المجنون يرد الهجوم
(الفصل الخامس من كتاب "مِحَن الحداثة العربية لطارق العريس*)
  Trials of Arab Modernity: Literary Affects and the New Political. New York: Fordham University Press, 2013.
ترجمة: أمير زكي
 
* طارق العريس؛ أستاذ مساعد في الدراسات العربية بقسم الدراسات الشرق أوسطية بجامعة تكساس، أوستن. حصل على البكالوريس في الفلسفة من الجامعة الأمريكية ببيروت (1994)، والماجستير في الدراسات السينمائية من جامعة روشستر (1997)، والدكتوراة في الأدب المقارن من جامعة كورنيل (2004).
يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.
***
ما الجنون؟ إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، أما الجوهر، فسر مغلق.
- نجيب محفوظ – همس الجنون (1938).
أستخدم كلمة "كوير" queer  (أحرار الجنس) للإشارة إلى مساحة من الممارسات والرغبات المعارضة واللا غيرية الجنسية الصارمة والرغبات التي يمكن جدا ألا تكون متطابقة مع أنماط الهوية لـ "المثلي" و"المثلية".
- جاياتري جوبيناث، الرغبات المستحيلة: أحرار الجنس في الشتات وثقافات جنوب آسيا العامة (2005).
ليزبيان lesbian كلمة قبيحة بالنسبة لي، هي تجعلني أتشنج خاصة لفظها بالفرنسية كما تُستخدَم عادة في لبنان "لزبيينّ" (مع تطويل "يييينّ"). شيء مقرف، إنها حتى أسوأ من كلمة دايك Dyke. لكنها  في النهاية  تبقى مقبولة مقارنة بـ "سحاقية". تلك الكلمة تجعلني أود أن أتقيأ بالفعل... أجد أنه من المثير كيف يُشَكِّل الناس صورا محددة لتناسب الكلمات، وكيف يضفون معاني مطلقة على الكلمات. عندما يقولون ليزبيان، فهذا يمثل صورة أحادية في أذهانهم. ليس لديهم فكرة ما هو الاختلاف والتنوع الذي يمكن أن تمثله كلمة ليزبيان.
- كاتب مجهول، بريد مستعجل: قصص واقعية (2009).
"بريد مستعجل: قصص واقعية" (2009) مجموعة نُشرِت بدون ذكر اسم الكاتب، وهي عبارة عن كتاب سِيَر ذاتية لنساء لبنانيات كويريات** queer. تصير الجنسانية في تلك المقالات قلب تَشَكُّل الهوية، والفردية والنضال الأسري، ومجموع القوى الاجتماعية والسياسية العابرة للخلفيات الطبقية والدينية. في الاستجواب المُرَكَّز لكلمة "ليزبيان" المقتبسة هنا - من العربية إلى الإنكليزية إلى الفرنسية - تحدد الكاتبة المساحات الثقافية في التقاطع الذي يشكل جنسانية متداولة دوما. بالعودة هنا وهناك بين النغمات والانفعالات والدلالات، تواجه الكاتبة الطبيعة الأحادية لكلمة "ليزبيان"، مُصِّرة على تنويعها خلال مصطلحات من نمط "مسترجلة، أنثى"، وبالتعريف الجنسي ("مثلي، مزدوج الاتجاه الجنسي، متحول الجنس")، وبالثقافة (العربية، الأميركية، الفرنسية) واللفظ (إييييين). "لزبيينّ" بالتالي كلمة متعددة الطبقات تثير ردود فعل مختلفة ولا يمكن أن تُختَصَر في المواجهة المزدوجة التي تعمل بدقة في النماذج الجنسية الغربية أو الشرقية. "المثلي جنسيا" و"المثلية الجنسية" هما مبدآن معقدان بشكل متساو، يعملان خلال السياقات والمستويات الثقافية. تلك الأشكال من المداولات تصيغ تمثيلات وبحوث الجنسانية العربية الكويرية في الأدب والإنتاج الثقافي المعاصر[1].
