حياة ماركس وأثره

بيتر سينجر

من كتاب: ماركس، مقدمة قصيرة جدًا

ترجمة: أمير زكي

مايو 2018

النص هو ترجمة الفصل الأول من كتاب «ماركس: مقدمة قصيرة جدًا» لبيتر سنجر*، Marx: A very short Introduction – Peter Singer – Oxford University Press -2000

* بيتر سينجر (1946) فيلسوف أسترالي وأستاذ الأخلاق الحيوية بجامعة برنستون

نُشرت الترجمة بموقع المنصة

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

 
***
 
من موقع The Week

يمكن أن نقارن تأثير ماركس فقط بالرموز الدينية مثل يسوع ومحمد. في جل النصف الثاني من القرن العشرين، عاش حوالي أربعة من كل عشرة أشخاص على الأرض في حكومات اعتبرت نفسها ماركسية، وزعمت أنها تستعين بالمبادئ الماركسية لتحديد كيفية إدارة البلد، حتى لو كان هذا أمرًا غير مصدق. في تلك البلدان، كان ماركس أشبه بيسوع العلماني، كانت كتاباته المصدر النهائي للحقيقة والمصداقية، رُفعت صورته بتوقير في كل مكان. تأثرت حياة مئات الملايين من الناس بعمق من ميراث ماركس.

لم يقتصر تأثير ماركس على المجتمعات الشيوعية، أجرت الحكومات المحافظة إصلاحات اجتماعية لتقطع الطريق على حركات المعارضة الماركسية الثورية. ولكن المحافظين تصرفوا أيضًا بأساليب أقل لطفًا؛ ساعدوا موسوليني وهتلر للوصول للسلطة لأنهم رأوا في قوميتهما المتعصبة ردًا على التهديد الماركسي. وحتى لو لم يكن هناك تهديد من الثورة الداخلية، ساعد وجود عدو ماركسي أجنبي في تبرير الحكومات لتزايد الإنفاق على السلاح وتقييد الحقوق الفردية باسم الأمن القومي.

على مستوى الفكر وليس السياسة العملية، كان إسهام ماركس واضحًا بنفس القدر. هل يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع من دون الرجوع إلى رؤى ماركس المتعلقة بالروابط بين الحياة الاقتصادية والفكرية؟ أدت أفكار ماركس إلى ظهور علم الاجتماع الحديث، وغيَّرت دراسة التاريخ، وأثرت بعمق في الفلسفة والأدب والفنون. بهذا المعنى نحن جميعًا ماركسيون الآن، مع الاعتراف باستخدامي معنى فضفاضًا للمصطلح.

وُلد كارل ماركس في مدينة ترير بمنطقة الراينلاد الألمانية عام 1818. كان أبواه، هينريش وهنرييتا، من أصل يهودي، ولكنهما تحولا إلى البروتستانتية اسمًا لتيسير الأمور على هينريش ليتمكن من ممارسة المحاماة. كانت الأسرة ميسورة ماديًا ولكنها لم تكن ثرية، اعتنقوا أفكارًا ليبرالية تجاه الدين والسياسة ولكنها لم تكن راديكالية.

بدأت حياة ماركس العملية بشكل سيء؛ في عمر السابعة عشر، توجه لدراسة القانون في جامعة بون، وفي خلال عام سُجن بسبب الثمالة، وجُرح جرح طفيف في مبارزة. كتب أيضًا قصائد حب لحبيبة طفولته جيني فون فستفالين. سريعًا ما نفد صبر أبيه من هذا «الطيش الجامح» كما دعاه، وقرر أن ينتقل كارل لجامعة برلين الأكثر جدية.

في برلين تحولت اهتمامات ماركس إلى الفكر، وغيَّر دراساته من القانون إلى الفلسفة، لم يعجب ذلك أبيه، «حل ارتداء رداء المنزل بشعر منكوش محل انحطاط كأس الجعة»، هكذا كتب إليه في رسالة لائمة. ولكن موت أبيه وليس رسائله اللائمة هو ما أجبر ماركس على التفكير بجدية في حياته العملية، لأنه من دون دخل أبيه لن تستطيع عائلته الإنفاق عليه إلى ما لا نهاية. هكذا بدأ ماركس العمل على رسالة دكتوراه بغرض أن يحصل على فرصة للتدريس بالجامعة. الرسالة نفسها كانت مُفارِقة وأكاديمية –بعض المقارنات بين فلسفتي ديمقريطس وإبيقور– ولكن ماركس رأى أن هناك توازيًا بين تلك النزاعات القديمة والجدل حول تفسير فلسفة هيجل التي كانت في ذلك الوقت أرضية تلتقي عليها كل الآراء السياسية المختلفة في الفكر الألماني.

