اختار الصحفي والناقد الإنجليزي روبرت مَكروم قائمتين لأفضل مائة عمل سردي وأفضل مائة عمل غير سردي باللغة الإنجليزية، وكتب مقالًا يخص كل عمل منهم. نترجم في هذه السلسلة بعض هذه المقالات.

أفضل 100 عمل غير سردي بالإنجليزية: رقم 52 – «من الأعماق» لأوسكار وايلد (1905)

عن الجارديان، 30 يناير 2017

ترجمة: أمير زكي

أغسطس 2018

خاص بـ Boring Books*

*يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***

أوسكار وايلد لتولوز لوتريك

حظي أوسكار وايلد، خلال حياته وبعد موته، بعبقرية فريدة نسجت الأسطورة من حولها. قبل أن يؤمِّن لنفسه مكانًا بين أعظم المسرحيين في بريطانيا بوقت طويل، جلب لنفسه التحقق كأيقونة خفيفة الظل تُعَبِّر عن المثال الإستطيقي. بحلول ربيع عام 1882، حين ذهب إلى أمريكا ليعلن عن «عبقريته»، كان يُحتفى به في كل من الولايات المتحدة وإنجلترا (حيث سخر جلبرت وسوليفان من حركة وايلد الإستطيقية التي تَمَثَّلّت في شخصية الشاعر بونثورن في أوبرا بيشانس)[i]، ولم يكن منبع ذلك كتابته فقط ولكن شخصيته بالقدر نفسه. لفترة اتسمت بالقِصَر الموجع، استمرت حتى صيف عام 1894، حين كتب مسرحية «أهمية أن تكون جادًا» في ثلاثة أسابيع، توهَّج وايلد وكأنه شهاب مر بلندن الفكتورية قبل أن يسقط ويحترق أثناء محاكمته أمام محكمة أولد بيلي (بعد كارثة قضية التشهير التي رفعها على ماركيز كوينزبري[ii]) في مايو عام 1895. لو كان فنانًا أقل قيمة لربما انكسر بفعل السقوط، أما وايلد فقد استلهم التجربة.

في زنزانته، بين شهري يناير ومارس عام 1897، وتمهيدًا لإطلاق سراحه من سجن ريدينج في أبريل، بدأ أوسكار وايلد كتابة رسالة غير عادية. أراد أن يتحدث عن علاقته سيئة السمعة مع لورد ألفرد دوجلاس، وهي قصة حب تتسم بسمات نهاية القرن التاسع عشر وتحولت سريعًا إلى مأساة مميتة. ظل «بوزي» لامباليًا تجاه حبيبه السابق طوال المدة التي قضاها وايلد بالسجن والتي استمرت لعامين («مع الأشغال الشاقة»)، وصارت مسودة الـ 80 صفحة التي كُتبت في عشرين ملزمة من أوراق السجن الزرقاء الرفيعة تعبيرًا عن سعي وايلد الممزق لتحقيق التقارب. الرسالة التي بدأت ساعية للتصالح تحولت إلى فصل سيرة ذاتية مؤثر وشديد الجاذبية، ودفاع إستطيقي، وأخيرًا إنجاز سردي لأحد عباقرة العصر الفكتوري المتأخر. (كان عنوانها الأول: «خطاب: من السجن، مكبلًا بالأغلال»).

كان وايلد على الدوام أستاذًا في التنكر والتجسيد، ومسرحية «أهمية أن تكون جادًا» كلها عن الحياة المزدوجة. في «من الأعماق» (الاسم متخذ من المزمور 130)، يضع قناع السجين الملطخ بالعار والنادم ليراجع علاقته مع بوزي، محاولًا ممارسة نوع من الاعتراف، وبعد التطهر المناسب، يعبِّر عن «حالة جديدة من الإدراك الذاتي». وبعد مرور أكثر من قرن على ظهورها الأول (صديق وايلد روبرت روس هو من وضع العنوان النهائي للمسودة وأعدها للنشر)، ما زالت الصراحة القاسية التي كثيرًا ما اتسمت بتبكيت الذات، والتي أظهرها وايلد دون تحفظ، صادمة لنا.

في البداية تحدث عن ذروة العلاقة، والشغف اللامبالي وغير المسؤول، وانغماسه المُهمِل في صداقاته مع الشباب الأصغر سنًا:

«منذ البداية، كانت هناك هوة شديدة الاتساع بيننا، كنت بليدًا في مدرستك، وازددت بلادة أثناء دراستك الجامعية. لم تدرك أن الفنان يحتاج إلى رفقة الأفكار والمناخ الذهني والهدوء والسكينة والعزلة من أجل تطور فنه».

مع سيطرة إدراك وايلد لعملية هدمه لذاته، استعاد التسلسل البشع للأحداث التي أدت لسقوطه وتلطيخه بالعار وسجنه: «كان كل شيء في مأساتي بشعًا. يجعلنا زي (المدانين) أشبه بغريبي الأطوار. نحن مهرجو الحزن...».

إحدى الفقرات الشهيرة تستدعي انتقال السجين من لندن إلى ريدينج، بالقطار، في 13 نوفمبر عام 1895:

«من الساعة الثانية وحتى الثانية والنصف من ذلك اليوم كان عليَّ أن أقف على الرصيف الرئيسي في محطة كلافام جانكشن، مقيدًا وأرتدي زي المدانين، والعالم بأسره ينظر إليَّ. كنتُ الأكثر غرابة بين كل الأشياء. عندما رآني الناس ضحكوا، جاء كل قطار مكتظًا بالركاب المتفرجين. لنصف ساعة وقفت هناك تحت أمطار نوفمبر الرمادية، محاطًا بعصبة متهكمة. ولمدة عام تلت ما حدث، بكيت كل يوم في نفس الساعة ونفس القَدْر من الزمن».