في الآونة الأخيرة يتفحص الاهتمام النقدي بتعبيرات الجنسانية في العالم العربي- مثل كتاب جوزيف مسعد "اشتهاء العرب" (2007) - أسئلة الهيمنة الغربية والإطار المركزي الأوروبي لجهاز الحداثة القانوني والثقافي والسياسي العربي. في كتاب "نساء بشوارب ورجال بدون لحى: القلق الجندري والجنسي في الحداثة الإيرانية" (2005)، تبرهن آفسنه نجم آبادي أن الحداثة في إيران القرن التاسع عشر على سبيل المثال تتضمن عمليات تطبيع الجنس والجندر. آخرون مثل درور زئيفي في كتابه "إنتاج الرغبة: تغير الخطاب الجنسي في الشرق الأوسط العثماني، 1500 - 1900" (2006)، وخالد الرويهب في "قبل المثلية في العالم العربي- الإسلامي 1500- 1800" (2005)، يتعاطيان مع النماذج الأدبية والثقافية العربية والعثمانية للحب من الجنس نفسه وممارساته. في كتاب "عبور الحدود: الحب بين النساء في آداب العصر الوسيط الفرنسية والعربية" (2008)، تقرأ سحر عامر تعبيرات الحب المثلي الجنسي والرغبة عند تقاطع النماذج الثقافية واللغوية العربية والأوروبية. مختارات كاثرين بابايان وآفسنه نجم آبادي "المثلية الجنسية الإسلامية: ترجمات عبر الجغرافيات الزمنية للرغبة "(2008)، تتكون من سلسلة من المداخلات النظرية تتعاطى مع نظرية الكويرية والدراسات الجنسانية، "واضعة في الاعتبار الحوار-  السلس أحيانا والمتوتر أحيانا  بين الدراسات اليورو- أميركية المعاصرة والدراسات الشرق أوسطية/الإسلامية"[2].
 
بالتعاطي مع نماذج ميشيل فوكو التاريخية والابستمولوجية لـ "الحداثي" و"ما قبل الحداثي" في أعمال مثل "تاريخ الجنسانية، المجلد الأول: مقدمة" (1976)، "المراقبة والعقاب" (1975)، و"الجنون والحضارة" (1961)، أبرهن أن حوارا نقديا مع فوكو وقراءته للحداثة ونقدها تساعد على تعقيد النماذج الجنسية المحددة التي تنتمي للتقاليد الثقافية المميزة. بنقد فوكو مع إدراك عدم القدرة على تجاهل إطار مشروعه الثقافي والتاريخي، أعالج سلسلة من "الأحداث" الجنسية التي تَعرِض إنتاج الجنسانية العربية الكويرية، التي تقاوم التنظيم عن طريق مجموعة ثابتة من الخطابات الاجتماعية والسياسية. بالتركيز على تقاطعات الجنون والمثلية الجنسية في أعمال لحنان الشيخ (1945) وحمدي أبو جليِّل (1967)، يبحث هذا الفصل الانفعال Affect والأدائية Performativity من أجل خلخلة التأكيد على ثنائيات الشرق/الغرب والحداثي/ما قبل الحداثي الذي تؤخذ بدون تمحيص في الجدالات الدائرة عن الجنسانية العربية. أناقش هذا في رواية حنان الشيخ "إنها لندن يا عزيزي" (2000 ـ ستُختَصَر هنا إلى: إنها لندن) التي تُعَبِّر عن المثلية الجنسية عن طريق أفعال الجنون المضادة للمجتمع عبر مستويات ثقافية ولغوية وتقاليد أدبية مختلفة. وفي "لصوص متقاعدون" (2002، التي ستُختَصَر: لصوص)، فإن ربط حمدي أبو جليل المثلية الجنسية بالجنون يساعد على تحديد وضع آخر لمقاومة العنف الاجتماعي والسياسي. في كل من الروايتين، يقاوم المثلي جنسيا والشخصية الشبيهة بالمجنون تنظيم جنسانيته وسلوكه الاجتماعي سواء في بيروت أو القاهرة، ويُخَلخِل بشكل منظم التمييز بين العاقل والمجنون، والحداثي وما قبل الحداثي، والشرق والغرب. هذه المقاومة المُجَسَّدة تقود إلى فهم جديد للمجنون: متمرد كويري وعاشق ولهان، يُعَطِّل الأعراف الاجتماعية ويكشف بنى العنف. هو يتوعد، ويرتدي ملابس عابرة للجنس، يغوي الناس في الشارع، يقفز وينهار. وعلى رغم أنه مرتبك ومُحارَب، يعبر عن رغبته خلال الإيماءات والسلوك المهووس، الذي ينتج تعبيرات جديدة عن ممارسات وهويات جنسانية في الأدب المعاصر.
