ترجمة كاملة لدراسة سماح سليم*: «القص والهويات الكولونيالية: آرسين لوبين بالعربية»

* سماح سليم مترجمة وأستاذة مساعدة بقسم اللغات الأفريقية والشرق أوسطية بجامعة روتجرز

ترجمة: أمير زكي

نُشرت الترجمة بمجلة عالم الكتاب، يونيو 2015

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

ظل الكتاب المصريون يستعيدون بسرور –طوال القرن العشرين- ذكريات شبابهم عندما كانوا يلتهمون الترجمات العربية لروايات «آرسين لوبين – اللص الظريف» في النسخ الرخيصة ذات الأغلفة الورقية. إلى جانب «محققى العدالة المشهورين» والمجرمين وخبراء التحقيقات مثل شخصيات إدمون دانتيس عند آلكسندر دوما، وشرلوك هولمز لدى كونان دويل، وروكامبول لدى بونسون دى ترايل، أوجد لوبين لنفسه مكانًا في المرجعية الأساسية –وإن كانت غير الرسمية– للأبطال الروائيين المحدثين العظماء لثلاثة أو أربعة أجيال عند الكتاب والقراء المصريين. وبينما نقل المترجمون العرب رواية «الكونت دي مونت كريستو» والكثير من كتابات دي ترايل[1] بعد عدة عقود من ظهورها بالفرنسية، إلا أن ترجمات قصص هولمز ولوبين ظهرت بعد عدة سنوات من تاريخ نشرها الأصلي في فرنسا وإنجلترا. نُشرت أولى قصص لوبين المترجمة للعربية عام 1910 في سلسلة «مسامرات الشعب» الأدبية الشعبية (1904-1911). استمرت إعادة الترجمات طوال العقود الأربعة أو الخمسة التالية وربما انتهت بنسخ «روايات الجيب» الشهيرة التي كانت تنشرها «الهيئة المصرية العامة للكتاب». للأسف لا توجد دراسة مفصلة عن هذا الأرشيف الهام، ولا لدور النشر التي دعمت تداولها لما يقرب من نصف قرن على الأقل، وبغض النظر عن السؤال المتعطش والمتكرر الذي يُطرح عادة عن سبب عدم إنتاج الأدب العربى لنوعية الأدب البوليسي الذي يكتبه عرب، إلا أنه لم يُكتَب عمل أكاديمي عن الأساس الأدبي والسوسيولوجي الثري الذي يمثله هذا الأرشيف وعلاقته الوثيقة بالمخيلة الثقافية المصرية الحديثة.

تحاول هذه الورقة البحثية أن تعرض قدرًا ضئيلًا من هذا البحث الواسع، راجعين إلى البداية عندما نشر عبد القادر حمزة في «المسامرات» ترجماته لخمس من التسع قصص التي تشكل المجموعة الأولى من مغامرات لوبين «آرسين لوبين، اللص النبيل» (1907)، التي تحولت إلى «اللص الظريف» (1910).[2] اهتمامي بهذه القصص وترجمتها له شقان؛ من جهة، ترجمة الأعمال التي تدور حول هؤلاء الأبطال الكاملين، المنتمين للزمن الجميل Belle Epoque، إلى العربية في بداية القرن يشير إلى الاهتمام العميق بعملية إعادة تشكيل الفرد التي كانت تجري فى مصر في سياق الكولونيالية وإصلاحات النهضة المكثفة؛ وذلك في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية واللغوية. في الوقت نفسه، كان النسق الأدبي في مصر يمر بتحول كبير. كان جمهور القراء «متوسط الثقافة» في حالة صعود، وبدأ القص المطبوع يحل تدريجيًا محل الشعر كوسيط مهيمن على الإنتاج الأدبي وبدأت «الرواية» الحديثة في الظهور. لعبت الترجمة دورًا كبيرًا في هذا التجديد الأدبي، ولكن بمعنى مختلف كثيرًا عن عملية «النقل» أو«الاستيراد» أو «التقليد» التي يصفها التاريخ الأدبي السائد.[3] تمثل ترجمات عبد القادر حمزة لآرسين لوبين تجربة أدبية جديدة في النوع السردي. أولًا؛ سأحاول أن أبين تجربة الاعتماد على الأعراف النوعية لسرد العصر الوسيط العربي الشعبي مع إجبارها في الوقت نفسه على الانفتاح على ترجمة ونقل الأشكال الجديدة للسمات والأزمنة المُنتَجة في الروايات الأوروبية –في تلك الحالة، روايات الجريمة– كشكل من الترجمة «المحلية». بمعنى آخر، على الرغم من أن «اللص الظريف» هي بالتأكيد ترجمة «جزئية» لرواية «آرسين لوبين، اللص النبيل» فإنها أيضًا نوع من إعادة الكتابة النوعية لأشكال السرد العربية بداخل المساحة المعقدة والديناميكية لمصر الكولونيالية المعاصرة.

السؤال الأساسي الذى أحاول الإجابة عنه فى هذا المقال هو «لِمَ» و«كيف» يُترجَم نص بعينه فى لحظة تاريخية محددة. بمعنى آخر، لِم تُترجَم عام 1910 رواية «آرسين لوبين، اللص الظريف» لموريس لوبلان ولا تُتَرجَم مثلًا رواية «التربية العاطفية» لفلوبير أو «الأحمر والأسود» لستاندال. لِمَ تترجم روايات القوطية الحضرية، والروايات البوليسية، والروايات الشعبية على سبيل المثال ولم تُتَرجَم كلاسيكيات الروايات الواقعية الفرنسية والإنجليزية؟[4] وأى نوع من إستراتيجيات الترجمة هي التي تُستخدَم في ترجمة نوع جديد، مثل الرواية القصيرة، في هذا العصر بمصر؟ في دراسات الترجمة، تُفهم إستراتيجيتا «التقريب» و«التغريب» عادة على أنهما قطبان متضادان للممارسة، منفصلان وراسخان عن طريق الرغبة الأخلاقية أو السياسية للمترجم.[5] ولكن في ترجمة حمزة، تمتزج الإستراتجيتان في حركة ديالكتيكية ومعبرة في أساس فعل الترجمة.

صعود «الفرد» و«الشخصية» كمجموعة من المفاهيم والممارسات القانونية والبلاغية والنصية المتضاربة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي مسألة ذات اهتمام مركزي في هذا المقال، إلى جانب الرمز الأدبي للبطل. سأطرح إذن أن البطل الضد الحديث الذي يمثله آرسين لوبين يبلور صراعًا اجتماعيًا عظيمًا في مصر في بداية القرن العشرين، وأن هذا الصراع واضح في التجربة المورفولوجية التي يقوم بها حمزة في ترجمته. بوضعه غير المستقر بين تشابك وانفصال النظم القانونية، والممارسات الاجتماعية وأساليب القص، يشير لوبين المصري إلى طبيعة المسافة المعقدة الموجودة بين القص الشعبي والرواية فى الأدب العربي.

اللص الظريف

يشار إلى أن موريس لوبلان، مبتكر شخصية لوبين، استلهم شخصية بطله الشهير من شخصية الأناركي الفرنسي الشهير ماريوس جاكوب (1879-1954).[6] بدأ تعبير «اللص النبيل» مع أول مجموعة من القصص، وعلى الرغم من أن العديد من المقلدين زعموا أنهم أصحاب التعبير، إلا أنه مرتبط تمامًا بالداندي الفرنسي المخرب والمتهرب الذي استمر في عمله لحوالي 20 مجلدًا ولمدة 35 عامًا. حياة لوبين بعد التوقف عن الكتابة عن شخصيته كانت مبهرة بالقدر نفسه، فتكررت إعادة الكتابة الأدبية للأعمال، وعاود الظهور على المسرح والسينما والتلفزيون ومعالجات القصص المصورة (ومنها قصص «مانجا» يابانية معاصرة). بالإضافة إلى ذلك فمن المحتمل أن لوبين مثل غريمه شرلوك هولمز[7]، تُرجِم إلى العديد من اللغات الأوروبية وغير الأوروبية، من البرتغالية إلى لغة المالايو في النصف الأول من القرن العشرين. كتب جاك ديرور دراسة مفصلة وممتعة عن أذواق وعادات وإكسسوارات وكلمات أبرز مجرمي الزمن الجميل[8]، وأصدرت دار النشر الفرنسية البارزة «أومنيبوس» مؤخرًا الأعمال الكاملة فى مجلدين جميلين بمقدمة للأكاديمي والوزير السابق آلان ديكو.[9]

