فارس المرآة
هارولد بلوم
(من مقدمة الكاتب لترجمة إديث جروسمان للرواية للإنجليزية)
ترجمة: أمير زكي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***
 

Don Quixote and Sancho Panza  by Honoré Daumier
ما هو الموضوع الحقيقي لسعي دون كيخوته؟ لا أجد إجابة على ذلك. ما هي دوافع هاملت الأصيلة؟ ليس من المسموح لنا أن نعرف. لأن سعي فارس ثربانتس العظيم له بُعد وصدى كوزمولوجي، لا يبدو أن هناك هدفا بعيد المنال. غضب هاملت يتلخص في أنه ليس مسموحا له سوى مأساة إلسينور[i]والانتقام. ألّف شكسبير قصيدة غير محدودة، فيها البطل وحده هو من يتجاوز كل الحدود.
 
ثربانتس وشكسبير، اللذان ماتا في الوقت نفسه تقريبا، هما الكاتبان الغربيان المركزيان، على الأقل منذ دانتي، ولا يوجد كاتب وصل لقامتيهما، لا تولستوي ولا جوته ولا ديكنز ولا بروست ولا جويس. لا يمكن للسياق أن يحتوي ثربانتس وشكسبير: العصر الذهبي الأسباني والحقبة الإليزابيثية اليعقوبية ثانويين عندما نحاول أن نصل لتقدير كامل لما قدماه إلينا.
 
و. هـ أودين وجد في دون كيخوته صورة للقديس المسيحي، كمقابل لهاملت، الذي "يفتقد الإيمان بالله والإيمان بنفسه". على الرغم من أن أودين بدا متهكما إلى حد ما، إلا أنه كان جادا، ومخطئا على ما أعتقد.
 
مزج هرمان ملفيل دون كيخوته وهاملت في كابتن آهاب (مع لمسة من شيطان ميلتون الذي أضيف كالملح على الطعام). يرغب آهاب في الانتقام لنفسه من الحوت الأبيض، بينما سيدمر الشيطان الله إذا استطاع. هاملت هو سفير الموت لنا، وفقا لجورج ولسون نايت[ii]. يقول دون كيخوته إنه يسعى لتدمير الظلم.
 
الظلم المطلق هو الموت، هو الرابطة النهائية. تحرير الأسرى هو طريقة الفارس البراجماتية في حربه ضد الموت.
 
على الرغم من وجود العديد من الترجمات القيمة للإنجليزية لدون كيخوته، فأنا أفضل نسخة إديث جروسمان الجديدة لنثرها الرائع. الحس الروحي لأسبانيا التي كانت تعاني من حالة انحدار شديد يمكن الشعور به خلال الترجمة، بفضل اختيارات جروسمان الرفيعة لمفرداتها.
 
يمكن أن ندعو جروسمان بأنها جلين جولد[iii] المترجمين، لأنها أيضا تعبّر عن كل لحن. قراءة طريقتها الرائعة في إيجاد مكافئات للإنجليزية لرؤية ثربانتس الظلامية مدخل إلى فهم أعمق لسبب احتواء هذا الكتاب العظيم بداخله على كل الروايات التي تبعت يقظته السامية. ثربانتس مثل شكسبير، لم يتمكن الكُتّاب الذين أتوا بعده من الهروب منه. ديكنز وفلوبير وجويس وبروست يعكسون تقنيا سرد ثربانتس، ومجدهم في الوصف يحتوي على خيوط من شكسبير وثربانتس.
 
ثربانتس منغمس بعمق في كتابه العظيم حتى أننا في حاجة لأن نرى أنه يملك ثلاث شخصيات متمايزة: الفارس وسنشو وثربانتس نفسه.
 
إلا أن حضور ثربانتس عابر ومقتضب!  "دون كيخوته"، في قمة مجدها، كئيبة بشكل كبير. شكسبير مجددا هو النظير الكاشف: هاملت في قمة كآبته لن يتوقف أبدا عن ألعابه اللفظية وعن سخريته القاتمة، وبديهة فالستاف غير المحدودة ممزقة بسبب الرفض الملازم له. مثلما لم يكتب شكسبير في نوع أدبي بعينه، فـ "دون كيخوته" تراجيديا بقدر ما هي كوميديا. على الرغم من أنها ستعتبر إلى الأبد ميلاد الرواية المنبثقة من النثر الشعبي، وتظل أفضل الروايات، إلا أنني أشعر بالحزن المتواجد بها في كل مرة أعدت قراءتها، وهذا ما يجعلها "الكتاب المقدس الأسباني"، كما دعا ميجيل دي أونامونو هذا العمل الذي يعتبر أعظم السرديات.
 
