من الفصل الرابع من كتاب مقدمة كامبريدج لصمويل بيكيت Cambridge Introduction to Samuel Beckett للكاتب: رونان مكدونالد، الكتاب صدر عام 2006
* رونان مكدونالد محاضر اللغة الإنجليزية بجامعة ريدينج ومدير سابق لمؤسسة بيكيت الدولية. 
 
ترجمة: أمير زكي

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

 
 
***
تعتبر الروايات الثلاث التي شكلت الثلاثية من ضمن أهم الأعمال الأدبية النثرية في القرن العشرين. يقدم بيكيت هنا بحثه الراسخ الأهم في ذلك الشكل الحفري؛ فن "العجز" و"الجهل" الذي اتجهت إليه رؤيته فيما بعد الحرب، تلك الرؤية المحتفى بها نقديا، والتي تعتبر الوريد الأكثر ثراء الذي استلهم منه فنه. تتحرك قصص الثلاثية تدريجيا في اتجاه بعيد كثيرا عن العالم المادي الذي نعرفه، إذ تكون الشخصيات ضعيفة في البداية ثم تصير في "اللا مسمى" غير إنسانية بالمعنى المعروف. وفي الوقت نفسه يتم استكشاف أصداء ثيمات طبيعة النفس والذاتية والدافع أو الإجبار على تلاوة القصص، والعلاقة بين اللغة والعالم، وطبيعة المعاناة والتجربة، وعواقب العزلة الإنسانية في نثر يتم التحكم فيه بإبداع رائع وبلاغة شكلانية.
 
عادة ما تلجأ السرديات النقدية التي تناقش الروايات الثلاث إلى مجازات التقطير أو التنقية أو التعرية، لرصد التقدم في الأعمال المتتالية. يتم التخلص من حس العالم الخارجي المستقر، وأشكال الفن الواقعي أو المحاكي التي تتبع هذا الاستقرار للمظاهر. بموازاة التخلص من العالم المادي، فكل شخصية في القصص العديدة التي يحكيها الساردون المتتاليون للروايات الثلاث تعاني من ضعف متنامي. تسميتهم بـ "شخصيات" قد يكون خطأ هنا، لأن هناك تبادل أدوار كثير بين تلك الشخصيات، وسيولة وعدم استقرار كبير في الهوية، وغموض كثير بالمقارنة بالتقرير الذاتي المستقر والمتماسك في كلمة "شخصية". إذا كانت الأساليب المجردة في الروايات ذات السرد التقليدي تسيطر عليها الحبكة المتماسكة والأحداث المحددة، فهي أيضا تضم بداخلها شخصيات متماسكة ومكتملة تمتليء بها تلك السرديات. هنا تتغير االشخصيات وتتغلغل في دماء بعضها. تنحو الحركة أكثر باتجاه أوضاع غير اجتماعية وغير مادية للهوية والذاتية. وربما تكون قصة مولوي وموران هي انعكاس مرتبك كما يطرح النقاد – صلابة موران البرجوازية المبدئية تتحول وسط السرد وتتجه نحو الشخصية الواهنة التي تشبه موضوع بحثه؛ مولوي.
 
إلى جانب ذلك فالاتجاه يكون نحو تجسيدات أكثر "نقاء" لسمات العالم الخارجي المعروف. الحس السائد للأصوات المتألمة التي تسرد هذه القصص - هذه القصص المُنهَكة الواهنة – يتم التعامل معه بازدراء من قِبَل حكائيها، وهذا واحد من الأشياء المربكة. في مقابل السارد العليم، وعادة ما يكون ساردا مغرورا ومُحتِقرا للسارد الغائب في محاولات بيكيت المبكرة في السرد، فهؤلاء الرجال الوحيدون ضائعون ومرتبكون، حتى إن كانوا ساخطين عادة ويعبرون عن ازدرائهم أحيانا.
 
السارد الغائب في رواية "حلم جميل لامرأة متوسطة" أو مجموعة "نخسات أكثر منها ركلات" هو راو عليم بشكل ما، وهو كذلك بقدر أقل عند سارد "مورفي". يبدو أن السارد المتكلم في "مولوي" لا يعرف الكثير، ولكن لأن مولوي يخبرنا أنه اهتم بالبحث المدرسي في الفلك والجيولوجيا والآنثروبولوجيا وعلم النفس، نعلم أن إحساسه بالجهل يأتي من بعد المعرفة وليس من قبلها. حتى عندما يبدأ السارد بثقة متضخمة لشخص متسلط – كما في حالة موران في النصف الثاني من الرواية – وبيقين من مكانته في الحياة، يتقلص ذلك سريعا إلى التردد المألوف في العالم البيكيتي. ولكن مهما يكن ارتباك السارد ومهما تكن اللغة مكررة ومرتبكة لتؤكد ذلك، فالنثر في الوقت نفسه يظل هادئا وساكنا. في الأعمال الأولى يكون الصوت السردي الغائب مشوشا بالمعرفة، كانت الجمل مثقلة ونخبوية، وعلى الرغم من وجود إحالات لنصوص أخرى في الثلاثية، فالمعرفة فيها مختفية أكثر بداخل الفيض السردي، ونتيجة ذلك تكون لغته أكثر سلاسة وهدوءا. تتحرك بيسر ودون قيد وتكون جميلة وموحية في معظم الأوقات.
 