ظهر لوبين من تقليدين مختلفين، ولكنهما مرتبطين ببعضهما، للقص الشعبي بفرنسا بالقرن التاسع عشر. سلفه المباشر هو يوجين فرانسوا فيدوك (1775-1857) الذي قدمت سيرته الذاتية «مذكرات فيدوك رئيس شرطة الأمن» (1828-1829) رمزًا مثيرا لمفهوم «المجرم الذي تحول إلى محقق» الشهير في الأدب الفرنسي؛ هذا المجاز الذي تأسس وتحرك في النوع الناشىء بعد حوالي نصف قرن عن طريق إيميل جابريو (1832-1873) والمحقق ليكوك الذي كان محققًا في الأصل ويتصرف كمجرم، العكس هنا). كان لوبين مثل فيدوك؛ لص يتنكر في صورة محقق حين تدعو الحاجة إلى ذلك.[10] ولكن لوبين مرتبط من بعيد بمُنَفِّذ العدالة في أدب منتصف القرن التاسع عشر: يسرق فقط من الأغنياء –وبشكل خاص هؤلاء الذين حصلوا على ثرواتهم من مضاربات البورصة والأشكال المقبولة الأخرى من الخداع. إنه لص، ولكنه مثقف، مراع للموضة ولص مديني، يعيش في عالم الأغنياء والمشاهير وكأنه نشأ فيه ولم ينشأ مع أمه الخياطة الباريسية الفقيرة غير المتزوجة. اختياره أن يصير مجرمًا يرجع بشكل كبير إلى الالتذاذ بذلك ولا يشعر بسعادة بقدر ما يشعر بها عندما يخدع الشرطة (هذا الذي يحدث طوال الوقت تقريبًا). هو يُقَدِّر النكتة الجيدة كثيرًا، حتى حينما تطلق هذه النكتة عليه، هذا الذي يحدث نادرًا. وفوق كل شيء، فآرسين لوبين متحدث عظيم؛ ساخر فصيح ولاذع، وشغفه الأكبر هو التعامل مع التكنولوجيا الجديدة بكل أشكالها، حتى في أشكالها الأدبية: تضجره الرواية السيكولوجية المملة ذات الأسلوب االمنتمي لعصر الإمبراطورية الفرنسية (ووفقا لديرور، هى تضجر النقاد الفرنسيين أيضًا)![11]

«في كل مكان، يتحرك كل شيء بشكل أسرع... كل شيء يتغير: شكل النساء، اللواتي حررهن بواريه من الكورسيه، الشكل الإستطيقي عن طريق الباليه الروسي والتكعيبية، المجلات الإخبارية التي تبرز فيها الصور الفوتوغرافية أكثر، وقبل كل شيء العلم: أشعة إكس، التليغراف، السيارات، الطائرات...».[12]

لوبين خبير بارع فى التنكر، وبارع فى الخداع والتهرب على النمط القديم، ولكنه أيضا عارف ومستهلك شره للأدوات التكنولوجية الحديثة. يقول المحقق جانيمار: «رجلنا لا يحب هذه الحيل القديمة. إنه رجل الحاضر، أو بالأحرى رجل المستقبل».[13] فى عالم اللص النبيل، فالسخرية –سخرية نهاية القرن التاسع عشر– تنظم هذا الزواج الخاص بين عالم الأعاجيب والعصر الحديث. يرسل لوبين من زنزانته الباريسية رسالة صغيرة مفصلة لمحدث الثراء البخيل بارون كاهورن ليخبره بالسرقة القادمة:

«بارون،

في الجاليري الواقع بين غرفتيّ الجلوس عندك، هناك لوحة مرسومة بشكل رائع لفيليب دى شامبين تسرني كثيرًا. لوحات روبن التي لديك تعجبني أيضًا، إلى جانب لوحة واتيو الصغيرة. في غرفة الجلوس على اليمين، لاحظت مائدة لويس الثالثة عشر، ومنسوجات بوفيه، والمائدة الإمبراطورية التي صنعها جاكوب وخوان عصر النهضة. في يسار الغرفة صندوق المجوهرات والمنمنمات الزجاجية.

حتى الآن، سأكون سعيدًا بإرضاء نفسي بهذه الأشياء، وأعتقد أنها ستكون سهلة النقل. هكذا أرجو منك أن تحزمها بشكل لائق وأن ترسلها، بشكل مدفوع مؤخرًا، باسمى إلى محطة باتنيول في ظرف ثمانية أيام، بخلاف ذلك سأجد نفسى مجبرًا على أن أنقلهم بنفسي في ليلة الأربعاء 27 سبتمبر. في الموعد المذكور، وبصراحة تامة، فلن ترضيني ساعتها القطع المذكورة بالأعلى.

أعتذر عن الضيق المحدود الذي سببته، وأرجو قبول تعبيري عن الاحترام التام.

آرسين لوبين.

ملاحظة ختامية – أهم شيء هو أن لا ترسل لي أكبر لوحات واتيو، على الرغم من أنك دفعت 30.000 فرانك مقابلًا لها في أوتيل دي فينت، هي مجرد استنساخ، باراس حرق النسخة الأصلية في نشوة ليلية في عهد حكومة المدراء. ارجع للمذكرات الكاملة لجارات.

ولا أهتم كثيرا بحلية لويس الخامس عشر، أصالتها مشكوك فيها بالنسبة لي».[14]

إسقاط معبد الفرد

في العشرين سنة الماضية كُتِب الكثير عن تاريخ الفردية في أوروبا منذ عصر النهضة من منظورات ما بعد بنيوية وتحليلية نفسية وماركسية، مُستلهمة الأعمال المؤسسة لميشيل فوكو ولويس آلتوسير في السبعينيات من القرن العشرين. كانت الدراسات معتمدة على مبادىء متعددة: ساهمت الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والدراسات الأدبية والتاريخ القانوني جميعًا على إسقاط هذا المعبد الإمبراطوري المتعلق بالإيمان بمركز الإنسانية الغربي؛ الفرد. أريد الإشارة هنا إلى أن نَسَب الفرد في أوروبا الحديثة لم يكن مرتبطًا فحسب بـ «بناء الأصول المفقودة (و) ظهور الدولة» كما يزعم فالنتين جروبنر[15]، ولكن أيضًا في تكوين المجرم كذات أنطولوجية وأيضا كموضوع للبحث العلمي. بمعنى آخر، إن كان الوضع الرئيسي لظهور الدولة الوطنية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هو  التحقيق الفعَّال، وإدارة وتشغيل الأشخاص (مثل الأشخاص الساكنين بداخل منطقة ما على سبيل المثال)، بالتالى فالممارسات البيروقراطية والعلمية التي جعلت هذه العملية ممكنة كانت مسؤولة عن إنتاج الفرد والمواطن والمجرم كأنماط قضائية-قانونية مترابطة. الهوية والتحقيق هما مركز هذه المجالات الثلاثة، وتاريخ التقنيات القانونية والبيروقراطية للتحقيق في أوروبا الحديثة هو أيضًا تاريخ لتكوينها بطريقة ما.

في فرنسا القرن الثامن عشر، بدأت بطاقات الهوية تحل محل الأفراد الواقعيين، وبدأ التحقيق القانوني يعتمد على الملفات المكتوبة والرسمية بدلًا من الشهادات الشفوية للجيران والأقارب، اعتمدت هذه العملية على ما أطلق عليه بيير بياتسا «التحقيقات المألوفة والقائمة على طريقة وجه لوجه[16]. استخدم الفرنسيون بطاقات الهوية فى البداية كوسائل للتحكم في الاضطرابات الداخلية، ولكن في النهاية –وخاصة بعد الثورة– استخدموها كميكانيزم لتمييز «المواطن» عن المتطفل المخرب، ولاحقًا لتمييزه عن الغجري والبدوي والمهاجر[17]. أشار كابلان وتروبي إلى «السجلات والجوازات والتعدادات وأشباهها»[18] وسط مجموع الممارسات البيروقراطية في القرن الثامن عشر بأوروبا، ولكن آخر القرن التاسع عشر سيشهد تطبيق مجموعة مؤثرة وأكثر علمية من ممارسات التحقيق تتبع ظهور مبادىء جديدة للأنثروبولوجيا وعلم الجريمة. هذان المبدأان مترابطان بشكل لا يمكن فصله، وكل منهما معتمد على الدراسة العلمية للإنسان. الأول يستهدف المُستعمَر والبربري كموضوع له، والثانى موضوعه المواطن المنحرف. اشتركت الأنثروبومترية –القياس المنظم للجسد الإنساني– مع المبدأين كمنهج علمي مركزي. كانت الأساس لإقامة المعايير العلمية الوضعية للطبيعي والمنحرف، السليم والفاسد، المتقدم والبدائي.[19]

وَضَع نظام الشرطي ألفونس برتيون في التحقيق –الذى طُبِّق فى فرنسا عام 1883 وبعد وقت قصير في العالم أجمع– الأنثروبوميترية في خدمة «شرطة الدولة المنظمة جيدًا»[20] بمصطلحات كابلان وتوربي، وبقدر لا يمكن تخيله بعد عدة عقود. حوَّلَت فرنسا المضطربة فى القرن التاسع عشر الشرطة إلى مؤسسة سياسية كبيرة، بارتباطات مباشرة مع النظام، خاصة بعد الإصلاحات الرئيسية عام 1851. كانت الاشتراكية والأناركية مصدرين رئيسيين للقلق في الإمبراطورية الثانية والجمهورية الثالثة وذلك بقدر الجريمة العادية وربما أكثر منها. أقامت إصلاحات عام 1851 نظامًا مركزيًا عالي الكفاءة للرقابة الوطنية يرأسه جهاز الأمن سيء السمعة:

«من أجل أن يدافع المجتمع عن نفسه في مواجهة السرقة والنهب والقتل... يحتاج إلى سلاح فتاك، سلاح غير مرئي، نشط، يقظ، حاضر دومًا، في كل الأماكن وفي كل الأوقات، ليراقب المذنبين ويقبض عليهم ويضرب على أياديهم... ولكن من الأفضل أيضا مراقبة كل مساحات النشاط غير الشرعي ومنابع التهييج الشعبى التي ينمو وسطها (الفاسدون) و(المجرمون) الذين يسيسون الرأى العام فى مواجهة النظام».[21]