قُدمت الرسالة وقُبلت عام 1841، ولكن لم يتلق عرضًا للتدريس بالجامعة. وبدلًا من ذلك اهتم ماركس أكثر بالصحافة. كتب في في الموضوعات الاجتماعية والسياسية والفلسفية في الجريدة الليبرالية المنشأة حديثًا «جريدة راينش»، حظت مقالاته بالتقدير، وتوطدت علاقته بالجريدة إلى درجة أنه حين استقال محررها في نهاية عام 1842، كان البديل الواضح هو ماركس.

كانت فترة تحرير ماركس للجريدة قصيرة، رغم أن هذا لم يكن خطأه. مع تزايد الاهتمام بالجريدة، تزايد اهتمام الرقيب الحكومي البروسي بها. اعتُبرت مجموعة المقالات التي كتبها ماركس عن فقر الفلاحين الذين يزرعون كرم النبيذ في منطقة «موزيل فالي» تحديدًا مقالات مهيجة، في النهاية قررت الحكومة إغلاق الجريدة.

كما أوضح في رسالة كتبها لأحد أصدقائه، لم يشعر بالأسف من تصرف السلطات، لأنهم «أعادوا لي حريتي». بعدما صار حرًا من الواجبات التحريرية بدأ العمل على دراسة نقدية لفلسفة هيجل السياسية. كان يشغله أيضًا قلق ملح: وهو أن يتزوج جيني، التي امتدت خطبتهما لسبع سنوات. وأراد أن يغادر ألمانيا التي لا يستطيع فيها التعبير عن نفسه بحرية. المشكلة هي أنه كان بحاجة إلى المال ليتزوجا، وفي هذا الوقت كان عاطلًا من جديد. ولكن سُمعته ككاتب شاب واعد جعلته في موقف طيب؛ دُعي ليشارك في تحرير إصدار جديد «الحوليات الألمانية الفرنسية». أتاح له الإصدار ما يكفي من الدخل ليتزوج وأيضًا حَلَّ مشكلة المكان الذي يعيش فيه، لأنه كما يشير اسم الإصدار، فمن المفترض أن الهدف منه كان جذب الكتاب والقراء الفرنسيين إلى جانب الألمان.

وصل ماركس وجيني إلى باريس في خريف عام 1843 وسرعان ما اختلطا مع الأوساط الراديكالية والاشتراكية التي شكَّلت مركز الفكر التقدمي. كتب ماركس مقالين لـ «الحوليات». ولكن الإصدار كان قصير العمر أكثر من الجريدة. أخفق العدد الأول في جذب أي إسهام من الفرنسيين وتقريبًا لم يلحظه أحد في باريس، في حين صادرت السلطات في بروسيا نسخ العدد. انسحب ممولو المشروع. في ذلك الوقت، وبسبب الأفكار الشيوعية والثورية التي تم التعبير عنها في العدد المُصادَر، أصدرت الحكومة البروسية مذكرة اعتقال للمحررين. هكذا لم يعد من الممكن لماركس أن يرجع ألمانيا؛ صار لاجئًا سياسيًا. لحسن الحظ تلقى قدرًا كبيرًا من المال من المساهمين السابقين في «جريدة راينش»، ولم يعد بحاجة لعمل.

خلال عام 1844 سعى ماركس للتعبير عن موقفه الفلسفي، وكان المقصود الفلسفة بالمعنى الواسع، ما يشمل السياسة والاقتصاد ومفهوم العمليات التاريخية التي تجري في العالم. في ذلك الوقت كان ماركس مستعدًا لأن يطلق على نفسه شيوعيًا، ولم يكن هذا أمرًا نادر الحدوث في باريس في تلك الأيام، لأنه كان من الممكن أن تجد اشتراكيين وشيوعيين من مختلف الأنواع هناك.

