بعد 200 عام، يمكن أن نقول إن ماركس كثيرًا ما كان على حق، ولكن بشكل أكثر حَرْفية مما كان يقصد
مقال لسلافوي جيجيك 
عن الإندبندنت، 4 مايو 2018
 
ترجمة: أمير زكي
مايو 2018
خاص بـ Boring books*
 
*يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته بدون إذن منه.
 
***
عن الإندبندنت

هناك نكتة سوفييتية لطيفة عن راديو يريفان[1]، يسأل أحد المستمعين: «هل صحيح أن رابينوفيتش فاز بسيارة جديدة في اليانصيب؟» يجيب مذيع الراديو: «من حيث المبدأ نعم، هذا صحيح، بخلاف أنها لم تكن سيارة جديدة ولكن دراجة قديمة، وهو لم يفز بها ولكنها سُرقت منه».

ألا ينطبق الأمر نفسه على ميراث ماركس اليوم؟ دعنا نسأل راديو يريفان: «هل ما زالت نظرية ماركس مناسبة اليوم؟» يمكن أن نخمن الإجابة: من حيث المبدأ نعم، هو يصف بشكل رائع رقصة ديناميكيات الرأسمالية المجنونة التي وصلت إلى ذروتها اليوم، بعد أكثر من قرن ونصف، ولكن يحدد جيرالد أ. كوهين السمات الأربع للمفهوم الماركسي الكلاسيكي عن الطبقة العاملة: (1) يشكل أغلبية المجتمع، (2) ينتج الثروة في المجتمع، (3) يتكون من الأعضاء المُستَغَّلين في المجتمع، (4) أعضاؤه هم المعدمين في المجتمع. عندما تجتمع تلك السمات الأربع، تولد سمتان أخريان: (5) ليس لدى الطبقة العاملة ما تخسره من الثورة، و(6) يمكن أن تنغمس وسوف تنغمس في عملية تغيير للمجتمع.

لا تنطبق السمات الأربع الأولى على الطبقة العاملة اليوم، وهذا سبب أنه لا يمكن توليد (5) و(6). إذا استمرت بعض هذه السمات في التطابق على قطاعات من مجتمعنا اليوم، فهي لم تعد متحدة في فاعل واحد: المعدمون في المجتمع لم يعودوا العمال، إلخ.

ولكن دعونا نفحص بشكل أكبر سؤال المناسبة والملائمة. الأمر لا يقتصر على أن نقد ماركس للاقتصاد السياسي ما زال مناسبًا، ولكن يمكن للمرء أن يأخذ خطوة للأمام ويزعم أنه اليوم تحديدًا، بوجود الرأسمالية العالمية، فهو مناسب تمامًا.

ولكن في لحظة الانتصار هناك لحظة هزيمة. بعد تجاوز العقبات الخارجية يأتي التهديد الجديد من الداخل. بمعنى آخر، ماركس لم يكن على خطأ، في الأغلب كان محقًا، ولكن بشكل أكثر حَرْفية مما كان يتوقع.

على سبيل المثال، لم يكن ماركس يتخيل أن الديناميكيات الرأسمالية الساعية لتذويب كل الهويات الخاصة سوف تنطبق على الهويات العرقية  أيضًا. الاحتفاء الحالي بـ «الأقليات» و«الهوامش» هو الموقف الغالب المهيمن، يستغل ذلك اليمين البديل الذي يشكو من إرهاب «الصوابية السياسية»، ويقدم نفسه بصفته الحامي لأقلية معرضة للخطر، ويحاول أنصاره محاكاة نفس الحملات ولكن من الجانب الآخر.

ثم هناك قضية «تقديس السلعة». لنستعد النكتة الكلاسيكية عن الرجل الذي يعتقد أنه حبة قمح، فاصطحبوه إلى مصحة حيث سعى الأطباء جاهدين حتى أقنعوه أنه ليس حبة قمح بل رجل. وعندما عولج (واقتنع أنه ليس حبة قمح بل رجل)، وسمحوا له بمغادرة المستشفى، عاد سريعًا وهو يرتجف، هناك دجاجة خارج الباب ويخشى أن تأكله.