يدير جهاز الأمن شبكة مخابرات عالية الكفاءة معتمدة على نظام من الجواسيس والمخبرين والعملاء السريين. في عالم الظل المكون من هويات متعددة، يصير المجرم محققًا محتملًا، والمحقق مجرمًا محتملًا. تراقب الدولة الآن الردة إلى الإجرام باعتبارها مشكلة سياسية رئيسية، في الوقت نفسه الذي انتشرت فيه نظريات سيزار لومبروزو الوراثية الحيوية عن الفساد والإجرام في أنحاء أوروبا. انبنت البرتيونية على مقياس من الأبعاد المحددة للجسد – من ضمنها الرأس، الذراعين، والقدمين، والوصف الشفوي، ومنهج معقد للتصوير القانوني، وفي النهاية نسق دقيق للملاحظة والتصنيف والترتيب.[22] بداية من عام 1882، أي شخص يقوم باتصال مع الشرطة لأي سبب بداية من الجنح الصغيرة وحتى الجناية يُقاس ويصور ويوضع ملفه في سجل المكتب المركزى في باريس، وفي عام 1887، أصبح النظام على مستوى الدولة: «كل المؤسسات العقابية كانت معدة لتطبيق منهج برتيون على مساجينها، وأن يُسَلًّم ملف من نسختين لكل مجموعة من المقاييس مع ذكر المقاطعة، حيث يتم تسجيله».[23] مع الاعتقال المثير والتحقيق القاطع فى قضية رافاشول الأناركي عام 1892، تبنت هيئات الشرطة البرتيونية حول العالم: «الولايات المتحدة... إنجلترا، ألمانيا، سويسرا، بلجيكا، روسيا، الهند البريطانية، رومانيا، جمهوريات أمريكا الجنوبية، الدنمارك»[24]... ومصر. الهدف من البرتيونية، كما ذكر أحد المعلقين المعاصرين بشكل صحيح، ليس أقل من «إصلاح الشخصية الإنسانية، لإضفاء هوية وفردانية محددة وثابتة وغير متغيرة ومدركة دومًا ومعروفة بسهولة لكل البشر»[25]، وهذا بوسائل البيروقراطية التى تتضمن العديد من الأوراق. تأسست الشخصية القانونية من جهة، بينما نزعت عن الفرد فرديته من جهة أخرى:

«كَشَف إحكام الأنساق التمثيلية المنظمة صراعًا مركزيًا في مشروع التحقيق في مواجهة التصنيف البحت. تزعم وثيقة الهوية أن تكون تسجيلًا للفرادة، ولكنها أيضًا ينبغى أن تكون عنصرًا في سلسلة التصنيف التي تقلص الفردانية إلى وحدة في سلسلة، لذلك فهي في الوقت نفسه تنزع الفردانية. هذا يكشف الخلخلة الأساسية في مبدأ (الفرد)، ويساعد في شرح توضيح الحس غير المريح الذي يرى أننا لا نملك هويتنا أو نتحكم فيها كلية، وأن وثيقة الهوية تحمل تهديدًا بالتجريد في الوقت نفسه الذي تزعم فيه أنها تمثل ما نحن عليه».[26]

ليس من قبيل المصادفة أن قصص المحققين ملائمة لأن تظهر في الوقت ذاته، إذ تأسست الشخصية القانونية والخطابية بمصطلحات الجريمة. بينما أخذ التيار الإنجليزي شكل رواية التحقيق (بنمط كونان دويل)، كان التيار الفرنسي معجبًا برمز المجرم-البطل، الذي يتهرب من الكشف بينما هو مجبر على أن يشترك بنفسه في قدر منه من آن لآخر، وعادة ما يرتدى قناع المحقق نفسه كما ذكرنا سابقًا.[27] أنا لا أنوي أن أبحث هنا عن الأسباب الاجتماعية-التاريخية لهذا الاختلاف المثير للاهتمام، وإن كان هناك آخرون قد قاموا بذلك بلا شك. ما أهتم به هو الإعجاب الخاص بهذا التيار الفرنسي من قِبَل المترجمين والقراء في مصر المنتقلة من قرن إلى آخر، والإستراتيجيات الهرمنيوطيقية التي استُخدمت لإعادة كتابة الروايات في السياق المصري المعاصر. إن فَكَّرنا في العلاقة بين الدولة المركزية المتوسعة الماضية فى التحديث، و«مواطنيها»–علاقة يتوسطها القانون والبيروقراطية الكبيرة من جهة، ونظم الشرطة من جهة أخرى– كجانب بنيوي للحداثة الكولونيالية، إذن فالانتقال من قرن إلى آخر في فرنسا وفي مصر يتسم بشيء مشترك أكثر من القصة التي يسردها النموذج المعتاد عن التطور فى تاريخ العالم.

مثلما كان الحال في فرنسا، غيًّرت عملية التمأسس المستمرة للإصلاحات القانونية، وابتكار الطب الشرعي، الطريقة التي انبنت عليها الشخصية وأديرت، وذلك عن طريق الدولة وبيروقراطيتها في مصر تحت الاحتلال البريطاني؛ ومثلما كان الحال في فرنسا، كانت الشرطة مؤسسة سياسية بشكل كبير (يقودها الاحتلال)، وكان الفساد متفشيًا.[28] ولكن على خلاف فرنسا –وهنا يكمن الاختلاف الرئيسي– كانت الشخصية الرسمية في مصر الكولونيالية معقدة بشكل كبير بسبب الامتيازات الأجنبية، وبسبب الفوضى القانونية لانتحال الهويات الذي نتج عن هذا. بالإضافة إلى ذلك، استمر وجود القانون المعتمد على «الشريعة» إلى جانب القانون «السياسي» ثم إلى جانب القانون الغربي (قانون نابليون)، وذلك حتى القرن العشرين. الأمر شبه الإلهى للحماية القنصلية، والتفاعل المعقد والصراع بين المحاكم الشرعية والمحاكم الوطنية والمحاكم المختلطة أنتج شبكة مربكة من الهويات المتشابكة والتنظيمات الذاتية: أن تكون «شخصًا رسميًا» فى مصر عام 1910 يمكنه أن يصير مسألة غامضة ومعقدة وحتى خطيرة – وهي مسألة حديثة بشكل واضح.

كان النظام القضائي الحيوي يقود ويحتوي عالم الأعمال المزدهر في المراكز الحضرية بمصر المحتلة - في كل من الأقسام القانونية والمالية والإجرامية. وبعيدًا إلى حد ما عن مجتمعات الجنسيات الأوروبية الكبيرة التي عاشت وعملت في مصر، فالأقليات الدينية والإثنية (في كل من مصر والبلاد التي حولها) كانت قادرة على استخدام الامتيازات لادعاء الجنسية الفرنسية أو السويسرية أو الإيطالية أو اليونانية وبالتالي التهرب من القانون المحلى والمحاكم الوطنية.[29] لسنا بحاجة لذكر أن هذا كان مفيدًا جدًا للعمل، سواء العمل على تنمية المِلكية، أو تسليف الأموال، أو تجارة المخدرات، أو تجارة العبيد البيض (وقد كانت مصر مركزًا رئيسيًا لذلك فى الربع الأول من القرن العشرين)[30]، ولكنها أيضًا ساهمت بالتأكيد على حس عدم الاستقرار الأساسي لمفهوم العلاقة مع الدولة ومع الانتماءات المجتمعية القائمة. بالإضافة إلى ذلك، فالخيارات القانونية المتاحة للمسلمين المصريين في الحالات المدنية الإجرامية شكلتها النظم القضائية (الشريعة، السياسة، القانون النابليوني) الموازية والمتحيزة فى بعض الأوقات، والتي اعتمدت على مفاهيم شديدة التباين للفرد[31]. في قانون الشريعة على سبيل المثال، كان إلقاء الاتهام والادلاء بالشهادة (فى حالات جرائم القتل، وحتى فى الأحكام) شفويًا، يلقى وجهًا لوجه، وهى أفعال شخصية ترد كإجبار قانوني للفرد/الضحية المذكور؛ بينما في القانون «السياسي» كما تطور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، استولت الدولة على هذا الدور وصار الجزء الخاص بالاتهام والشهادة والتحقيق عملية غير شخصية تعتمد على الملفات المكتوبة والتقنيات البيروقراطية الطبية الشرعية المكثفة التي تتم من خلال وكالات وهيئات ومحاكم منفصلة. فيما يتعلق بالامتيازات والنظام القانوني الثنائي، اعتاد الناس فى مصر على استخدام نظم الشخصية والتلاعب بها في ذلك الوقت بما يحقق صالحهم كما أظهر خالد فهمي.[32] سمحت الامتيازات بتلاعب صريح معتمد على الانتحال وافتراض الهويات وسمح القانون بنقاط ضعيفة لاختراق البنى القضائية المختلفة. إذن في هذا السياق، فهم الناس الشخصية الحديثة –«الشخصية الثابتة والمدركة دومًا والمعروفة بسهولة» التي يشير إليها هيربيت– وتعاملوا معها على أنها سلسلة من البنى الإستراتيجية، أو السرديات، بشكل أكثر أو أقل.

