعترَفًا بأنها كذلك، حين يجعلنا نسمع أشخاصًاً خارج الحساب، إلخ.

العمال والعمل، أو بصورة أدق، رفض العمال أن يُدرِجوا أنفسهم تحت لقب «العامل»، كانا في مركز عملك. أتساءل ما رأيك في المحاولات القريبة لأضفاء الإشكالية على، أو قلب، النموذج «التقليدي» للعامل، من جانب مفكرين إيطاليين في المقام الأول، من خلال مفاهيم من قبيل  «العمل غير المادّي» أو«التقلقل»؟ precarity

 لقد أصررتُ دوما بالفعل على الاختلاف بين اكتساب الذاتية subjectivation العمالي أو البروليتاري وبين كل أشكال المماهاة identification ، الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو الثقافية للعامل التي كانت تسعى لإحداث تطابقٍ لإمكانيةٍ تخريبية مع مكانٍ معين داخل نمطٍ معين لجهاز الإنتاجي. وكان هذا يعني، بالنسبة للماضي، إنكار مماهاة البروليتاري المناضل مع العامل في الصناعة الكبرى. وبنفس الطريقة يعني هذا اليوم رفض الأطروحات التي تسعى إلى تحديد صورةٍ للعامل أنتجتها تحوّلات الرأسمالية وبذلك تتمتع بفضيلة تجاوز النظام. والخطاب حول العمل اللامادي والذات الجديدة "الإدراكية" يسعى إلى الحفاظ على المخطط الماركسي القديم الذي طبقًا له ستنتج الرأسماليةُ حفاري قبرها. وفي أنٍ واحد تروِّج الخرافةَ التي طبقا لها سيكون العملُ المادي اليدوي قد اختفى ببساطة. وفي الوقت ذاته تحجبُ حقيقةَ أن الاستغلال الرأسمالي اليوم يجري عبر تنويعةٍ ضخمة من الأشكال يشبه عددٌ منها العملَ المنزلي في القرن التاسع عشر أكثر مما يشبه التكنولوجيا المستقبلية. اليوم مثل الأمس، يجب تمييز العمل بوصفه تقسيمًا للقوى المنتجة في قلب الاقتصاد الكوكبي، عن العمل في الزمن الذي يشكّلُ اكتسابَ الذاتية الجماعية القادرة على العمل ضد هذا التقسيم. إن قوى العمل اللامادي التي يطوِّرها رأس المال هي قواه المميِّزة وتظل كذلك. وهذه لن تُفجِّر النظام أبدًا بذاتها. فلا تستطيع ذلك سوى القوى المولودة في النضال ضد السيطرة.

في كتاب المعلّم الجاهل، تُطوِّر مقولة المساواة في المعرفة التي يتم فيها تنحية موقع السيادة والسلطة. هل ترى في هذا نموذجًا للسياسة؛ هل تقترح شكلًا ضد ـ سلطوي للسياسة، مثلًا، لايقوده الحزب الطليعي؟ (ص ن)

 بالتأكيد. لقد أقام جوزيف جاكوتوه، مبتكر الانعتاق الذهني، تعارضًا جذريًا بين المساواة الذهنية التي كانت دومًا بالنسبة له علاقةً بين أفراد وبين الأشكالِ السياسية التي تخضع بالنسبة له لمنطقٍ لامساواتي لهيئات إجتماعية. كان يمكن لكل البشر أن يكونوا متساوين في علاقاتهم، لكن النظام الاجتماعي بوصفه كذلك كان بالنسبة له محكومًا عليه باللامساواة. وقد اعتقدتُ أنه يمكن رفض هذه الرؤية المتشائمة. ففي الفعل السياسي يوجد أيضا توكيدٌ على قدرة أشخاصٍ مجهولين على إقامة معارفٍ أخرى، وأشكال أخرى من الخبرة والبحث مختلفة عن تلك التي تخص السلطات، على قدرتهم على ابتكار أشكال أخرى من العلاقات. لكن ما هو جوهريٌ فعلا في نموذج الانعتاق الذهني الذي يقترحه، هو قلبٌ للمنطق التربوي الذي هو أيضًا منطق الطليعة. النموذج التربوي السائد يتطلّب أن يُرشد من هم أكثرُ تقدمًا من هم أقل تقدما، بهدف تقليل التأخر. لكن هذه الطريقة لتصوُّر الأمور هي بالضبط ما يُعيد إلى ما لا نهايةٍ إنتاجَ التأخر الذي تستهدف تقليله. يجب مقاربة الأمور بالمعكوس. إذ لا ينبغي الانطلاق من اللامساواة للمُضيّ صوب المساواة تحت توجيه أولئك المتقدمين على هذا الطريق. بل يجب الانطلاق من المساواة، الانطلاق من الافتراض المسبق لقدرة المتأخرين المزعومين، ثم الالتزام بتنمية القدرات الموجودة فعلًا وليس «تقليل» التفاوتات أو الإعاقات. ما تدفعنا فكرة الانعتاق الذهني إلى رفضه، إذن، ليس مجرد النزعة السلطوية للطلائع، بل المخطط الذي يمنحها الشرعية. إنه مفهوم التاريخ المتجه صوب هدف المساواة أو الحرية الذي يجب بلوغه وفق إستراتيجيةٍ للغايات والوسائل. يجب الانطلاق من الحرية ومن المساواة القابلين للتحقق هنا والآن. هذه الديناميات القائمة لتفعيل المساواة والحرية هي التي تخلق إمكانات جديدة وليس الأهداف الاستراتيجية.