خلال السرد، تحتوي اللغة على هذا النوع من السكينة الضمنية – جمل سلسة، لها إيقاع ومكتوبة بحرص. لأن المادة فوضوية ومضطربة ومتضاربة - وكأنها قصص مضطربة مجزأة لسارديها – فيتحول بؤسهم إلى ألم مستمر، وغالبا ما يصير اهتياج راقص. ربما هذا واحد من الأسباب التي جعلت بيكيت يزعم في مقابلة معه أن الشكل والمضمون في عمله يبقيان منفصلين. فالوضع يختلف مع كافكا، فهناك "ذعر" خلف الشكل، وليس فيه: "شكل كافكا كلاسيكي، يمضي كأنه عربة رصف – غالبا ما يكون ساكنا. يبدو أنه مهدد طوال الوقت – ولكن الذعر في الشكل. في أعمالي هناك ذعر خلف الشكل، وليس في الشكل"[1].  احتفى بيكيت الشاب بعمل جويس "عمل قيد التحقق" (أصل رواية "يقظة فينيجان) للتطابق الضمني فيها بين الشكل والمضمون: "هنا الشكل هو المضمون والمضمون هو الشكل" (D27). واحدة من الطرق التي تمارس فيها أعماله في ما بعد الحرب رد الفعل المواجه على أسلوب جويس هو بحثه المتشكك لهذه المساحة الذي يكون فيها المضمون والشكل متمايزين، وكذلك الفوضى والطريقة التي توصف بها. ينتقل الاضطراب في أذهان سارديه بشكل نموذجي عن طريق السرد غير المتأرجح والراسخ والهاديء، والمتسق مع نفسه، يتم ذلك بشكل مذهل.
 
الارتباك وعدم اليقين الموجودان خلف هذه السكينة، والنثر المتراجع غير مقيد بالشخصيات نفسها. مثلما أن المتحدثين عادة ما يشكون غموض القوى التي تجبرهم، كذلك لا يجد القاريء حضورا يقينيا للأغراض أو "الأهداف". إذا لم يكن موران متأكدا تماما من سبب ملاحقته لمولوي، فما هي الأسباب التي تجعل يودي يأمر بكتابة تقارير عنه؟ إن هذه المعلومات محجوبة عنا أيضا. من هذه الجهة، فالنص لا يعبر عن الارتباك والغموض فحسب، إنه يقرره. إذا شعرنا أننا مجردين من المعنى أو العقلانية أمام هذه الروايات، إذن ربما من الأفضل أن نضع في ذهننا أن هذا الغياب ربما يكون جزءا من وظيفة النص.
 
لو كان الأمر على هذا النحو، إذن فالسعي للوضوح أثناء قراءتنا، وشرح "معنى" الروايات، أو فك شفرة تعقيدها يمكن أن يكون، للمفارقة، تشويه وسوء تفسير. إذا كان الغرض من إحدى الروايات وتأثيرها الجمالي هو الحفاظ على وضوح الثيمة أو "الرسالة" العقلية، إذن فشرح الرواية وترجمتها إلى الثيمات المتماسكة يعني بطريقة ما فقدانها. المقاربات النقدية إلى الثلاثية تتراجع لتبحث بداخل نفسها: "قراءة" الثلاثية تطرح الأسئلة حول كيف يمكن للثلاثية أن تُقرأ طالما أنها تتحدى العديد من الممارسات والتقاليد المتضمنة في التفسير النقدي. وبالتالي علينا أن نتحرك بحذر، وبتشكك نقدي مناسب. اللقاء المُنتبه بسرد بيكيت هو لقاء يقظ يعي امتياز وطبيعة الأصوات ويهتم ببنية القصة وكيف يمكن سرد القصة، بقدر ما يسعى لمعرفة ما "تعنيه". ليس هناك جدوى كبيرة في التعامل مع هذه النصوص عن طريق الثيمات المعدة مسبقا أو الرسائل الواضحة، ولا جدوى في السعي إلى تيسير إزاحاتها وصعوباتها. من جهة أخرى، لا يمكننا أن نتجاهل ببساطة التحدي الذي تفرضه هذه النصوص المتهربة من أجل تفسيرها، وأن نتجنب غموضها وارتباكها من أجل الاكتفاء بتقدير إيقاعها المكتوب بعناية. حتى إذا تعثرنا ونحن نبحث عن الأسئلة المطروحة، فربما لا تكون هذه بداية سيئة لمحاولة معرفة ما هي تلك الأسئلة.