أعجب المترجمون والقراء المصريون بلوبين لأنه يستنسخ هذه الخبرة الاجتماعية الجديدة، بينما يستدعي في الوقت نفسه الأساليب البطولية القديمة في القصص الشعبية العربية، كما سنرى ذلك باختصار. في عالم انقلب رأسًا على عقب حيث الفساد والحكومة الكولونيالية جعلت الدولة والمواطنة قصصًا خاوية، يصير لوبين العربي بطلًا حديثًا جدًا. وإن كان بطلًا نقيضًا. إذن (كما هو الحال الآن) فالقانون –وبشكل خاص الشرطة– هو موضوع للتشكك والسخرية. يضع حمزة إضافات أصيلة على النص العربى تشرح هذه المسألة للقراء المصريين. فى واحدة من تلك الفقرات المحرفة، يقول البارون كاهورن، الذى سيُسرَق، للمفتش جانيمار:

«دعنى بعد ذلك من الشرطة والحكومة فقد أصبحنا فى زمن أولياؤنا فيه اللصوص الفاتكون».[33]

في الوقت نفسه، كانت هناك جوانب محددة في التجربة الاجتماعية أقل قابلية للترجمة في السياق المصري. بعد القبض عليه في قصة «القبض على آرسين لوبين» وسجنه في قصة «آرسين لوبين في السجن»، تأتي اللحظة الأكثر جرأة والأكثر انتظارًا وتتمثل في هروبه في قصة «هروب آرسين لوبين». نفذ لوبين هروبه عن طريق استبدال نفسه بشكل ناجح بصعلوك عجوز مدمن للكحول فى السجن. جعل هذا التغيير الجريء مقنعًا عن طريق قضاء أسابيع مبتعدًا بحرص عن عيون حراسه، صائمًا، وممارسًا تمرينات خاصة ليبدل شكل عضلاته وبنيانه، والوضع الكيميائى لبشرته، وعن طريق المساحيق، ورشو العاملين فى مكتب الأنثروبوميترى عند وصوله إلى السجن ليزيف المقاييس: «هذا كاف للتخلص من النظام بأكمله».[34] فى وقت محاكمته لم يعد لوبين الذي يقف في قفص السجين بل قرين صامت منكسر، يزعم أنه ديزيريه بودرو. كان المفتش جانيمار نفسه، الرجل القاسي وأكبر أعداء لوبين والعميل المسؤول عن القبض عليه في المقام الأول، هو الذي قام بالتحقيق الدقيق (المزيف) في لحظة درامية وسط الإجراءات. يقول رئيس المحكمة:

«لا مناص لنا من تسميتك آرسين لوبين لأننا برغم ما تكلفته الشرطة في كشف حقيقتك لا نعرف من أنت ولا نعلم عن ماضيك غير ظنون قد تصح وقد تكون رجومًا. وكل ما نستطيع تأكيده أنك منذ ثلاث سنوات ظهرت في العالم دفعة واحدة كأنما انشقت الأرض عنك فعُرفت باسم أرسين لوبين وجرى لك صيت بالدهاء والخداع والسرقة. أما قبل هذه السنوات فلا سبيل إلى معرفة شيء عنك فقد تكون روستا الذي تتلمذ للساحر ديكسون منذ ثماني سنوات أو أزيو الطالب الروسي الذي صحب الطبيب ألتييه إلى مستشفى سان لويس وأدهشه بذكائه النادر وعلمه الواسع أو أستاذ المصارعة اليابانية الذي وفد على باريس من سبع سنوات أو الذي حاز قصب السبق في سباق الدراجات في المعرض العام فأخذ عشرة آلاف فرنك ثم اختفى ولم يعلم عنه خبر للآن. وأخيرًا قد تكون الرجل المجهول الذي رؤي في سوق الشفقة يوم احتراقه ينقذ من النار أعلياء أهل باريس ويسلبهم ما معهم...

...

تلك الفترة، التي لم تكن تفعل فيها شيئًا سوى أن تعد نفسك بحرص للمعركة التي تستمر في خوضها ضد المجتمع؛ وتمارس هذا التدريب المنهجي الذي بذلت فيه أقصى طاقتك وقدراتك.

ثم سكت قليلا وقال: هؤلاء كل الذين نقدر أنك واحد منهم فبأيهم تعترف؟»[35]

في هذه الفقرة الطويلة، يتتبع حمزة المسار المفصل والرائع لسيرة لوبين الذاتية المفترضة في ترجمة مخلصة تنقل النص كلمة بكلمة. ولكن الجملة قبل الأخيرة في الفقرة (المكتوبة بخط مائل أعلاه) محذوفة كلها بطريقة مثيرة للفضول. مع بداية القرن العشرين، لم يكن «المجتمع» كمفهوم سيمانطيقي وخطابي قد رَسَخ بعد في العربية، على الرغم من أن النخبة الإصلاحية فى مصر بدأت تهتم بالنظرية الاجتماعية الحديثة وأنتجت العديد من الألفاظ الجديدة في نهاية القرن التاسع عشر.[36] في النهاية فـ «المجتمع» غير منفصل كمفهوم عن «الفرد» في النظرية الليبرالية. تقنيات التحقيق الجمعي التي أدخلتها الإدارة الكولونيالية البريطانية في فترة الانتقال إلى القرن العشرين بدا أنها غير مؤثرة بشكل كبير في النسق الاجتماعي حيث الأمية، والتقاليد المرنة للتسمية، وأنماط الهجرات السريعة، والاتجاهات الشفوية المعتمدة على طريقة «وجهًا لوجه» وكل تلك الأشياء التى كانت بمثابة العرف في المجتمع.[37] في عام 1897، أسس الكولونيل هارفي باشا، رئيس شرطة القاهرة وحده «قلم التحقيق» المؤسس على مزيج من نظام برتيون الأنثروبوموترى، ومنهج فرانسيس جالتون عن بصمات الأصابع. وفي عام 1899، جُمِع 836 ملفًا («رقم صغير» وفقًا لجالتون نفسه).[38] حقيقة أن تنوع الطرق الأخرى من تقنيات التحقيق المباشرة ابتكرت واختبرت فى مصر فى ذلك الوقت كشهادة على جموح السكان الذين لم يعن لهم «المجتمع»، سوى تدخل الدولة والتحكم فى حياتهم، إن كان يعني شيئًا من الأصل.[39]

بعيدًا عن كونه عدوًا «للمجتمع» بالمعنى المكرس في النظرية الاجتماعية الليبرالية، وفي علم الجريمة الجديد، وفي الاقتصاد الأخلاقي للرواية الفرنسية في القرن التاسع عشر، فآرسين لوبين لدى حمزة هو رمز يقع على الحد بين الثقافتين، بطل على الطريقة الشعبية في العصر الوسيط، تُرجِم بحذر إلى العالم المضطرب المكون من الأوتومبيلات والأنثروبوميترية، والاقتصاد الجديد والنظام البيروقراطي، والفساد الشرطي والخداع الكولونيالي. النظام الذي يتحداه ويتفوق عليه باستمرار هو الشخصانية نفسها. خبير في التنكر والتخفي، من المستحيل أن يعرفه أحد (وبالتالي أن يقبض عليه أحد) إلا عن طريقة أفعاله التي يعرضها، يقول ساخرًا، وبطريقة ملحمية:

«في اعتقادي أن القلم مهما أوتي من البيان وقوة التصوير يقصر عن أن يبلغ الحقيقة التي من نفسي وكيف يستطع قلم أن يصف الذي رأيته ألف مرة فما عرفته مرة ولا رأيت له صورة تشابه الأخرى في رسم ولا شكل ولا وضع بل كيف يصف الذى كان يقول عن نفسه:

تالله لقد اختلط عليَّ الأمر فأصبحت لا أميز لنفسي حقيقة ولا أهتدي عن المرآة إلى وجهي الصحيح

وهو قول لا يخلو من المفاكهة ولكنه يدل على مقدار ما برع ذلك الرجل في إخفاء صورته فكثيرًا ما كنت أسمعه يقول

أية حاجة لي بأن يميزني الناس ويقفوا على صورتي ولماذا أمكنهم من أن يدلوا على شخصي ما دامت فعالي تدل عليَّ ولا تدع عند أحد ريبة في نسبتها إليَّ

ثم يبسم ويأخذه الزهو ويقول:

إنه لخير لي أن لا يستطيع إنسان أن يقول هذا آرسين لوبين وأن يقول الناس جميعًا هذا من فعل آرسين لوبين».[40]

في هذه الفقرة، يتضح أن لوبين يتصرف بطريقة البطل الشعبي -البطل الذي يُعرَف دومًا عن طريق أفعاله، أكثر مما يبدو من داخله أو عن طريق «الشخصية». لوبين الخاص بلوبلان بالتالي هو نوع من البطل ما بعد الروائي، شخصية – ضد موضوعة في ما وراء الأدوات الأخلاقية والسيكولوجية التقليدية في الرواية الواقعية للقرن التاسع عشر والذي يستدعي نَسَبه تقاليد القص ما قبل الحديثة؛ البيكارسكية والشعبية. يلتقط حمزة هذا النَسَب الأدبي ويبرزه في ترجمته. لوبين لدى حمزة ينتمى إلى عالم السيرة العربية مثلما ينتمي إلى رواية الجريمة الحديثة. ولكن العلاقة مع القص الواقعي مقلوبة هنا. بينما لوبين الفرنسي هو رمز ما بعد روائي، فلوبين العربي جاء إلى الوجود أثناء اللحظة التاريخية حيث بدأ تكشُّف الانتقال من القص الشعبي إلى القص الواقعي.