ربما لا تكون "دون كيخوته" كتابا مقدسا، ولكنها تحتوينا تماما حتى أننا لا نستطيع التملص منها لنصل إلى وجهة نظر مستقلة، مثلها مثل أعمال شكسبير. نحن بداخل هذا الكتاب الضخم لدينا الامتياز الذي يجعلنا نستمع إلى الحوارات المبهرة بين الفارس وسائسه، سنشو بانثا. في بعض الأحيان نتوحد مع ثربانتس، ولكن عادة ما نكون متجولين غير مرئيين مصاحبين لهذا الثنائي السامي في مغامراته وإخفاقاته.
 
عُرِضَت "الملك لير" لأول مرة بعد نشر الجزء الأول من "دون كيخوته". على عكس ما قاله أودين، فثربانتس مثل شكسبير، يقدم لنا تعاليا علمانيا. يعتبر دون كيخوته نفسه فارس الله، ولكنه يتبع باستمرار إرادته العجيبة والغريبة بشكل مجيد. يطلب الملك لير المساعدة من السماء، ولكن من المنطلق الأرضي الشخصي، بسبب كونه هو والسماء عجوزين.
 
دون كيخوته الذي حطمه الواقع الأعنف منه، يقاوم الإذعان إلى سلطة الكنيسة أو الدولة. عندما يتوقف عن تأكيد استقلاله، لا يتبقى شيء سوى أن يكون ألونسو كيخانو الطيب مجددا، ولا يتبقى لديه شيء ليفعله سوى أن يموت.
أعود إلى سؤالي الأول: موضوع الفارس الحزين. إنه في حرب مع مبدأ الواقع عند فرويد، المبدأ الذي يقبل حتمية الموت.
 
ولكنه ليس رجلا أحمق أو مجنون، ورؤاه مزدوجة على أقل تقدير: هو يرى ما نراه، إلا أنه يرى شيئا آخر أيضا، إمكانية تحقيق مجد يرغب في تحقيقه أو على الأقل نشره. يسمي دي أونامونو هذا التعالي بأنه الشهرة الأدبية؛ خلود ثربانتس وشكسبير. نحن بحاجة إلى أن نضع في ذهننا أثناء قرائتنا لدون كيخوته أنه لا يمكن أن نصل لمستوى الفارس وسنشو، لأنهما يعرفان أكثر مما نعرف، بالضبط مثلما لا نستطيع أن نستوعب السرعة المذهلة لإدراكات هاملت. هل نعرف بالضبط من نحن؟ كلما سعينا في بحث محموم عن ذواتنا الأصيلة، كلما مالت إلى التهرب. مع نهاية العمل العظيم يعرف الفارس وسنشو بالضبط من هما، ليس بسبب مغامراتهما بقدر ما هو عن طريق حواراتهما الرائعة، سواء كانا يتشاجران فيها أو يتبادلانها من أجل المعرفة.
 
الشعر، خاصة عند شكسبير، يُعَلِّمنا كيف نتحدث إلى أنفسنا، ولكن ليس إلى الآخرين. شخصيات شكسبير العظيمة أنا-وحدية Solipistبشكل مذهل: شايلوك، فالستاف، هاملت، ياجو، لير، كليوباترا، أما روزاليند فهي الاستثناء الرائع. دون كيخوته وسنشو يستمعان بالفعل إلى بعضهما ويتغيران عن طريق حوارهما. لا أحد فيهما يكتفي بالاستماع إلى نفسه، تلك السمة السائدة عند شكسبير. ثربانتس أو شكسبير: إنهما معلمان متنافسان نعرف منهما كيف نتغير ولماذا. الصداقة عند شكسبير تهكمية بشكل كبير، والخيانة أكثر شيوعا. الصداقة بين سنشو بانثا وفارسه تتجاوز أي تمثيل آخر في الأدب.
 