تًظهِر هذه الفترة أسوأ ما في أعماق وايلد وأدناها؛ هكذا يحظى كتاب «من الأعماق» بقوة وثقة في الوقت الذي يرصد فيه السجين ذكريات عمله الرائع كـ «رجل وقف في نقطة تقاطع العلاقات الرمزية للفن والثقافة في عصره». يقارن بين لحظات الذروة في فنه ونجاحه المدهش بإذلال الإفلاس والسجن. كان عليه أن يتصالح بشكل ما مع فكرة أن «أوسكار» العظيم صار رقمًا كئيبًا من أرقام السجن «ج.3.3»، تحول إلى شفرة. بعض الأجزاء الأخرى في «من الأعماق» تحيل إلى حملة وايلد اللاحقة لإصلاح السجون («نظام السجن خاطئ تمامًا وكلية») ومصير سجناء النظام، وهو الهوس الذي وصل إلى ذروته في «قصيدة سجن ريدينج»؛ عمله الشعري الأبرز.

وبينما كانت عضلاته الفنية تتعافى وتستعيد بعضًا من إمكانياتها القديمة، تجرَّأ وايلد وشَرَع في عقد مقارنة بين حياته كفنان وحياة المسيح؛ وهي الفكرة التي ترددت من آن لآخر في أعماله السردية الأبكر، خاصة «الناقد فنانًا» (1890)، و«روح الإنسان في ظل الاشتراكية» (1891). لدى وايلد، الفنان النبيل، تُمثِّل شخصية المسيح النمط الأسمى للخالق المعذَّب، وكذلك تُمَثِّل فكرة الفرداني المطلق. في أوقات الانحطاط والإذلال التي مر بها أثناء محاكمته عام 1859، وجد وايلد حسًّا من التألق في ممارسة دوره كشهيد، وهو الدور الذي سرَّه أن يشارك فيه ابن الله.

لا يمكن أن يعني هذا أن أوسكار وايلد كان يعوزه الإيمان بذاته، ، يكتب: «تنبأت بكل هذا وأشرت إليه في فني... يختبئ قدر كبير منه في النغمة الملعونة الأشبه بخيط أرجواني يغزل النسيج الذهبي لكتاب (دوريان جراي)».

«أرى الآن أن الحزن هو مصدر كل الفنون العظيمة ومحل اختبارها. ما يسعى إليه الفنان على الدوام هو حالة الوجود التي لا تفترق فيها الروح عن الجسد: التي يكون فيها الخارجي معبرًا تمامًا عن الداخلي... التي فيها يَتَكشَّف الشكل...».

«لدى الفنان، التعبير هو الحالة الوحيدة التي يمكن من خلالها فقط تصور الحياة. لديه يكون كل شيء أبكم ميتًا. ولكن لدى المسيح لم يكن الأمر كذلك...».

بعد أن يذكر هذه الروابط الطَنَّانة، تنحدر الرسالة إلى ممارسة التقريع المستمر لشخصية بوزي وسلوكه، وقد كانت «عادته الرهيبة في كتابة رسائل مهينة» هي أدنى السمات المزعجة في شخصية الشاب الذي أدى غروره وجشعه وخيانته وتمركزه الخبيث حول ذاته إلى جذب وايلد وإسقاطه.

مع ذلك فالملحوظ أن وايلد ينهي رسالته بتعليمات عن سلوكهما المشترك في المستقبل بعد أن يُطلَق سراحه، وينهى الرسالة بلهجة تصالحية:

«لقد جئت إليّ لتتعلم عن لذة الحياة ولذة الفن، ولربما اختِرت لأعلمك شيئًا أكثر روعة؛ معنى الحزن وجماله. صديقك العزيز. أوسكار وايلد».

ليس من الصعب أن نستنتج أن وايلد بَذَل سرده الرفيع المثير على بوزي. بعد ثلاثة أعوام ونصف من إكمال هذه الوثيقة الاستثنائية، توفى وايلد في عمر السادسة والأربعين.

أبرز الفقرات

«إن صداقتنا الملعونة والمثيرة للرثاء أدت إلى تحطيمي والإساءة إلى سمعتي. إلا أن ذكرى عاطفتنا القديمة كثيرًا ما تراودني، وفكرة أن يشغل الاحتقار والمرارة والازدراء الموضع الذي شغله الحب من قبل فكرة تجلب الحزن إلى نفسي. وأظن أنك تشعر في قرارة نفسك أن كتابتك لي وأنا أعيش وحدي حياة السجن، أفضل من نشر رسائلي دون إذني، أو إهداء قصائد لي دون أن تسألني، رغم أن العالم لن يعرف شيئًا عن طبيعة كلمات الأسى أو العاطفة، أو الندم أو اللامبالاة التي ربما تختار إرسالها لتمثِّل ردك أو مناشدتك».

[i]  في إشارة إلى الكاتب المسرحي و. س. جلبرت (1836-1911) والموسيقي آرثر سوليفان (1842-1900) وكان من أبرز أعمالهما أوبرا patience (1881) التي كانت تتهكم من الحركة الإستطيقية التي تصدرها وايلد.

[ii]  رفع وايلد القضية على ماركيز كوينزبري لأنه اتهمه بالسدومية (المثلية الجنسية) ووفقًا للقانون البريطاني وقتها، كانت فرصة ماركيز كوينزبري في تبرئة نفسه تتمثل في إثبات التهمة على وايلد.