أوقات الثورة القلقة.. رواية تنشر على الإنترنت
 
مقال لأمير زكي
 
المقال نشر بعدد يناير 2015 من مجلة "عالم الكتاب"
 
***


نشرت جهاد الطنباري؛ الكاتبة الشابة التي تعيش بالمنصورة روايتها "أوقات قلقة" على ثلاثة أجزاء – كل جزء 
منها يتكون من 20 صفحة – على حسابها بموقع Scribd الخاص برفع الملفات، ثم روجت الرواية على حسابها بموقع تويتر؛ يبدو اختيار جهاد هنا مختلفا، فهي لم تسع لأن تدور بروايتها على دور النشر، سواء كانت ستضطر بذلك إلى أن تدفع مبلغا من المال لنشرها أو لا، هذا أسلوب مختلف في النشر، حتى أن المصحح اللغوي للرواية "جابر عثرات الكرام" ليس سوى مستخدم معروف على تويتر بالتطوع لتصحيح اللغوي لتويتات الأعضاء، وإن لم تسلم الرواية مع ذلك من وجود أخطاء لغوية وإملائية فيها. 
اختلاف أسلوب النشر حمل معه اختلافا في أسلوب الكتابة؛ الرواية مرتبطة بشكل كبير بلحظة تاريخية حديثة في الوطن؛ ما بعد 25 يناير وما قبل 30 يونيو، لحظة الاضطراب السياسي في العام الذي حكم فيه الإخوان المسلمون مصر، ولكن لأن الرواية لم تدر بشكل خاص حول هذا المشهد، مشهد حكم الإسلاميين، بل دارت بشكل أبرز حول ارتباك الشخصية الرئيسية أمجد.
يرسل أمجد رسائل لفتاة غير مسماة، لتصبح تلك هي بنية الرواية التي نشرت في بداية عام 2013، أمجد شاب ولكنه يبدو للمجتمع أقرب للفتاة، يختار أن يضع كحلا في عينيه وحسنة على خده وأحمر شفاه، يستخدم أدوات التجميل ليكون جميلا مثل الفتيات حسب وجهة نظره. قد نصفه بمصطلحات نظرية على أنه متحرر الجنس Queer، وهي الكلمة التي توحي بكون الشخصية غير مستقيمة جنسيا Straight، ولكن جهاد تذكر في حوار لها مع المدون أحمد مجدي في مدونته "الحياة بطريقة أخرى" أنها لا ترى أن أمجد "شاذ" جنسيا، وتضيف في الحوار: "هو كان شاذ شكلا بإرادته".
ولكن في كل الأحوال فوضع أمجد – الظاهري حتى – يجعله أكثر حساسية لما تعاني منه الفتيات في مصر، يقول أمجد في الرواية: "عندما تمشين في الشوارع وترين تجمعا ذكوريا ضاحكا يشير لطفلة في السابعة عشر ممزقة الملابس غارقة في الدم بعد اغتصابها، فإك ترينهم يصيحون بانتصار: أحرقنا الساحرة! أحرقنا الساحرة!".
أمجد يستطيع أن يتفهم وضع الفتيات؛ فهن بالنسبة للمجتمع كساحرات العصور الوسطى في أوروبا، وهو بأدائه الظاهري الذي يراه المجتمع "أنثويا" لا ينفصل كثيرا عنهن. المسألة ليست نظرية تدور في ذهن أمجد؛ هو يرى بعينيه يوميا ما تتعرض له الفتيات: "تعبر فتاة ثانوية عامة الطريق فيحاول أن يصدمها صاحب سيارة مشاكسا. تقف وترتب ثيابها، وتواصل المضي مرتبكة بعد أن هُدَد أمنها ووجودها كخليفة من خلائف الله في أرضه". هنا تسخر الشخصية الرئيسية من الحس الديني السائد الذي ليس له صدى واقعي في الشارع. لذلك ينصح فتاة تتعرض للتحرش: "استخدمي قبضتك وليس صوتك".
أمجد مثله مثل الفتيات يصبح دوما موضعا لنظر الناس، كتعبير متطرف عن الحال في مصر فالسائر في الشارع مستباح من الناس بالنظرات بشكل أكبر أو أقل، ويزيد الأمر لو كان اختيار المظهر والملابس مختلفا عن السائد في المجتمع مثلما هو الحال مع أمجد، يسأله موريس – أحد شخصيات الرواية -: "ألم تفكر يوما أن تكون عارضا يا أمجد؟" فيرد أمجد: "لا، لم أفعل يا موريس، ما أقبضه من نظرات الناس في الشوارع يسليني أكثر مما قد تدفعه لي أي وكالة إعلان".