ليست لدينا مسرحية "كاردينيو"، المسرحية التي كتبها شكسبير مع جون فليتشر، بعد أن قرآ ترجمة توماس شيلتون المعاصرة لدون كيخوته. بالتالي لا يمكننا أن نعرف ما الذي اعتقده شكسبير في ثربانتس، على الرغم من أننا يمكن أن نعتقد أنه سرّ بها. نعتقد أن ثربانتس، الكاتب المسرحي غير الناجح، لم يسمع أبدا بشكسبير، ولكني أشك في أنه كان سيقدر فالستاف وهاملت، كل منهما اختار حرية الذات على حساب أي نوع من الإجبار.
 
كما أشار كافكا، فسنشو رجل حر، ولكن دون كيخوته مقيد ميتافيزيقيا ونفسيا بإخلاصه لمهام الفارس. يمكننا أن نحتفي بشجاعة الفارس اللا متناهية، ولكن ليس تصوره الأدبي عن قصص الفروسية.
 
ولكن هل دون كيخوته يؤمن كلية بواقع رؤيته؟ من الواضح أنه لا يؤمن بها، خاصة عندما يستسلم (هو وسنشو) لنكات ثربانتس السادومازوخية العملية – يستسلمان، في الحقيقة، للقسوة الشرسة والمذلة – التي تصيب الفارس وسائسه في الجزء الثاني. نابوكوف يكشف هذا في محاضراته عن "دون كيخوته"، التي نشرت بعد موته عام 1983: جزءا دون كيخوته يشكلان موسوعة حقيقية للقسوة. من هذا المنظور، هو واحد من أكثر الكتب مرارة ووحشية. إنها رواية ذات قسوة فنية.
 
حتى تجد مكافئا شكسبيريا لهذا الجانب في "دون كيخوته"، عليك أن تمزج مسرحية "تيتوس آندرونيكوس" بـ "زوجتان مرحتان من وندسور" في عمل واحد، وهي إمكانية صعبة لأن المسرحيتين من وجهة نظري هما أضعف مسرحيات شكسبير. الذل البشع الذي يتعرض له فالستاف عن طريق الزوجتين المرحتين غير مقبول بما يكفي (حتى لو شكّل هذا أساس فالستاف السامي عند فيردي).
 
لِم جعل ثربانتس دون كيخوته يتعرض للإيذاء الجسدي في الجزء الأول والإيذاء النفسي في الجزء الثاني؟ إجابة نابوكوف إستطيقية: القسوة تصير حيوية عن طريق فن ثربانتس المميز. يبدو هذا لي شيء فيه تهرب. "الليلة الثانية عشر" هي كوميديا لا يمكن تجاوزها، وعلى المسرح ننغمس في بهجة الإذلال البشع لمالفوليو. عندما نعيد قراءة المسرحية، نصير منزعجين، لأن مخيلة مالفوليو الاجتماعية الإيروتيكية تردد الصدى بداخلنا جميعا. لم لا نصير على الأقل متشككين قليلا بسبب العذابات الجسدية والاجتماعية التي يعانيها دون كيخوته وسنشو بانثا؟ ثربانتس نفسه، بحضوره الدائم والخفي في النص هو الإجابة. هو أكثر الكُتّاب البارزين الذين تعرضوا لابتلاءات. جُرِح في معركة ليبانتو البحرية العظيمة وهو في الرابعة والعشرين من عمره، وفقد تماما قدرته على استخدام يده اليسرى. عام 1575، أسره القراصنة البربريون وقضى خمس سنوات كعبد في الجزائر. خرج بفدية عام 1580، عمل كجاسوس في البرتغال ووهران لصالح أسبانيا ثم عاد إلى مدريد، حيث حاول أن يمتهن الكتابة المسرحية، وغالبا فشل بعدما كتب 20 مسرحية على الأقل. عندما يصير يائسا إلى حد ما يتحول إلى محصل للضرائب، ولكنه يُتهَم بعمل مخالفات ويُسجن عام 1597. سُجِن مجددا عام 1605، صار من المعروف أنه بدأ كتابة "دون كيخوته" في السجن. كتب الجزء الأول بسرعة غير معقولة، ونُشِر عام 1605. ونُشِر الجزء الثاني عام 1615.
 