في العام نفسه بدأت صداقة ماركس وإنجلز، كان فريدريش إنجلز ابنًا لرجل صناعة ألماني، كان يملك مصنعًا للقطن في مانشستر، ولكن بسبب اتصاله بنفس الدوائر الفكرية الألمانية التي انضم لها ماركس، صار إنجلز اشتراكيًا ثوريًا. ساهم بمقال في «الحوليات» أثر بعمق في تفكير ماركس في الاقتصاد. هكذا لم يكن من المفاجئ حين زار إنجلز باريس أن التقى ماركس. سرعان ما شرعا في التعاون في كتابة كتيب، أو هذا ما كان يعتقده إنجلز. ترك إنجلز إسهامه المكون من حوالي 15 صفحة مع ماركس ثم غادر باريس. ظهر «الكتيب» بعنوان «العائلة المقدسة» عام 1845، وبلغ عدد صفحاته حوالي 300 صفحة، وكان كتاب ماركس الأول.

في تلك الأثناء كانت الحكومة البروسية تضغط على الفرنسية لتفعل شيئًا حيال الشيوعيين الذين يعيشون في باريس. صدر قرار ترحيل عائلة ماركس، التي شهدت ميلاد الطفلة الأولى، والتي حملت اسم جيني على اسم أمها، وانتقلت العائلة إلى بروكسل.

ولكي يحصل على إذن بالبقاء في بروكسل، كان على ماركس أن يتعهد بألا يشارك في السياسة. سريعًا ما خرق هذا التعهد بتنظيم لجنة مراسلات شيوعية كان الهدف منها إبقاء الشيوعيين في مختلف البلاد على تواصل. ومع ذلك كان ماركس قادرًا على البقاء في بروكسل لثلاثة أعوام، وقع عقدًا مع أحد الناشرين لينشر كتابًا يضم تحليلًا نقديًا للسياسة والاقتصاد. حدد العقد أن ينتهي الكتاب في صيف عام 1845، وكان هذا أول موعد تسليم يخلفه ماركس للكتاب الذي صار كتاب «رأس المال». كان الناشر قد قرر أن يدفع حقوق الكتاب مقدمًا قبل الحصول على المسودة، ولا شك أنه ندم على ذلك. (ألغي التعاقد في النهاية، وظل الرجل سيء الحظ يحاول استعادة أمواله حتى عام 1871). في هذا الوقت بدأ إنجلز أيضًا مساعدة ماركس ماليًا، هكذا صارت العائلة تملك ما يكفيها للعيش.

تزايدت لقاءات ماركس وإنجلز. جاء إنجلز إلى بروكسل، وسافر الاثنان إلى إنجلترا لستة أسابيع لدراسة الاقتصاد في مانشستر، في قلب العصر الصناعي الجديد. (في تلك الأثناء كانت جيني حاملًا في ابنتها الثانية لورا). عند عودته قرر ماركس تأجيل كتابه عن الاقتصاد. وقبل أن يضع فلسفته الوضعية أراد أن يُحَطِّم الأفكار البديلة التي كانت رائجة في الدوائر الفلسفية والاشتراكية الألمانية، وكان نتاج ذلك كتاب «الأيدولوجيا الألمانية»، وهو مجلد طويل وفي البعض الأحيان معقد، ورفضه سبعة ناشرين على الأقل ونحاه ماركس جانبًا، وكما كتب بعد ذلك تركه «لنقد الفئران القارضة».

بالإضافة إلى كتابة «الأيدولوجيا الألمانية»، أنفق ماركس وقتًا طويلًا في تلك السنوات لمهاجمة بعض ممن كانوا، على الأرجح، حلفاء له. كتب عملًا آخر مثيرًا للجدل هاجم فيه الاشتراكي الفرنسي البارز برودون. على الرغم من معارضته ما دعاه بـ «الموقف الخرافي من السلطة»، كان ماركس مقتنعًا بأهمية أفكاره لدرجة أنه لم يتسامح مع الأفكار المختلفة عنها. أدى هذا إلى خلافات مستمرة في لجنة المراسلات الشيوعية، وعصبة الشيوعيين من بعدها.

حظى ماركس بفرصة أن يجعل أفكاره أساس النشاطات الشيوعية عندما توجه إلى لندن لحضور مؤتمر عصبة الشيوعيين المنشأة حديثًا في ديسمبر عام 1847. وسط الجدالات الطويلة دافع عن رأيه المتعلق بكيفية تحقيق الشيوعية؛ وفي النهاية كُلف مع أنجلز بمهمة صياغة مبادئ العصبة بلغة بسيطة. وكانت نتيجة ذلك «البيان الشيوعي» الذي نُشر في فبراير عام 1848، والذي صار الملخص الكلاسيكي لنظرية ماركس.