البطل الشعبي

كان «الخداع والحيل»[41] دومًا من مهارات البطل فى السرد الشعبي العربي. النَسَب الغامض، والتنكر والانمساخ والعلاقة الخاصة مع النظام الاجتماعي هي كلها أجزاء ومجموعة من تبديات البطل في الملاحم العظمى؛ السلاسل والقصص الشعبية التي استمرت في الوجود من بدايات العصور الوسيطة المبكرة وخلال القرن التاسع عشر لم تكن فقط مجموعة متاحة لحمزة والمترجمين الذين يشبهونه في بداية القرن العشرين، ولكنها كانت تقليدا متحركًا، جزء منه شفوي وجزء منه نصي، استمر في تشكيل المخيلة الأدبية الشعبية بطرق مؤثرة.[42] أشار جورجى زيدان إلى هذا التقليد الشعبي الحي عام 1914 في تأملاته عن نوع الرواية الجديد:

«وأما أهل هذه النهضة فقد أكثروا من نقل هذه الكتب عن الفرنساوية، والإنكليزية، والإيطالية، وهى تسمى في اصطلاح أهل هذا الزمان (روايات) والروايات المنقولة إلى العربية في هذه النهضة لا تعد ولا تحصى، وأكثرها يراد به التسلية. ويندر أن يراد بها الفائدة الاجتماعية أو التاريخية أو غيرها... وقد رحب قراء العربية العقلاء بهذه الروايات لتقوم مقام القصص التي كانت شائعة بين العامة لذلك العهد، مما ألفه العرب في الأجيال الإسلامية الوسطى. نعني قصة علي الزيبق، وسيف بن ذي يزن، والملك الظاهر، وبني هلال ونحوها. فضلًا عن القصص القديمة كعنترة وألف ليلة وليلة – فوجدوا الروايات المنقولة عن الإفرنجية أقرب إلى المعقول مما يلائم روح هذا العصر فأقبلوا عليها».[43]

إذن تقوم الروايات «المترجمة» بدور «الوسيط» الذي من خلاله يتم إعادة تقويم النظام النوعي المحلي المتحرك وتعاد كتابته في مصطلحات حديثة منسجمة مع «روح العصر». ترجمة حمزة العربية لقصص لوبين الخمس تحتوى على بعض الإستراتيجيات الزمنية والخطابية للسيرة. من جهة أخرى، تلعب الترجمة بحرية مع اللغات الحديثة و«الأجنبية»، وتقنيات القص ومجازات الأصل. تمتلئ القصص بالحوار العامي السريع، والمونولوج الداخلي، والمصطلحات المعاصرة (و«الترجمات» العامية توضع أحيانًا وسط أقواس)، والأشياء والأماكن الأجنبية وتقنيات القص الجديد في العربية كسارد ضمير المتكلم المجهول. نتيجة ذلك هو نص يحتوى ويُقَرِّب الأصل بغرض أن يصير «أجنبيًا» تجاه نفسه. ويظل الوصف في الحد الأدنى.[44] على سبيل المثال، تحل محل صفحة كاملة من الوصف تبدأ بها القصة الأولى من المجلد فقرة واحدة من «السجع الجديد» فى الترجمة العربية[45]:

«قامت بنا السفين في يوم صافي السماء عليل الهواء فانطلقت تمخر في عباب الماء كأنها جؤذر يفر من صياد أو طالب ثار يطلبه عند الآفاق فاستبشر السفر ورجوا أن تنقضي رحلتهم ما بين لهو العين وانشراح الصدر وجعلوا يتسامرون جماعات جماعات في قلب السفينة وعلى ظهرها».

يمكن أن ندعو هذا الاختيار الخاص بالترجمة إستراتيجية تقريب وأنه قام بذلك ببساطة، ولكن يمكن أيضًا أن نمضى بشكل أبعد وأن نرى الأمر كنوع من الإشارة النصية، أو «صياغة» مثل «كان يا ما كان» فى الحكايات الشعبية، التى تضع كل من النص والقارىء بداخل نوع معروف، ولكن فقط من أجل مغادرة هذا النوع بأمان، وربما بشكل أكبر تشير إلى جدة الفارق بين الأسلوبين واللغتين. الفقرة التى تتبعها الفقرة السابقة المذكورة، تتحول بشكل سلس إلى ما سيصير اللغة العربية الاعتيادية:

«مضى على تلك الحال يوم وبعض يوم ثم تغير الجو وبدت طلائع العواصف فلم نشعر إلا والتلفون اللاسلكى ينقل هذا النبأ المرعب. (حاذروا فإن آرسين لوبين بين ركاب الدرجة الأولى وهو بغير رفيق، ذهبي الشعر مجروح في عضده الأيمن ينتحل اسم....) ثم عصفت العاصفة ودوي الرعد فانقطع تيار الكهرباء وحيل بيننا وبين بقية اسمه».

عملية الترجمة هنا تشتمل على حركة تفسيرية نشطة ومعقدة ليس فقط بين الأصل والنص المستهدف، ولكن بين أنساق السرد واللغات النوعية. خذ على سبيل المثال المشهد الموجود في القصة نفسها الذي يتسلل فيه لوبين إلى كابينة إحدى الراكبات في غيابها ويسرق مجوهراتها.[46] في النص الفرنسى، يتم سرد المشهد في نصف صفحة بتقنية الفلاش باك في زمن الماضي غير التام (on avait enleve). في النسخة العربية يختار حمزة أن يحرك المشهد إلى مكانه المضبوط المتوافق مع زمنه في القصة ويغير الزمن إلى الماضي التام. في الفقرات التي يقرأ المترجم فيها لحظات الكثافة العاطفية أو الكوميديا الكامنة (التي أُنتجت وسط الأسلوب الساخر للنص الأصلي) يضيف أجزاء وصفية من الشعر. من جهة أخرى، يحافظ على سارد ضمير المتكلم غير المحدد كما هو، وكأن القصص الأصلية تشتمل على سارد مبدئي (أو تقريري) (مثل السارد الأساسي عند الحريري، الحارث بن همام) في الخلفية في شكل صديق لوبين غير المسمى وكاتب التاريخ غير الرسمي.[47]

إلى جانب الرواية نفسها كعمل فني اجتماعي، يوجد ترميز بنيوي وزمني للبطل في هذه االترجمة؛ ترميز يحفظ ويعيد ترتيب الأوضاع القديمة ويضخمها بينما يسعى نحو تعبير اجتماعي جديد لـ «البطل». آرسين لوبين كفرد ليس بعيدًا عن البطل الملحمي العائد للعصر الوسيط الظاهر بيبرس البندقداري[48]، ولكن الاثنين مع ذلك تقريبًا من «أبناء الزمان» الخارقين، وهما محاربان دائمان ضد النظام الاجتماعي الفاسد ويحتفي بهما «العامة» و«الناس». في وصف حمزة الممتد بكثافة والوصف المتبني للرأي العام في ما يتعلق بهروب لوبين المخطط من السجن،[49] يتحول المفهوم الفرنسي لـ «العامة» إلى «أهل المدينة» و«الشخصية البسيطة» التي تتحول تدريجيًا إلى البطل المنتقم عند آرسين لوبين بصحبة مجازات النار والسيف. بالإضافة إلى ذلك، يغير حمزة مستوى الأسلوب السينماطيقي الفرنسي من الوضع غير الشخصي، الذي ينقل البنية السوسيولوجية «الحشد» إلى ضمير الغائب الجمعي، وبالتالي يعرض الهروب الوشيك كنوع من المشهد الجماهيري وليس من قبيل المصادفة أن يكون تصرفًا جمعيًا للعصيان السياسي:

«بينما كل ذلك يجري فى السجن كان الناس فى المدينة ينتظرون خبر فراره على أحر من الجمر ويتمنون من صميم قلوبهم أن يوفق في عمله ليهزأوا برجال الشرطة ويضحكوا منهم طويلًا. فلما قربت الجلسة وعلموا ما نزل به من الحزن وهد القوى بدأ يساورهم القلق وأخذوا فى كل يوم يتناقلون أخباره فاشتد بينهم الجدل وانقسموا فمنهم قانطون من نجاحه يرون أن مصرعه قد حان وأن ثرثرته وحبه للزهو هما اللذان أردياه وأوديا به... ومنهم واثقون به لا ينسيهم ضيق السجن ولا كثرة الحراس ولا اقتراب الجلسة بل يزيدهم ذلك نزوعًا إلى الرجاء وشغفاء بانتظار الساعة التى يكسر فيها كل القيود ويخرج خروج السيف الصقيل من النار».