قال طبيبه: «يا صديقي العزيز، أنت تعلم تمام العلم أنك لست حبة قمح  بل رجل».

فأجاب المريض: «بالطبع أعرف ذلك، ولكن هل هذا هو ما تعرفه الدجاجة؟»

كيف إذن تنطبق النكتة على مفهوم تقديس السلعة؟ لنرجع إلى بداية القسم المتعلق بتقديس السلعة في كتاب «رأس المال» لماركس: «تبدو السلعة للوهلة الأولى شيئًا تافهًا بشكل بالغ الوضوح. ولكن تحليلها يكشف أنها شيء شديد الغرابة، ممتلئ بالسمات الميتافيزيقية والتفاصيل اللاهوتية».

تقديس السلعة (اعتقادنا بأن السلع أشياء سحرية، حازت على قوة ميتافيزيقية متأصلة) لا يوجد في عقلنا، بطريقة أننا ندرك الواقع (أو نسيء إدراكه) ولكن في واقعنا الاجتماعي نفسه. ربما نعرف الحقيقة، ولكننا نتصرف وكأننا لا نعرفها – في حياتنا الواقعية نتصرف كالدجاجة المذكورة في النكتة.

نيلز بور[2]، الذي قدم الإجابة الصحيحة على جملة إينشتاين «الله لا يلعب النرد» بقوله (لا تخبر الله ما الذي عليه أن يفعله)، قدم أيضًا مثالًا مناسبًا لكيف يعمل الإنكار المقدس لمعتقد ما. فوجئ أحد زائريه بوجود حدوة حصان على بابه، قال له إنه لم يكن يعتقد أن بور يؤمن بالفكرة الخرافية التي تقول إن حدوة الحصان تجلب الحظ السعيد للناس. فرد عليه سريعًا: «أنا أيضًا لا أؤمن بها؛ إنما أعلقها لأنه قيل لي إنها تجلب الحظ السعيد سواء آمن بها الشخص أم لا!»

هذه الكيفية التي تعمل بها الأيدولوجيا في عصرنا المتسم بالتشكك: لسنا بحاجة للإيمان. لا أحد يأخذ الديمقراطية أو العدل بجدية، نحن جميعًا واعون بفسادهما، ولكننا نمارسهما، بمعنى آخر، نعبر عن اعتقادنا بهما – لأننا نفترض أنهما ناجعين حتى لو لم نؤمن بهما.

من جهة الدين، لم نعد «نؤمن حقًا»، فقط نتبع (بعض) الطقوس والأعراف الدينية كجزء من الاحترام لـ «أسلوب حياة» المجتمع الذي ننتمي إليه (على سبيل المثال يطيع اليهود قواعد الكوشر من منطلق احترام التقاليد).

«لا أؤمن حقًا بهذا، هو فقط جزء من ثقافتي»، يبدو هذا الوضع المهيمن على الإيمان المهتز الذي يتسم به عصرنا. «الثقافة» هي مسمى كل تلك الأشياء التي نمارسها بدون أن نؤمن بها حقًا، وبدون أن نأخذها بجدية تامة. وهذا هو سبب أننا نعتبر المؤمنين الأصوليين «بربريين» أو «بدائيين»، نعتبرهم مناهضين للثقافة، أو تهديد على الثقافة، إنهما يجرؤون على أخذ معتقداتهم بجدية. هذا العصر المتسم بالتشكك الذي نعيش فيها لم يكن ليفاجئ ماركس.

بالتالي نظريات ماركس ليست حية فقط: ماركس هو الشبح الذي يظل يطاردنا، والطريقة الوحيدة لإبقائه حيًا هو التركيز على تلك الرؤى التي تصير الآن أكثر واقعية من زمنه نفسه.

[1]  إذاعة مخصصة للنكات انتشرت في الاتحاد السوفييتي في النصف الثاني من القرن العشرين، كانت نكاتها تقال فيها بطريقة السؤال والجواب.

 [2]  Niels Bohr (1885-1962) فيزيائي دنماركي ذو إسهام بارز في نظرية الكوانتم.