بعدما سَلَبه ناشره كل حقوقه في الجزء الأول، كان من الممكن أن يموت ثربانتس فقيرا لولا رعاية متأخرة وهبها له نبيل متبصر في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته. على الرغم من أن شكسبير مات في عمر الثانية والخمسين، إلا أنه كان كاتبا مسرحيا ناجحا بشكل كبير، وصار ثريا إلى حد ما عن طريق ملكيته لنسبة من شركة الممثلين التي كانت تعرض مسرحياتها على "مسرح جلوب". شكسبير الحريص كان واعيا جدا بمقتل كريستوفر مارلو الذي حثت عليه الحكومة، وتعذيبها لتوماس كيد، ووسم بين جونسون بالنار. أبقى شكسبير نفسه مجهولا، على الرغم من أنه كان الكاتب المسرحي الأبرز في لندن. العنف والعبودية والسجن كانوا غذاء حياة ثربانتس. التزم شكسبير الحذر حتى النهاية، وعاش حياته بدون حادثة تذكر بقدر ما نعرف.
 
العذابات الجسدية والعقلية التي عانى منها دون كيخوته وسنشو بانثا كانت أساسية بسبب كفاح ثربانتس الذي لا ينتهي ليظل حيا وحرا. إلا أن ملاحظات نابوكوف صحيحة: القسوة متطرفة في "دون كيخوته". الأعجوبة الإستطيقية هي أن البشاعة تتلاشى عندما نأخذ خطورة للوراء من الكتاب الضخم ونتأمل شكله وسعة معناه غير المتناهية. لا يوجد سرد نقدي لعمل ثربانتس الأبرز يتفق مع انطباعات ناقد آخر أو يشابهه. "دون كيخوته" مرآة لا تعكس الطبيعة، بل تعكس القاريء. كيف يمكن لمهمة الفارس المحبطة والمثيرة للسخرية أن تكون نموذجا كليا؟
 
دون كيخوته وسنشو ضحايا، ولكن كل منهما طيّع بشكل عجيب، وذلك حتى هزيمة الفارس الأخيرة وموته وهو في هوية كيخانو الطيب، الذي توسل إليه سانشو أن يسير في طريقه مجددا. الافتتان بصمود دون كيخوته وحكمة سانشو الوفية باق دوما.
 
يلعب ثربانتس على الاحتياج الإنساني لتحمل المعاناة، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الفارس يرهبنا. بغض النظر عن كونه كاثوليكيا مخلصا (أو لا)، فثربانتس مهتم بالبطولة وليس القداسة.
 
بطولة دون كيخوته ليس دائمة على الإطلاق: هو قادر تماما على الهرب، وتَرْك سنشو البائس لتضربه القرية كلها. ثربانتس الذي كان بطلا في ليبانتو، يريد لدون كيخوته أن يكون نوعا جديدا من الأبطال، ليس متهكما وليس خاليا من العقل، ولكن بطل يريد أن يكون نفسه، كما عبّر جوزيه أورتيجا إي جازيت عن ذلك بدقة.
 
دون كيخوته وسنشو بانثا يُمَجّدان الإرادة، على الرغم من أن الفارس يتعالى بها، في حين أن سنشو، أول ما بعد براجماتي، يريد أن يبقيها بداخل حدودها. إن العنصر المتعالي في "دون كيخوته" هو الذي يقنعنا في النهاية بعظمتها، جزئيا لأنه موضوع في سياق يواجه جفاف وحدة الكتب البانورامية. ومن المهم أن نلاحظ مجددا أن التعالي علماني وأدبي، وليس كاثوليكيا. السعي الكيخوتي إيروتيكي، إلا أن الإيروس فيه أدبيا.
 
الفارس الذي جن بسبب القراءة (كما يحدث للعديد منا حتى الآن)، يسعى بحثا عن ذات جديدة، ذات تتجاوز الجنون الإيروتيكي لأورلاندو (رولاند) في ملحمة أورلاندو الهائج لآريوستو أو آماديس الجالي الأسطوري. على خلاف جنون أورلاندو وآماديس، جنون دون كيخوته قصدي، أصاب به نفسه، وهو إستراتيجية شعرية تقليدية. 
 