ما هو مكان الدولة في فهمك للسياسة؟ هل يجب على السياسة الراديكالية أن تحاول تجنب أو النأي بنفسها عن الدولة، أم أن بعض الاندماج ضمن البنيات التمثيلية للدولة أمرٌ حتمي؟ (ص ن)

كما ذكرت آنفًا، فإنني أرفض الرؤية التي تقيمُ تعارضًا بين الدولة وبين المجتمع مثلما بين الاصطناع وبين الطبيعة. فما يسري على أشكال المجتمع يسري كذلك على أشكال الدولة: هذه الأشكال وتلك يتخللها التعارض بين المنطق المساواتي وبين ضروب المنطق اللامساواتي؛ والدولة التي نعرفها والمسمّاة ديموقراطية هي هجينٌ: إذ تقومُ بالقانون على أساس الاعترافٍ بقدرة الجميع والبعضُ من أشكالها هي نتيجةُ انتصاراتِ النضالات الديموقراطية. وفي نفس الوقت فإن الدولة آلةٌ أوليجاركية تجعلُ هذه الأشكال تعملُ بمنطقها الخاص وتميلُ إلى خصخصة الفضاء العام. من جهةٍ، إذن، يجب توكيد سياسةٍ مستقلة عن المنطق الدولتي. ومن جهة أخرى، فإن الدولة ساحةُ صراعٍ: وأنا لا أتحدث عن الصراع من أجل «الاستيلاء على السلطة»، بل عن الصراع من أجل توكيد سلطةٍ متزايدة للشعب على كل المجالات. وهذا الصراع يُنتجُ تأثيرات إعادةِ تعريف الحقوق وتحولات المؤسسات، التي أرفض شخصيًا اعتبارها أوهامًا لأنها تُحدّدُ قدراتٍ جديدة للفعل. ونقطة ضعف الرؤيتين الماركسية والأناركية كانت هي دومًا التفكير على أساس الواقع والتبدّي بدل التفكير على أساس التوزيع الدائم التغيُّر للإمكانات والقدرات. ليس الأمر هو الاندماج داخل البنيات الدولتية، بل اعتبار أنها ميدانُ معركةٍ فعلية تتزايدُ أو تتناقصُ فيه قُوى كل معسكر.

ما نوع المستقبل الذي تراه للسياسة الراديكالية اليوم؟ هل تقترح الحركة الكوكبية المناهضة للرأسمالية طريقًا إلى الأمام في رأيك؛ أم أن أنماطا مختلفة من العمل والتنظيم السياسيين ضرورية؟ (ص ن)

أعتقد أن ثمة خطرًا في اتخاذ العولمة ذريعةً للقول بأن الأمم وأشكال التنظيم المرتبطة بها يجب الآن أن تُفسح المجال لحركة كونية مناهضة للرأسمالية. فالأمم لم تختفِ والمؤسسات المسمّاة فوق ـ قومية هي في المقام الأول أدواتٌ تستفيد منها الدول القومية من أجل «نزع محلية» السياسة. من وجهة النظر هذه فإن التأييد الذي منحه جزءٌ من حركة «مناهضة العولمة» للدستور الأوروبي باسم النزعة الأممية يبعثُ على الحيرة. المشكلة ليست في وضع ما هو كوكبي مقابل ما هو محلّي. فالاثنان متمفصلان. والأشكال الكوكبية للسيطرة لا توجد إلّا عبر تنويعة من الأشكال المحلية. إذ أن «المحلّي» ليس هو الجزءُ الذي يجب وضعهُ في تعارضٍ مع الكل، بل هو هذه النقطة المنفردة أو تلك ضمن تنظيم أوجه السيطرة الكوكبية. بهذا المعنى فإن أي نضالٍ سياسي هو دومًا محلّي: أعني بذلك أنه يهاجم دومًا نقطةً بعينها، مرحلةً أو عقدةً منفردة داخل نسق السيطرة وعمله هو إبرازُ الشكل الكلي لما يجري عند تلك النقطة. وهذه النقطة المحددةُ، قد تكون ذاك الاجتماع لإحدى المنظمات الدولية التي تحاولُ إدارة العالم؛ وقد تكون أيضا النزاعَ الذي تثيرهُ عمليةٌ لنزع المحلية، أو تفكيكُ شكلٍ من أشكال الحماية الاجتماعية، أو تشريعٌ يقيِّد حرية انتقال الناس بينما يفتح الأبواب على مصراعيها لرؤوس الأموال، إلى آخره. المهمة الراهنة بالتأكيد هي خلق أمميةٍ جديدة. لكن الأممية ليست منظمة متخصصة فيما هو كوكبي؛ إنها انبعاثٌ لتجمعاتٍ تناضل بصدد نقاطٍ بعينها، يعمل على التنسيق بينها، على جعلها متضامنة، على تعميم دوافعها وأفعالها.

_ _ _

اقرأ المزيد عن رانسيير: من هو جاك رانسيير بروح أمه؟

واقرأ المزيد من ترجمات أحمد حسان: أغنيات حب من بريشت

---

آرخي تعني "القيادة" كما تعني "الأصل". (المترجم) [1]

نسبة إلى الأناركي الفرنسي بيير جوزيف برودون (1809-1868). (المحرر). [2]