رمز المحرر

البطل رجل ذو نسب، كلي الوجود، خبير فى التخفي والتنكر، إلى جانب موهبة كونه يستطيع أن يكون في كل مكان في وقت واحد.[50] في قصة بيبرس الرومانسية «سيرة الظاهر بيبرس»، مصير بيبرس مقرر مسبقًا بأمر إلهي وهو محرر ينتظره الشعب منذ وقت طويل ليدفع عنهم الوكلاء الجشعين وأشرار الدولة المملوكية –الوالي، المحتسب، والكاشف– ومساعديهم.[51]  لوبين مُدَمِّر مُعَيَّن ذاتيا لـ «موظفي البنوك الفاسدين، والبارونات الألمان، والشركات المالية والعامة» للجمهورية الثالثة.[52] الاثنان بارعان فى الحيل. لوبين لدى حمزة الذي يعود إلى عام 1910 لا يستدعي فقط الرمز البطولى لبيبرس كإعادة توظيف لمثلث البطل الأكبر فى السيرة؛ مزيج من الشخصيات المختلفة ولكن المتحالفة مع البطل؛ اللص، وخبير التنكر والتخفي؛ العيّار، أو ما يطلق عليه جان-باتريك جوييم (خبير الحيل).[53] الأخير بشكل خاص هو رمز مثير للاهتمام "يتكرر، مع بعض الاختلافات فى معظم السير الملحمية العربية".[54] في سيرة «الظاهر بيبرس» تَجَسَّد هذا الرمز فى شيحة، أكبر الأشرار الذي تجاوز المراتب وانضم إلى بيبرس، ليصير رئيس الخدمات السرية (المجرم تحول إلى محقق؟). قائمة مهاراته الهامة تشبه تمامًا مهارات لوبين:

«هو خبير في مجموعة محددة من المهارات (القدرة على التنكر وانتحال الهوية، والقدرة على التسلل بدون أن يراه أحد إلى الأماكن المغلقة تمامًا والمراقبة جيدًا، يستخدم الخبير المواد الكيميائية المتعددة) التي تجعله مساعدًا مهمًا للبطل، بينما فى الوقت نفسه يسمح للأخير بتجنب أن ينزل نفسه بارتكاب أفعال مشكوك فيها أخلاقيًا في مواجهة قيم الفروسية التى يفترض أن يجسدها».[55]

أما عثمان فكان مثل شيحة، هو اللص والرجل القوي الذي رشحه سيدنا خضر الغامض لبيبرس الرفيق الثانوي المبارك –يوُظَّف عثمان في السيرة كنوع من الوغد والأحمق الحكيم، العنيد ولكن الفضائحي المحب والمخلص الذي تعتمد تسليته المثيرة للشك على السخرية من حمق قوانين الناس.[56] هذه الثيمة المتهربة ثيمة منتشرة فى عالم بيبرس المتعالى أخلاقيًا، الذى يكون القانون الواقعي الوحيد فيه هو قانون الله وكما نعرف تجري أعمال الله بطرق غامضة. يتبادل شيحة وعثمان الأدوار بين الخير والشر، بدون أن تتغير طبيعتهما جوهريًا. هما ليسا «مُخَلِّصين» ولا مصلحين ولكنهم يختارون ببساطة أن يخدما السيد الجديد والقدر المعد إلهيا الذى يمثله. عثمان الساخر بشكل خاص يبدو كلص إلى حد كبير ولكنه لص ممسوس من الله. «هذا الرجل مبارك من الله، من قِبَل مجده، لا تضايقه كثيرًا. فلن يأتي منه إلا الخير»، هكذا يقول الملك الصالح لبيبرس.[57] المجرم كنمط أنطولوجى ليس له مكان فى هذا العالم الذى يحتوي على الحقيقة المختبئة فى حين يتبدى الوهم.

ولكن «القيم الفروسية» للأدب الشعبي التى يستدعيها جيوم بالأعلى تصير محلًا للتساؤل عن طريق هذا البطل المركب الجديد الذي عبَّر عنه لوبين الخاص بحمزة. العديد من المقحمات العربية الأصيلة في الترجمة تساعد على محو الطابع الساخر الذي يعبر عنه لوبين تجاه وضعه كخارج عن القانون ولإرجاعه إلى أن يكون رمزًا أخلاقيًا متناقضًا. لوبين لدى حمزة «واقع» بين اللاأخلاقية الموروثة لنسبه الأدبي المزدوج والمفهوم الجديد للذات الأدبية التى بدأت تتأسس فى مصر: ذاتية ثابتة ومستقرة أخلاقيًا ستصير عن قريب متضمنة فى صعود الرومانتيكية والرواية التربوية العربية bildungsroman. لوبين لدى حمزة رمز انتقالي، وفى الوقت نفسه منفصل عن الحقيقة المطلقة للنسب الإلهي المتعالي وغير متوافق مع الادعاء الصريح لدى الداندى. فى النقلة السيمانطيقية التى تعارض تمامًا روح النص الأصلي، يدرك لوبين الخاص بحمزة طبيعته الأخلاقية المزدوجة، ويسعى جاهدًا للخلاص عن طريق الحب.[58] في اللحظة الدرامية للقبض عليه والتي تمت أمام شابة صاحبها في الرحلة الأطلنطية، قال لوبين جملة ساخرة وحزينة: «ياللعار، أن لا تكون شخصًا أمينًا فى النهاية»، حولها حمزة إلى (رب لا تذرني بعد اليوم شقيًا).[59] الحركة من البطل التقليدي العربي الشعبي إلى البطل المتماسك سيكولوجيًا والواعي أخلاقيًا في الروايات التربوية –تاريخ أدبي مصغر– يمكن اقتفاء أثرها في هذه الجملة المثيرة للاهتمام.

نميل إلى أن نعتقد أن الرواية نوع حديث تمامًا –التعبير الأدبي لغائية حديثة كما يمكن أن نقول– وهي كواقعية وفردية، تُكَوِّن صوتًا ملحميًا للإنسان في عالم هجره الله وفقًا لتعبير جورج لوكاش الشهير. ولكن بترك الواقعية جانبًا كحالة سردية وإبستيم محدد وخاص تاريخيًا، يمكن للمرء أن يزعم أن الرواية الشعبية تنتمي إلى نَسَب مختلف كلية، نسب ذو جذور عميقة وحية وواعية ذاتيًا في القصص الشعبية وبيكاريسك العصر الوسيط. يمكن للمرء بالطريقة نفسها أن يذهب إلى أن اللحظة الأولية التي نطلق عليها «عصر الترجمة والاقتباس» في العالم العربي لم تكن فقط لحظة ترجمة متوجهة قسريًا نحو شكل مثالي «نقي» لما يطلق عليه «الرواية» (أو «الشكل الغربي» بتعبير فرانكو موريتى) ولكنها أيضًا ممارسات وتقاليد نوع محلي تصنع بدورها أساسًا مركزيًا لبناء الرواية الحديثة. بمعنى آخر، تاريخ الكتابة السردية الحديثة في اللغة العربية ليس فحسب تاريخ لـ «... للوفاق بين تأثير الشكل الغربي... والمحتوى المحلي»[60] ولكن بشكل مساو لقاء مستقل مع كل أركيولوجيا نوع الرواية الأوروبية الحديثة. في النهاية، هذه هي الطريقة التي تشكلت بها كل الأنواع في كل من «المركز» و«الهامش»، و«الشرق» و«الغرب»، والطريقة التى تمت بها كل التغيرات في الأنساق النوعية الموجودة، كما أظهر تفيتزان تودوروف وستيفان هيث[61]، لأن الأنواع ما هي إلا «أشكال عملية للإدراك: آفاق للتوقع لدى المستمعين والقراء، ونماذج إنتاج للمتحدثين والكُتَّاب؟»[62]

«بمعنى آخر الأنواع هي تدوين تمثيلي ونموذجي للصفات الخطابية الناقلة التى تماثل المواقف النموذجية للتواصل ومع المفاهيم النموذجية لمن يوجه له الخطاب، سواء كان هذا بمصطلحات الذاتية الخاصة، أو عضوية المجتمع أو الانتماء الديني، أو التوجه الجنسي، أو الوضع الطبقي أو أي شيء... بالإضافة إلى ذلك فهذا النوع يثير الإعجاب، وهو تحريك متخيل للرغبة، يجعل القارىء أو المستمع يحصل على (اللذات) التى تحدد اشتراكه أو اشتراكها فى النوع...».[63]

صياغة هيث المرنة والتاريخانية للنوع (العمليات الاجتماعية التاريخية التي بلا نهاية... الخاضعة للتعديل كمنطوقات جديدة تغير فهمها[64]) بتضمنها لكل من «المتحدثين» و«المستمعين»، باعتبارهما عنصرين مركزيين فى علاقة النوع، تقدم طباقًا لكل من النماذج التقليدية لصعود الرواية العربية والمقاربة النسقية الهيراركية لنماذج المركز-الهامش فى دراسات الأدب العالمى المعاصر. زعم هيث بأن «الأنواع تتشكل دومًا من الأنواع القديمة باعتبارها نصوصًا مضافة مع ممارسات نصية متغيرة تؤشكل مبدأ النوع، أو كخطابات متاحة تتحول معًا إلى شكل مختلف في الكتابة»[65] تتيح لنا أن نتحرك في ما وراء خطاب الاستيراد/التصدير المركزي الأوروبي في كل من النموذجين الذين يستخدمان الترجمة كاستعارة في علاقة التبعية الراسخة التي يفترض أن توجد بين «الغرب وبقية أنحاء العالم» في الحداثة. فكرة سوزان باسنيت وهاريش تريفيدى عن «الأصل الأوروبي العظيم» تقدم مثالًا واضحًا لهذا النموذج:

«فكرة المستعمرة كنسخة أو ترجمة للأصل الأوروبى العظيم تتضمن بشكل حتمي حكم قيمة يضع الترجمة فى مرتبة أقل فى الهيراركية الأدبية. المستعمرة بالتعريف أقل من المُستَعمِر، الذى يمثل أصلها».[66]

حتى عمل فرانكو موريتي النظري الأخير والهام حول خرائطية الرواية[67] لا يساعدنا كثيرًا في فهم الطريقة التي تعمل بها الترجمة –الأساس المطلق لكل المراحل الأدبية عبر الحدود اللغوية والزمنية- كوسيط بلاغي واجتماعي لطبيعة النوع المتغيرة في لحظات التلقي التاريخية المحددة. يفتح لنا التحليل المقرب للحركة الهرمنيوطيقية بين النص وترجمته  فضاء يصير فيه من الممكن استكشاف الفقرات الأدبية المفاجئة غير المنفصلة عن السياقات الاجتماعية التي تشكلها. آرسين لوبين العربي يستحق أكثر من مجرد هامش في أرشيف الأدب العالمي.