ولكن البيان لم يحقق نجاحًا فوريًا. قبل نشره كان الموقف في أوروبا قد تغير بسبب الثورة الفرنسية عام 1848، والتي أشعلت الحركات الثورية في أنحاء أوروبا. سحبت الحكومة الفرنسية الجديدة أمر الترحيل، في الوقت الذي أمهلته فيها الحكومة البلجيكية المتوترة 24 ساعة للخروج من البلد. توجهت عائلة ماركس أولًا إلى باريس، ثم بعد معرفة أخبار الثورة في برلين عادوا إلى ألمانيا. في كولونيا ادخر ماركس المال ليشرع في إصدار جريدة راديكالية، وهي «جريدة الراينش الجديدة»، دعمت الجريدة الحركات الديمقراطية الواسعة التي أدت للثورة. ولكن مع إخفاق الثورة وترسيخ المَلَكية البروسية من سلطتها أُجبر ماركس على أن ينطلق في أسفاره مجددًا. حاول العيش في باريس، ولكنه طُرد مرة أخرى، وفي 24 أغسطس عام 1849 أبحر إلى إنجلترا لينتظر ثورة أكثر اكتمالًا تسمح له بالعودة إلى ألمانيا.

عاش ماركس في لندن لبقية حياته. كانت عائلته تعيش في فقر شديد في البداية. عاشوا في غرفتين بسوهو. كانت جيني حاملًا في طفلهما الرابع (الصبي إدجار وُلد في بروكسل)، ومع ذلك كان ماركس نشطًا سياسيًا في العصبة الشيوعية. كتب عن الثورة في فرنسا وما تلاها، وحاول تنظيم آليات داعمة لأعضاء لجنة كولونيا في العصبة، الذين كانت تحاكمهم السلطات البروسية. حين أدينت مجموعة كولونيا على الرغم من تصريح ماركس الصريح بأن أدلة البوليس كانت مزورة، قرر ماركس أن وجود العصبة «لم يعد مناسبًا»، وحلت العصبة نفسها.

لبعض الوقت عاش ماركس منعزلًا، بدون اتصال مع أي جماعة سياسية منظمة. قضى وقته في القراءة بنهم والدخول في جدالات على المبادئ مع اللاجئين الألمان اليساريين الآخرين. كانت مراسلاته مفعمة بالشكوى لكونه غير قادر على أن يشتري شيئًا سوى الخبز والبطاطس، وقدر قليل منهما. وصل الأمر إلى أنه قدم لوظيفة كاتب بالسكك الحديدية، ولكنه رُفض لأن خط يده لم يكن مفهومًا. كان زبونًا منتظمًا في مكاتب الرهن. إلا أن أصدقاء ماركس، وخاصة إنجلز، كانوا يرسلون هدايا سخية، وربما رجع فقر ماركس إلى إدارته السيئة للمال لا الدخل القليل. ظلت خادمة جيني، هيلين ديموث، تعيش مع العائلة، وظلت كذلك حتى وفاة ماركس. (كانت أيضًا أمًا لابن ماركس غير الشرعي، فردريك، والذي وُلد عام 1851، ولتجنب الفضيحة، رباه أبوان غريبان).

شهدت تلك السنوات مأساة شخصية لعائلته: توفى ابنه الرابع طفلًا، أنجبت جيني مجددًا، وتوفى الطفل خلال عام. وأسوأ ضربة كانت وفاة ابنهما إدجار في عمر الثامنة، فيما يبدو من مرض السل.

بداية من عام 1852 تلقى ماركس دخلًا أكثر ثباتُا. طلب منه محرر جريدة «نيويورك تريبيون»، الذي التقاه في كولونيا أن يكتب للجريدة. وافق ماركس، وفي السنوات العشر التالية نشرت له الجريدة مقالًا كل أسبوع تقريبًا (على الرغم من أن بعضها كتبه إنجلز سرًا). في عام 1856 تحسن الموقف المالي بشكل أكبر حين تلقت جيني ميراثين. استطاعت العائلة الانتقال من غرفتي سوهو الضيقتين إلى منزل بثماني غرف بالقرب من حديقة هامستيد هيث، التي صارت مقصدًا للتنزه المنتظم لكل العائلة كل يوم أحد. في هذا العام وُلدت طفلة ماركس الثالثة إليانور – وكان اسم التدليل توسي. ورغم أن جيني صارت حاملًا مجددًا إلا أن الطفل ولد ميتًا. هكذا منذ ذلك الوقت تكونت العائلة من ثلاثة طفلات: جيني ولورا وإليانور. وكان ماركس أبًا عطوفًا ومحبًا لهن.