يظل هناك تسام واضح في الدافع الجنسي لشجاعة الفارس اليائسة. مرارة متغلغلة طوال الوقت، تُذَكِّره أن دلثنيا هي خياله الأعلى، هي التعالي على شهوته الصرف للفلاحة الشابة آلدونثا لورنثو. الخيال، الذي يؤمن به المرء حتى لو كان يعرف أنه خيال، يمكن أن يتحقق فحسب عن طريق الإرادة التامة.
 
لا أعتقد أن هناك عملا آخر تُغمُض فيه العلاقة بين الكلمات والأفعال مثل دون كيخوته، باستثناء هاملت (مجددا). نسق ثربانتس هو نفسه نسق شكسبير، على الرغم أننا مع ثربانتس نشعر بعبء التجربة، في حين أن شكسبير مبهم، لأن كل تجربته كانت مسرحية تقريبا. ثربانتس بارع جدا حتى أننا بحاجة إلى قرائته على مستويات عديدة كما هو الحال مع دانتي. ربما يمكن تعريف "الكيخوتية" بدقة على أنها سمة أدبية لواقع مطلق، ليس كحلم مستحيل، إنما بالأحرى كيقظة مُقنعة على الشعور بالفناء.
 
الحقيقة الإستطيقية لـ "دون كيخوته" هي أنها، مجددا مثل دانتي وشكسبير، تضعنا أمام العظمة مباشرة. إذا كانت لدينا صعوبة في الوصول لفهم كامل لسعي دون كيخوته ودوافعه وغاياته المرغوبة، فهذا بسبب أننا نواجه مرآة منعكسة تخيفنا حتى لو كنا منغمسين في بهجتها. ثربانتس يسبقنا دائما، ولا نستطيع أن نلحق به على الإطلاق. فيلدينج وستيرن وجوته وتوماس مان وفلوبير وستاندال وملفيل ومارك توين ودوستويفسكي: كلهم ضمن معجبي ثربانتس وتلاميذه. "دون كيخوته" هو الكتاب الوحيد الذي رغب دكتور صمويل جونسون أن يكون أطول مما هو عليه.
 
إلا أن ثربانتس، رغم كونه يمثل لذة عالمية، فهو من بعض الجهات أصعب من دانتي وشكسبير في قمتيهما. هل نصدق كل شيء يقوله لنا دون كيخوته؟ هل يصدق هو كل شيء؟ هو (أو ثربانتس) مبتكر لسمة شائعة الآن بما يكفي، تكون فيه الشخصيات بداخل الرواية، قد قرأت قصصا من قبل متعلقة بمغامراتهم المبكرة وعليها أن تتحمل الخسارة التالية عند الاصطدام بالواقع. هذه واحدة من الأشياء الغامضة الجميلة في "دون كيخوته": إنها عمل ذاته الأصيلة هي الأدب وهي رصد لواقع صعب وقاس في الوقت نفسه؛ واقع انهيار أسبانيا بين عامي 1605-1615. الفارس هو نقد ثربانتس البارع لمملكة جعلته يعيش في ظروف قاسية مقابل بطولته القومية في ليبانتو. لا يمكن القول إن دون كيخوته لديه وعي مزدوج، إنما هو الوعي المتعدد لثربانتس نفسه، كاتب يعرف تكلفة الصدق. لا أعتقد أنه يمكن القول إن الفارس يقول الأكاذيب، باستثناء قول ذلك بالمعنى النيتشوي للكذب على الزمان والكآبة التي كان عليها الزمن. أن تسأل ما الذي يؤمن به دون كيخوته نفسه يعني الوصول إلى المركز الرؤيوي لقصته.
 