وعندما يصطدم أمجد بالسلطة ممثلة في قسم البوليس، يتركز الصراع على عدم الفهم، يقول الشرطي: "ما أنت؟ بني آدم؟" منزعجا من مظهره والأحمر الذي يضعه على شفتيه. يرد أمجد في ذهنه: "أهذا هو الأحمر الوحيد الذي رأيتموه؟ ألم يسل أحمر آخر أي ذرة رمل يرتكز عليها أي وازع أخلاقي لدولتنا؟". بالطريقة نفسها الذي يسخر بها من زيف الفكر الديني يسخر أيضا من زيف فكر السلطة؛ التي يثيرها مظهر غير معتاد لشاب ولا تزعجها الدموية التي تسببها بنفسها.
الوقت القلق الذي يعيش فيه أمجد يزيد من سعة المشكلة لديه، عنوان الرواية يردد صدى عنوان رواية تشارلز ديكنز "أوقات عصيبة". ولكن الأوقات القلقة المصرية مختلفة، ثورة تنتهي ليتولى المحافظون الإسلاميون الحكم، مما يوحي بتضييق أكبر لمساحات الحرية الموجودة بالكاد. هو الوقت القَلِق الذي يموت فيه الناس "...بينما رئيس البلاد يبكي على أسوار الكعبة".
أمجد يشعر بالسخرية تجاه الوضع القائم، ولكن هذا لا يتيح له اتخاذ موقفا سياسيا، يسخر من موريس حينما يحاول أن يستفسر منه إن كان أناركيا.
شخصية موريس في الرواية تعبر عن مسلم متدين أقرب للحس السلفي، رغم أن اسمه قد يوحي لأول وهلة أنه قبطي، موريس يحاول تصنيف أمجد ووضعه في نمط، ولكن حتى السياق المحيط بأمجد ليس من السهل تصنيفه.
تظل محاولة التنميط والفرار منها أساسية في كل الرواية، يضيف أمجد لموريس: "هل تراني كليبرالي رقيع معتدل يا موريس؟ هل أبدو كابن زانية ذي توجهات سياسية؟ أتراني أقف بلافتة تقول: معذرة، هل مسموح أن أثور الآن؟"
ولكن حتى ثورية أمجد غير الخاضعة لنمط يتم تهذيبها من قبل المجتمع باستمرار، فأمجد مثله مثل رفاق جيله الذين يتم تقليم أظافر تمردهم: "كنت مدونا، فأخذوني وقالوا بل أنت صحفي... اتصلوا بي بعد الثورة وقالوا: اكتب، لقد أصبحت رائجا الآن... ومع رئيس البلاد المنتخب اتصل بي رئيسي... وأعطاني أسماء بعض الفرق الموسيقية وصانعي الأفلام المستقلة... قال: اكتب مقالا عن هؤلاء الآن، فقد أصبح ذلك يدر ربحا".
الثورة الآن هي الرائجة، لذلك فهي تظهر في الصحف ولكن بشروط، رئيس التحرير يشير إلى أمجد بضرورة أن يجعل كلامهم جميلا.
 لا يستطيع أمجد أن يجد أي نوع من الخلاص في العمل وفي المستقبل، حتى فكرة جمع الأموال لا معنى لها في هذا المجتمع "وماذا ينفعني المال في أرض خرب؟ آآكله؟"
الحل الوحيد الذي يراه أمجد هو أن يرى التحرر بعينيه: "أريد النساء عرايا في الشوارع وأريد عينا للخمر عند كل منعطف". الأمر يبدو فطريا بعيدا عن التصنيف كأناركي. الفطرة تمتد إلى ميول أمجد ورغبته في عمل بعينه: "... أريد السعي إلى أماكن إنتاج وفائض ومبادلة. سأذهب إلى الفلاحين وأقول: أعطوني بعض القلقاس وسأعمل لديكم يوميا، أدير الساقية بدلا من الثور... سأكون أنا الثور، سأكون الرياح، وسأمسك فأسا وأعزق حتى تتحول مسامي إلى صنابير تصب بالعرق، فأروي بها الأرض بدلا من طمي النيل وفيروس سي".