طوال هذا الوقت كان ماركس يتوقع اندلاع ثورة في المستقبل القريب. كانت أكثر حقبة مثمرة بالنسبة له هي عامي 1857-1858، وذلك بسبب اعتقاده الخاطئ أن الكساد الاقتصادي الحاصل سيمثِّل بداية الأزمة الأخيرة للرأسمالية. ومن منطلق قلقه من أن يسبق تتابع الأحداث تعبيره عن أفكاره، بدأ ماركس، كما يذكر إنجلز، «العمل بجنون في الليالي»، من أجل أن تتضح الخطوط العريضة لعمله «قبل مجيء الطوفان». في خلال ستة أشهر كتب أكثر من 800 صفحة كمسودة لكتاب «رأس المال»، وفي الحقيقة اشتملت المسودة على أسس أكثر بكثير من المتضمنة في كتاب «رأس المال» كما ظهر في النهاية. في عام 1859، نشر ماركس قدرًا محدودًا من عمله في الاقتصاد بعنوان "نقد الاقتصاد السياسي". لم يحتو الكتاب على جل أفكار ماركس الأصلية (باستثناء الموجز الذي صار شهيرًا الآن عن تطوره الفكري في المقدمة). وقوبل ظهور الكتاب بصمت.

بدلًا من أن يُعِد للنشر الأقسام الأصلية المتبقية الأخرى من مسودته، شتت ماركس نزاع شخصي مع السياسي والصحفي اليساري كارل فوجت. زعم ماركس أن فوجت يتلقى مرتبًا من الحكومة الفرنسية. رُفعت عليه دعوى، دعا فوجت ماركس بالمزور والمبتز، ورد ماركس بكتاب من 200 صفحة يحتوى على جدال ساخر مناهض لفوجت. بعد عدة سنوات، ظهر أن ماركس كان على حق، ولكن القضية كلفته قدرًا كبيرًا من المال، ومنعته لثمانية عشر شهرًا من كتابة أي شيء له قيمة كبيرة.

كان هناك أيضًا سبب أكثر أهمية لتباطؤ ماركس في إنهاء عمله في الاقتصاد. أُنشئت جمعية العمال الأممية –التي عُرفت بعد ذلك بالأممية الأولى– في اجتماع عام في لندن عام 1864. قَبِل ماركس الدعوة للقاء؛ وأنهى انتخابه في المجلس العام عزلته عن الأنشطة السياسية. عقلية ماركس الفعَّالة وقوة شخصيته سريعًا ما جعلتاه الشخصية المهيمنة على الجمعية؛  كتب خطابها الافتتاحي وصاغ لوائحها. بالطبع كانت هناك اختلافات كبيرة بينه وبين النقابيين الذين شكلوا أساس القطاع الإنجليزي من الأممية، ولكنه أظهر دبلوماسية نادرة في تضييق تلك الخلافات بينما حاول باستمرار جذب أعضاء الطبقة العاملة بالجمعية إلى وجهة نظره طويلة المدى.

في عام 1867، انتهى ماركس أخيرًا من المجلد الأول من «رأس المال». مرة أخرى كان رد الفعل المبدئي مُحبطًا. تحمس أصدقاء ماركس وفعلوا ما باستطاعتهم ليحظى الكتاب بمراجعات في الصحف. كتب إنجلز وحده سبع مراجعات مختلفة –وتضمنت مديحًا على الدوام– في سبع صحف ألمانية. ولكن الاهتمام الواسع جاء بطيئًا. في الحقيقة لم يصبح ماركس شخصية مشهورة بسبب «رأس المال»، ولكن بسبب نشر كتاب «الحرب الأهلية في فرنسا» عام 1871. كتبه ماركس كخطاب للأممية عن كميونة باريس؛ انتفاضة العمال التي استولت وحكمت باريس لمدة شهرين بعد هزيمة فرنسا على يدي بروسيا. في الواقع لم يكن للأممية علاقة بهذا، ولكنها ارتبطت بالكميونة في العقل الجمعي. رَسَّخ خطاب ماركس من تلك الشكوك المبكرة عن المؤامرة الشيوعية الأممية، وعلى الفور حظى ماركس بسمعة سيئة وكما كتب لصديقه «كان لها فضل عليّ بعد اثنين وعشرين عامًا مضجرة عشتها متعطلًا في وكري».