 [1]  Le Exploits de Rocambole ou les drames de paris نشرت مسلسلة بشكل غير دوري في صحف باريسية متعددة بين عامي 1859 و1884. ترجم طانيوس عبده أجزاء من العمل، ونُشِر أحد الأجزاء في «مسامرات الشعب» بعنوان «شارب الدماء» عام 1911.

 [2]   بعد مرور عام، نشر طانيوس عبده في السلسلة نفسها ترجمته لرواية كاملة للوبلان عن لوبين، وهي رواية «813» وذلك عام 1911.

[3]  على سبيل المثال انظر في عملين رئيسيين في التاريخ الأدبي: Matti Moosa, The Origins of Modern Arabic Fiction (London: Three continents Press, 1983); وعبد المحسن طه بدر، تطور الرواية العربية الحديثة (القاهرة: دار المعارف، 1992).

[4]  لقراءة دراسة عن الأنواع السرديات المترجمة والمعالجة التي نشرت في هذه الفترة، أنظر: Middle East Studies 4 (2004): 71-90, http://web.mit.edu/cis/www/mitejmes/

[5]  Lawrence Venuti, The Scandals of Translation: Toward an Ethics of Difference (London: Routlege, 1998

 [6]  ظهر لوبين لأول مرة في قصة «L’Arrestation d’Arsene Lupi» «القبض على آرسين لوبين» في المطبوعة الشهيرة Jes Sais Tout 6 (July 15, 1905). أنظر http://www.geocities.com/jessenevins/vicl.html و http://fr.wikipedia.ord/wiki/marius_Jacob#L.27anarchiste_qui_inspira_Maurice_Leblanc

[7]  Yves Varende, “Dickson-Holmes. Le clone retourne a son modele”, Le Rocambole 11 (2000): 85-94

 [8]  Jacques Derouard, Le Monde d’Arsene Lupin (Paris: Encrage, 2003).

 [9]  Maurice Leblanc, Les Aventures Extraordinaires d’Arsene Lupin, Vol. 1 (Paris: Omnibus, 2004), 52

[10]  في الحقيقة، ومن أجل أن يكون في مأمن، قضى أربع سنوات يبحث في قضيته منتحلًا شخصية المفتش الميت لينومراند، رئيس الـ Surete، الشرطة السرية الفرنسية.

  [11]  Meme-et peut-etre surtout-il y a au debut des annees 1910 un notable changement dans notre literature: le 2 mai 1911, Alain-Fournier constate dans paris-journal “La fin du roman psychologique”. L’equipe de la Nouvelle Revue Francaise, face a la “crise du roman”, pense que la nouvelle forme de ce genre de litteratue doit etre celle du “roman d’aventure”. Ce a quoi s’essaie Andre Gide, qui donne au debut le 1914 Les Caves du Vatican. Mais n’est pas Maurice Leblanc qui veut…:, Derouard, Le monde, 7

 [12]  Derouard, Le monde, 7. كل الترجمات الإنجليزية المتخذة من المصادر الأولية والثانوية هي ترجماتي، وحذفت النص الفرنسي الأصلي.

 [13]   Leblanc, Les Aventures extraordinaires, 31.

 [14]  Ibid, 23

 [15]  Valentin Groebner, “Describing the person, Reading the signs in Late Medieval and Renaissance Europe: Identity Papers, Vested Figures, and the Limits of identification, 1400-1600” in Documenting Individual Identity: The Development of state practice in the modern world, ed. Jane Caplan and John Torpey (Princeton, NJ: Princetopn University Press, 2001), 16

  [16]  Pierre Piazza and Xavier Crettiez, eds, Du Papiet a la biometrie, Identifier les indvidus (Paris: Presses de sciences politiques, 2006), 34

  [17]  Jane Caplan and John Torpey, “Introduction”, in Documenting Individual Identity: The Development of State Practices in the Modern World, ed. Jane Caplan and John Torpey (Princeton, NJ: Princeton University), 1-12

 [18]  Ibid, 8

 [19]  Daniel Pick, Faces of Degeneration: A European Disorder, 1848-1918 (Cambridge University Press, 1996).

 [20]  Caplan and Torpey, Introduction, 7-8

 [21]  Maryvonne Bernard, ‘La reorganization de la polive sous le Second Empire (1851-1858): “des bras infatigables”, in Maintien de L,Ordre et Polices en france et en Europe au XIXe siècle, Societe d’Hosoire de La Revolution de 1848 et des Revolutions du XIX siècle (Paris: Creaphis, 1987), 119

 [22]  Martine Kaluszunsky, “Republican Identity: Bertillonage as Government Teqnique”, in “Documenting Individual Identity: The Development of State Practices in the Modern World, ed, Jane Caplan and John Torpey (Princeton, NJ: Princeton University Press, 2001), 125-7

 [23]  Ibid, 127.

 [24]  Ibid, 128

 [25]  L. Herbette cited in Kaluszynsky, “Republican Identity”, 227.

 Caplan and Tropey, “Introduction”, 8[26]

 [27]  على سبيل المثال «شيري بيبي» لجاستون لورو، و«فانتوماس» لمارسيل آلان، وبالطبع آرسين لوبين للوبلان. هذا التيار الفرنسي ظهر بشكل جزئي من روايات منتصف القرن التي تنتمي لنوعي الغموض والقوطية الجديدة اللذين تميزت فيهما شخصيتا إدمون دانتي عند دوما وشخصية روكامبول لدو ترايل. See Jean-Claude Vareill, L’homme masque: Le Justicer et le detective (Paris: presses universitaires de lyon, 1989).

 [28]  صلاح عيسى، رجال ريا وسكينة: سيرة سياسية واجتماعية (القاهرة: دار الأحمدي للنشر، 2002)، 587-95.

[29]  يستعيد السير توماس راسل باشا، نائب حكمدار القاهرة ثم رئيس الشرطة من عام 1913 إلى عام 1929، ذكريات جذابة وطريفة عن ممارسات الشرطة التي تعيقها بلا نهاية عمليات التلاعب بالوثائق: «عطلنا التلاعب بالأوراق على الدوام تقريبًا، خاصة في التعامل مع المواخير غير المرخصة التي يديرها الأجانب. أحد المواخير الكبيرة وذات الشعبية تحدى البمباشي كوارتيير، كبير محققينا، وتحداني لعدة أشهر بالتلويح بجنسية المالكة التي تتغير باستمرار. لم يكن بإمكان الشرطة الدخول إلى منزل أجنبي بدون موافقة  وحضور القنصل أو أحد ممثليه. عندما وصلنا مع المحقق القنصلي الفرنسي وطالبنا من المالكة الفرنسية الدخول، انفتحت العين السحرية من الباب الأمامي وقال صوت أجش إن مدام إيفون باعت المنزل لمدام جنتيلي، وهي من الرعايا الإيطاليين، وبدون ممثلي القنصلية الإيطالية لن نتمكن من الدخول. في الأسبوع التالي جئنا بالمحقق الإيطالي ليقابلنا تغيير في جنسية المالكة». كوارتيير الذي استفزه الأمر كثيرًا، جمع في إحدى الليالي سبعة ممثلين أمام الباب الموصد، وبعد أن أبلغ المالكات المتخيلات بوجودهم واحدًا بعد الآخر استطاع الدخول وتنفيذ القانون.

Thomas Russel, Egyptian Service 1902-1946 (London: John Murray, 1949), 182.

عديدة هي القصص المشابهة لهذه القصة. في التاريخ الاجتماعي المبهر لللإسكندرية في الربع الأول من القرن العشرين، يصف صلاح عيسى كيف استطاع الفتوات المصريون التهرب من الشرطة باستمرار، وعاشوا معيشة استثنائية بعد الحصول على جنسية فرنسية من خلال تقديم وثائق تدل على نسبهم اللبناني.

عيسى، رجال ريا وسكينة، 81-82.

 [30]   عيسى، رجال ريا وسكينة، و Russel, Egyptian Service

[31]  Gabriel Baer, “The Transition from Traditional to Western Criminal Law in Turkey and Egypt’, Studia Islamica 45 (1977): 139-58; Rudolph Peters, “Murder on the Nile: Homidice Trials in 19th century Egyptian Shari’s Courts, Die Welt des Islams 30, no. ¼ (1990): 98-116;  Rudolph Peters, Ïslamic and Secular Criminal Law in Nineteenth Century Egypt: the Role and Function of the Qadi, Islamic Law and Society 4. No. 1 (1997): 70-90; and Rudolph Peters,

 [32]  Khaled Fahmy, “The Anatomy of Justice: Forensic Medicine and Criminal Law in Nineteenth Century Egypt, Islamic Law and Society 6, no. 2 (1999a): 224-71; and Khaled Fahmy, “The Police and the People in Nineteenth Century Egypt”, Die welt des Islams 39, no. 3 (1999b): 340-77

[33]  موريس لوبلان، اللص الظريف (الترجمة العربية لي Les Aventures extraordinaire dÁrsene Lupin))، ترجمة، عبد القادر حمزة، مسامرات الشعب، 118 (القاهرة: مطبعة الشعب، 1910)، 51.

 [34]  يخبر لوبين جانيمار لاحقًا أنه درس بحرص نظام برتيون ليعرف الأخطاء والخروق الممكنة فيه.
Leblanc, Les Aventures extraordinaire, 52.

