التراجيديا والإنسان العادي - آرثر ميلر
 
ترجمة: حسين الحاج
مراجعة: أمير زكي ونهلة عثمان
 
*يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
 
 
 
***

 

قليلة هي التراجيديات التي كُتبت في هذا العصر. وكثيرًا ما قيل إن هذه الندرة ترجع إلى قلة الأبطال بيننا، أو لأن الشك العلمي أفرغ الإنسان الحديث من إيمانه، والهجوم البطولي على الحياة لا يمكن أن يستند على الموقف المحافظ والحذر. ولسبب أو لآخر، فغالبا ما نعتقد أننا أدنى من التراجيديا أو أنها أعلى منا، فيصبح الاستنتاج الحتمي أن الوضع التراجيدي قد عفا عليه الزمن، وأنه لا يتناسب إلا مع ذوي المقامات العالية، مثل الملوك أو من يتصفون بصفات الملوك، وإن لم يتم الاعتراف بذلك علانية، فإنه عادةً ما يكون مفهومًا ضمنيًا.

أعتقد أن الإنسان العادي مناسب كموضوع للتراجيديا في أرقى معانيها مثلما كان الملوك. ويبدو أن هذا يجب أن يكون واضحًا في ضوء الطب النفسي الحديث، الذي أسس تحليله على المركبات الكلاسيكية التي تمثلت في الشخصيات الملكية، مثل عقدتي أوديب وأورستيس على سبيل المثال، لكنها تنطبق على الجميع في الحالات الانفعالية المماثلة.

وببساطة أكثر، عندما تكون مسألة التراجيديا في الفن خارج النقاش، لا نتردد في أن ننسب للشرفاء والعظماء نفس ذهنية المنحطين. وأخيرًا، إذا كان سمو العمل التراجيدي خاص بالشخصيات الرفيعة وحدها حقًا، فمن غير المعقول أن البشرية ستمجد التراجيديا دونًا عن الأشكال الأخرى، ناهيك أن تكون قادرة على استيعابها.

كقاعدة عامة -ربما هناك بعض الاستثناءات التي لا أعلمها- أظن أن الشعور التراجيدي يتولد داخلنا عندما نجد أنفسنا في موقع شخصية على استعداد للتضحية بحياتها، إذا تطلّب الأمر ذلك، حتى تكفُل شيئًا واحدًا، وهو شعورها بكرامتها. صراعات الفرد المتضمنة من أورستيس إلى هاملت، ومن ميديا وحتى ماكبث، هي محاولاته نحو اكتساب موقعه العادل في المجتمع.

أحياناً يكون البطل التراجيدي قد حُرم من هذا الموقع، وأحياناً يسعى إلى تحقيقه للمرة الأولى، ولكن جرحه المميت -الذي تلتف حوله الأحداث الحتمية- هو جرح الذل، والنقمة تكون دافعه القاهر. التراجيديا، حينئذ، هي العاقبة الشاملة لاضطرار الإنسان إلى أن يُقَيِّم نفسه تقييمًا عادلًا.

تكشف القصة دائمًا، ربما بمبادرة البطل نفسه، عما يسمى بخطئه التراجيدي، وهو خلل لا يقتصر على الشخصيات العظيمة أو الراقية. وليس أيضًا بالضرورة موطن ضعف. الخلل، أو الضعف في الشخصية، هو في الحقيقة لا شيء، ويلزم أن يكون لا شيء، سوى تأصل رفضه أن يظل سلبيًا في مواجهة ما يتصور أنه يمثل تحدٍيًا لكرامته وصورته ومنزلته العادلة. فقط السلبيون، أولئك الذين يرضون بقسمتهم بلا انتقام فعلي، هم الخالون من هذا الخطأ. معظمنا يندرج تحت هذا التصنيف.

لكن بيننا الآن، كما كانوا موجودين دائمًا، هناك مَن يعملون ضد مخطط الأشياء الذي يحط من قدرهم، وأثناء سير الأحداث يهتز ويخضع للاختبار كل شيء قبلناه بسبب الخوف أو اللامبالاة أو الجهل، وينبع الرعب والخوف الذي يرتبط بالتراجيديا بصورة كلاسيكية من الهجوم الشامل للفرد على الكون الثابت ظاهرًيا من حولنا ومن هذا الاختبار الشامل للبيئة “المستقرة”.

الأهم من ذلك أننا نتعلم من هذا الاستفهام الشامل لما لم يُطرح للسؤال من قبل. وهذه العملية ليست أدنى من مستوى الإنسان العادي، فلقد برهن مرارًا وتكرارًا على الدينامية الداخلية لكل التراجيديات في الثورات العالمية خلال الثلاثين سنة الماضية.

ليس الإصرار على مقام البطل التراجيدي، أو ما يسمى بنبل شخصيته، في الحقيقة، إلا تعلقًا بالشكل الظاهري للتراجيديا. وإذا كان لا غنى عن مقام أو نبل الشخصية، سيُفهم من ذلك إذن أن مشاكل ذوي المناصب هي مشاكل تختص بها التراجيديا. لكن لم يعد حق أي سلطان في الاستيلاء على نفوذ سلطان آخر يثير عواطفنا بالتأكيد، ولا مفاهيمنا حول العدالة هي نفس ما كانت عليه في عقل الملك الإليزابيثي.

ولكن السمة التي تؤثر فينا في تلك المسرحيات مستمدة من الخوف الكامن من أن نصبح معزولين، من الكارثة المتأصلة في أن نبتعد كُرهًا عن صورتنا المختارة عما نحن في هذا العالم أو من نحن، لقد أصبح هذا الخوف بيننا اليوم قويًا، وربما الأقوى، مما كان عليه أبدًا. في الحقيقة، الإنسان العادي هو أفضل من يعرف هذا الخوف.