المزيج المثير للاهتمام للسامي والتافه، لم يتكرر بعد ذلك إلا مع كافكا، وهو تلميذ آخر لثربانتس. سيؤلف كافكا قصصا مثل "الصياد جراكوس" و"طبيب الأرياف". بالنسبة لكافكا، دون كيخوته كان الجني أو العبقري الخاص بسنشو بانثا، يظهر عن طريق سنشو البائس في كتاب يحتوى على مغامرة حتى الموت. في تفسير كافكا الرائع، الموضوع الأصيل لسعي الفارس هو سنشو بانثا نفسه، وهو المستمع الذي يرفض تصديق قصة دون كيخوته عن كهف مونتسينوس. هنا أعود إلى سؤالي: هل يؤمن الفارس بقصته؟ يمكن أن نجد معنى في الإجابة على السؤال بـ "نعم" و"لا"، بالتالي لا بد أن يكون السؤال خاطئا. لا نستطيع أن نعرف ما الذي يؤمن به دون كيخوته وهاملت، لأنهما لا يشتركان معنا في محدوديتنا.
 
أحب توماس مان "دون كيخوته" بسبب التهكم فيها، ولكن كان من الممكن لمان أن يقول في أي وقت: "التهكم على التهكمات، كل شيء تهكم". نحن نستمع في الكتاب المقدس الضخم الخاص بثربانتس على ما نحن عليه. جونسون الذي لم يستمرئ تهكمات جوناثان سويفت، قَبِل ببساطة تهكمات ثربانتس؛ تهكم سويفت يُدَمِّر، في حين أن ثربانتس يسمح لنا ببعض الأمل.
 
شعر جونسون أننا بحاجة إلى بعض الأوهام، مخافة أن نجن. هل هذا جزء من تصميم ثربانتس؟ يقول مارك فان دورين[iv]، في دراسة مفيدة جدا، أن انشغال دون كيخوته تطارده التجاورات بين الفارس وهاملت، هذا الذي يبدو لي حتميا. تبدو الشخصيتان هنا، على خلاف كل الشخصيات الأخرى، وكأنهما يعرفان ما الذي يفعلانه، على الرغم من أنهما يحيراننا عندما نحاول أن نشترك في معرفتهما. إنها معرفة تختلف عن معرفة فالستاف وسنشو بانثا، المبتهجان بكونهما أنفسهما، ويسمحان للمعرفة أن تمر بجانبهما وتَعبُرهما. أنا أفضّل أن أكون فالستاف أو سنشو بدلا من أن أكون نسخة من هاملت أو دون كيخوته، لأن كِبَر السن والمرض علمانّي أن الوجود أهم من المعرفة. الفارس وهاملت متهوران بشكل لا يصدق؛ فالستاف وسنشو لديهما بعض التعقل في ما يتعلق بالشجاعة.
 
لا يمكننا أن نعرف موضوع سعي دون كيخوته إلا حينما نكون نحن أنفسنا كيخوتيين. هل نظر ثربانتس إلى حياته، مع الوضع في الاعتبار كونها شقية، على أنها كيخوتية؟ الوجه الكئيب في صورته يحدق فينا؛ مُحَيّا يختلف عن نعومة شكسبير المتهربة. إنهما يساويان بعضهما في العبقرية، لأنهما أكثر من شوسر، وأكثر من مجموعة الروائيين الذين مزجوا تأثيراتهما منذ ذلك الوقت، قدما لنا شخصيات تضج بالحياة أكثر منا. أشك في أن ثربانتس أراد أن يقارن نفسه بشكسبير أو بأي أحد. تقول لنا "دون كيخوته" إن كل المقارنات كريهة. ربما هي كذلك، لكن ربما تكون مقارنتنا هنا استثناء.
 
نحتاج إلى جانب ثربانتس وشكسبير، كل المساعدة الممكنة في ما يتعلق بالأشياء المطلقة، إلا أننا لا نحتاج إلى مساعدة للاستمتاع بهما. كل منهما صعب ولكنه متاح مثل الآخر. من أجل أن نواجههما بشكل كامل، أين يمكننا أن نتجه سوى لقوة كشفهما المشتركة؟


[i]  Elsinoreالقلعة الملكية التي دارت فيها أحداث مسرحية هاملت.
 (1897-1985) ناقد أدبي وأكاديمي إنجليزي.  G. Wilson Knight[ii]
(1932-1982) عازف بيانو كندي، اشتهر بتركيزه على عزف أعمال الموسيقار الألماني باخ.   Glenn Gould [iii]
 (1894-1972) شاعر وناقد أمريكي. Mark Van Doren[iv]