 [35]  Leblanc, Les Aventure extraordinaires, 44.  التوكيد من عندي.

 [36]  ]  Timothy Mitchell, Colonising Egypt (Berkeley & Los Angeles: University of California Press, 1991); Omnia El Shakry, The Great Social Laboratory: Subjects of Knowledge in Colonial and Postcolonial Egypt (Stanford: Stanford University Press, 2007); and Samah Selim, “Traduire ‘- la race –“: Ahmad Fathi Zaghlul, Gustave Le Bon et la Nahda en Egypte, Actes du colloque, La traduction des sciences humaines et sociales dans le monde arabe contemporian (Casablanca: Publications de la Fondation du Roi Abdu-l-Aziz al Sau’d pour les etudes islamiques et les sciences humaines, 2008), 87-100

 [37]  وصف فرانسيس جالتون هذا الموقف من منظور كولونيالي مميز: «سواء كان هذا من منطلق استحالة تحديد مجموع المواطنين من خلال توقيعاتهم، أو من منطلقة صعوبة التمييز بينهم من خلال الأسماء، أو عادات الانتقال، أو من انتحال الشخصية أو الشهادات الزور السائدة بينهم، كانت هناك حاجة قوية لمكتب تحقيق شخصية في كل من الهند ومصر».

Francis Galton, “Identification Offices in Egypt and India”, The Nineteenth Century 48 (1900): 119.

أنا ممتنة لأمنية الشاكري من أجل هذا الهامش والذي يليه.

 [38]  Galton, “Identification Offices”, 124.  في حوالي عام 1905، تلقى ج. ل. كريج، مدير إدارة الإحصاء في هيئة الإحصاء المصرية، 10 آلاف وثيقة كجزء من مشروع مستمر عن الأنثروبولوجيا المقارنة بين المصريين القدامى والمحدثين. انظر:

J.l. Craig, “Anthropometry of Modern Egyptians”, Biometika 8, nos 1-2 (1911): 66-78.

[39]  كان التجنيد والسخرة هما أوضح ظاهرتين متعلقتين بهذا. ولكن كانت الدولة أيضًا مصدر توظيف مرحب به. يصف جالتون أحد استخدامات قلم التحقيق بالقاهرة: «... لإيجاد أي المرشحين للوظائف المهمة قد أدينوا في جرائم خطيرة. أحد الوظائف الصغيرة ولكنها كانت مرغوبة، كانت وظيفة الحارس الليلي، التي كانت تتغير أسبوعيًا. في كل يوم إثنين، حوالي مائتين متقدم يعرضون أنفسهم، ومنهم يتم اختيار عشرين شخصًا. يتم اختيار الواعدين منهم  مؤقتًا، يجري قياسهم واتخاذ بصمات أصابعهم. يجري البحث، وإذا لم توجد جرائم مسجلة عليهم يتم تعيينهم. ولكن فرص الاستبدال تجري بين الاختيار المؤقت والنهائي، وفي الفترة التي يمر فيها المرشح المؤقت من غرفة إلى غرفة في الممرات المزدحمة، يُختم كل منهم بختم أحمر رسمي على كف اليد. بدون هذه العلامة لن يقاس المرشح ولن يحصل على الشهادة. يتم استخدام منهج مختلف في خدمة التجنيد، يكون على المجند أن يساق بعيدًا إلى موقع القياس، وهكذا يكون من الضروري أن يحصل على علامة أكثر رسوخًا من الختم الأحمر على كف اليد. هكذا يعامل المرشحون جميعًا كأنهم حزمة، على وشك أن تُرسل سليمة من خلال أرض غريبة؛ يكون مطوقًا. يلف حبل حول عنقه، نهاياته معقودة من خلال ثقوب في الطوق، ومقفل بصامولتين جامدتين عليهما الختم الرسمي الذي لا يمكن خلعه إلا بقطعه».

 [40]   Leblanc Les Aventures extraordinaires, 21 التوكيد من عندي.

 [41]  Boaz Shoshan, ön Popular Literature in Medieval Cairo”, Poetics Tody 14, no. 2 (1993): 349-65

 [42]  نعرف من العديد من الشهادات والمذكرات ومن الأدب نفسه –روايات نجيب محفوظ على سبيل المثال- أن مهنة «الحكواتي»، ظلت موجودة في مصر وسوريا حتى الحرب العالمية الثانية. انظر رواية نجيب محفوظ «زقاق المدق» للاطلاع على وصف مبهر لنهاية هذه المهنة التي امتد عمرها لقرون. انظر أيضًا:

Thomas Herzog, “Le Dernier contour de Damas?”, in Lectures du roman de baybars, ed Jean-Claude Garcin (Marseille: Editions Parentheses, 2003), 209-29; and Claude Audebert, “Le Public egyptien dáujourd,hui et la literature de sira, in Lectures du Roman de Baybars, ed. Jean-Claude Garcin (Marseille: Editions Parentheses, 2003), 231-43.

[43]  من كتاب بدر، تطور الرواية، 122

 [44]  وفقًا لبدر، كان رأي محمود خيرت، وهو أحد الكتاب المعاصرين لحمزة، أن الميل الأدبي الأوربي للوصف الذي لا ينتهي كان مصدر ضجر كبير للقارئ العربي. بدر، تطور الرواية، 143.

 [45]   لوبلان، اللص الظريف، 1.

 [46]  Leblanc, Les aventures extraordinaires, 14-15 ولوبلان، اللص الظريف،9-10.

 [47]  هذا السارد الأساسي لا يظهر سوى مرة واحدة في الخمس قصص التي اختار حمزة ترجمتها، في نهاية لا بداية قصة «القبض على آرسين لوبين».

 [48]  العلامة الوحيدة التي تدل على أن بيبرس بطل –وتشير حتى إلى هويته- هي العلامة الغامضة الموجودة على جبينه، بينما تتمثل هوية لوبين، في غياب كل العلامات، وذلك يشكل شخصيته المستقرة والمعروفة.

 [49]   Leblanc, Les Aventures extraordinaires, 43 ولوبلان، اللص الظريف، 87-88.

 [50]  Jacqueline Sublet, “Un heros populaire dans un espace encombre” Arabica LI, nos 1-2 (2004): 144. "

كما أشرت فمن المحتمل أن يكون لوبين ابنًا لخياطة ضربها الفقر، في حين أن بيبرس أمير من منطقة غامضة في وسط آسيا، اشتراه تاجر للعبيد ووصل إلى دمشق بعد سلسلة الحوادث.

 [51]  Thomas Herzog, “La Sirat Baybars, Histoire dún texte, in Lectures du Roman de Baybars, ed. Jean-Claude Garcin (Marseille: Editions Parentheses, 2003), 31-60.

[52]  Derouard, Le monde, 106.

 [53]  Jean-Patrick Guillame, “la Sirat Baybars et la tradition du roman epique arabe”, in Lectures du Roman de Baybars, ed. Jean-Claude Garcin (Marseille: Editions Paretheses, 2003), 86.

 [54]  Ibid.

  [55]  Ibid التأكيد من عندي.

 [56]  Denis Gril, “Du sultanat au califat universel: le role des saints dans le Romans de Baybars, in Lectures du Roman de Baybars, ed. Jean-Claude Garcin (Marseille: Editions Parentheses, 2003), 183-185.

 [57]  مقتبس من السابق

  [58]  أول علاقة حب في هذه المجموعة الأولى من روايات لوبين كانت بين لوبين ووريثة أمريكية تدعى ميس نيلي، التي قابلها في القصة الأولي (القبض على آرسين لوبين) بينما كانا يعبران المحيط الأطلنطي، ثم تم ذكرها في القصة الأخيرة (هرلوك شولمز يصل متأخرًا) بينما يعد لعملية سرقة معقدة في قصر ريفي متنكرًا في شخصية فنان باريسي عصري. وصف حمزة بشكل موسع اللقاءات العابرة في النص الأصلي بطريقة في غاية الشاعرية اكتملت بمونولوجات داخلية ممتدة وبعض أبيات الشعر.

انظر: موريس لوبلان، اللص الظريف، ت: عبد القادر حمزة، مسامرات الشعب، 118. على متن البحر، 1-22. أول النضال (بين آرسين لوبين وشيرلوك هولمز)، 140-88.

 [59]  Leblanc, Les Aventures extraordinaires, 21، ولوبلان، اللص الظريف، 30.

 [60]  Franco Moretti, “Conjectures on World Literature”, in Debating World Literature, ed. Christopher Prendergast (London: Verso, 2004), 152.

كلمة «التوفيق» هناك التي بالطبع ما تشير إلى أفكار الحرب والسلام، تمثل أفكار موريتي في نظريته عن «العوالم الثلاثة» للإنتاج الأدبي، انظر

Atlas of European Novel

 [61]  Tzvetan Todorov, The Fantastic: A Structural Approach to a literary Genre, trans. Richard Howes (New tork: Cornell University Press, 1975); and Stephen Heath, “the Politics of Genre”, in Debating World Literature, ed. Christopher Prendergast (London: Verso, 2004), 163-74

 [62]  Heath, “The Politics of Genre”, 169.

 [63]  Ibid.

 [64]  ibid. 170

[65]  Ibid.

 [66]  Susan Bassnet and Harish Trivedi, eds, Postcolonial Translation: Theory and practice (London: Routledge, 1999), 4

 [67]   Franco Moretti, Graphs, Maps, Trees (London: Verso, 2005).