أضعف القمع القاسي للكميونة من الأممية، الخلافات التي كانت تغلي تحت السطح طَفَت إلى أعلى. في مؤتمر عام 1872 رأى ماركس أنه فقد السيطرة. تم تنفيذ اقتراح يُقَيِّد سلطات المجلس العام من قبل معارضته القوية. وبدلًا من أن يشاهد المنظمة تسقط في أيدي أعدائه، اقترح ماركس أن يصبح مقر المجلس العام في نيويورك؛ مُرر الاقتراح بهامش ضئيل، وكان يعني، كما كان يدرك ماركس، نهاية الأممية الأولى، لأن وسائل الاتصال المتاحة وقتها جعلت من غير العملي على الإطلاق أن يدار تنظيم أوروبي كبير من الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي.

في ذلك الوقت كان ماركس في الرابعة والخمسين من عمره، وضعفت صحته. لم تكن السنوات العشر المتبقية من حياته ممتلئة بالأحداث. أنهت المواريث التي تلقاها التهديد بالفقر. في العديد من الجوانب كانت حياة عائلة ماركس أشبه بحياة العائلة البرجوازية الميسورة. انتقلوا إلى منزل أكبر، وقضوا وقتًا طويلًا في تأثيثه، وأرسلوا طفلاتهم إلى مدرسة للفتيات، وسافروا إلى منتجعات راقية، لدرجة أن ماركس زعم أن حصل على أموال من البورصة، وكل هذا لم يمنعه من طلب هدايا مالية أخرى من إنجلز وتلقيها.

أخيرًا انتشرت أفكار ماركس. بحلول عام 1871، كانت هناك حاجة لطبعة ثانية من "رأس المال". ظهرت ترجمة روسية عام 1872، وكان ماركس مشهورًا للغاية بين الثوريين الروس، وبعدها ظهرت ترجمة فرنسية. وعلى الرغم من أن "رأس المال" لم يترجم إلى الإنجليزية في حياة ماركس (كُتب بالألمانية مثله مثل كتبه الأخرى)، أشار إلى تزايد شهرته هناك، حتى بين الإنجليز الذين لا يقرأون النظريات، ضمه إلى سلسلة كتيبات بعنوان «قادة الفكر الحديث». ظل ماركس وإنجلز يتبادلان الرسائل مع الثوريين في أنحاء أوروبا الذي شاركوهما أفكارهما. بخلاف ذلك عمل ماركس بشكل متقطع في المجلدين الثاني والثالث من «رأس المال»، ولكنه لم يعدهما للنشر. تولى إنجلز هذه المهمة بعد موت ماركس. ظهر آخر عمل هام كتبه ماركس بعد مؤتمر عُقد في جوتا، بألمانيا عام 1875. كان الغرض من المؤتمر توحيد الأحزاب الاشتراكية الألمانية المتنافسة، ومن أجل ذلك وضعت صيغة مشتركة. لم يُستشر ماركس ولا إنجلز في هذه الصيغة، التي عُرفت بـ «برنامج جوتا»، وغضب ماركس من احتوائه على انحرافات عديدة لما اعتبره الاشتراكية العلمية. كتب مجموعة من التعليقات النقدية عن البرنامج، وحاول ترويجها بين القادة الاشتراكيين الألمان. بعد وفاة ماركس، نُشر «نقد برنامج جوتا»، واعتُبر من بيانات ماركس النادرة عن تنظيم المجتمع الشيوعي المستقبلي. ولكن في ذلك الوقت لم يكن هاك تأثير لنقد ماركس، واستمر التوحيد المخطط له.

في سنواته الأخيرة لم يهنأ ماركس بتنامي شهرته بسبب مآسيه الشخصية. تزوجت ابنتاه الكبريان جيني ولورا وحظتا بأطفال، ولكن لم يتجاوز أطفال لورا الثلاثة عمر الثالثة. توفى ابن جيني الأول في طفولته؛ وعلى الرغم من أنها كان لديها خمسة أطفال ساعتها لم يعش سوى واحد منهم. وفي عام 1881 توفت جيني الكبيرة، زوجة ماركس العزيزة المحبوبة، بعد صراع مع المراض. صار ماركس مريضًا ووحيدًا. في عام 1882 مرضت ابنته جيني للغاية، وتوفت عام 1883، لم يتجاوز ماركس أبدًا شعور الفقد. أصيب بالتهاب في القصبات الهوائية وتوفى في 14 مارس عام 1883.

اقرأ الفصل الثاني من الكتاب: ماركس: الهيجلي الشاب