قراءتي المقارنة للمجنون الكويري في أعمال الشيخ وأبو جُلَيِّل تربط الجدالات القائمة عن المثلية الجنسية العربية بالشكل الأدائي والجسداني والشعوري. من التجزؤ والاغتراب في مواجهة الحداثة الأوروبية عند الشدياق والطهطاوي وصالح تلك التي ناقشتها في الفصول الثاني والثالث والرابع على التوالي، أنتقل في الفصل الخامس إلى تعامل الأدب المعاصر مع المثلية الجنسية كجنون، وأداء، وتمرد. بالتالي يستكشف الفصل الطرق التي تحولت بها الممارسات والخيالات الجنسية لطالب "النهضة" عند رفاعة الطهطاوي والذات المُستَعمَرة عند الطيب صالح في روايتي الشيخ وأبو جليل عبر المساحات الثقافية واللغوية. مِحَن الحداثة العربية بين لندن وبيروت والقاهرة تم التعبير عنها بالانفعالات والإيماءات والأفعال التخريبية، وبالإضافة إلى ذلك تُبرِز بشكل واضح الإلحاح النظري لتحليل النصوص المعاصرة في ضوء "النهضة" والنصوص ما بعد الاستعمارية. مِحَن الحداثة العربية في تلك الروايتين تَظهَر في سلسلة من "الأحداث" – اللقاءات الجنسية ونوبات الجنون والتنفيس. تلك الأحداث تخلخل الثنائية الشائعة بين هويات المثلية الجنسية الذكورية والأنثوية الأورو- أميركية والممارسات الاجتماعية والجنسية العربية "التقليدية"، بالتالي تتيح ظهور نماذج جديدة من الذاتية ومواضع البحث.
السياقات الكويرية
 
تمثيلات المثلية الجنسية والإيروتيكا المثلية في الأدب العربي الحديث تتحرك في مساحة كبيرة من النصوص والمستويات الثقافية والتاريخية. في روايته "زقاق المدق" (1947) يقدم نجيب محفوظ شخصية المثلي جنسيا كرجل متزوج. إنه شخصية هامشية في "الحارة" القاهرية. في "حجر الضحك" (1990)، تُصَوِّر هدى بركات صراعات شخصيتها الرئيسية خليل مع المثلية الجنسية في سياق الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990). في "طقوس الإشارات والتحولات" (1994)، يقدم سعد الله ونوس رؤية معقدة عن التفاعل بين الحب المثلي ونماذج الذكورية في دمشق القرن التاسع عشر. صبا الحرز، الكاتبة السعودية صاحبة رواية "الآخرون" (2006)، تنتج سردا حميما عن رغبة امرأة في نساء أخريات. حاتم رشيد، الشخصية المثلية جنسيا في رواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" (2002)، يبقى، على رغم أنه قُتِل في النهاية، قويا وأبيّا، ويتجاهل أي محاولة لتشويه سمعته.
عالج فريدريك لاجرانج تمثيلات الجنسانية في الأدب العربي الحديث، شارحا أنه أثناء اللقاء العربي بالحداثة في القرن التاسع عشر، تحدت الممارسات والقيم الأوروبية النماذج العربية للرغبة عبر الخطابات التي دارت عن الحضارة والتطور الثقافي. متعديا أطروحة لاجرانج، أضاف جوزيف مسعد نقدا للممارسات الاستعمارية والاستشراقية الهدامة التي أنتجت بشكل نسقي معرفة عن الجنسانية في العالم العربي. ومن دور المنظمات غير الحكومية إلى ردود فعل الحكومات المحلية المتهمة بانتهاك الحقوق المثلية، حدد مسعد مجموعة من القوى السياسية والثقافية التي تسهم في الإنتاج الخطابي للأفكار الأورو- أميركية عن الهويات المثلية الذكورية والأنثوية في العالم العربي[3]. وتوجه مسعد للميراث الثري للجنسانيات الإسلامية، وعمل خالد الرويهب مثال، الذي وضع تلك التمثيلات في السياق التاريخي والثقافي العربي- الإسلامي، جعل من الممكن لبحوث أبعد أن تتعاطى مع النماذج الثقافية العربية والأوروبية.
بإدراك أهمية نقد الاستشراق، استجوِب كلا من قراءة الحداثة كمشروع متماسك فَرَضه العنف الاستعماري والمنظمات غير الحكومية، والتخصيص النقدي الحديث للتاريخ الثقافي العربي كمصدر للجنسانيات الأصيلة التي قمعها هذا المشروع. استعادة التقليد العربي الإسلامي كموضع لمقاومة الهيمنة الغربية يصف عودة مستحيلة لشيء متخيل دوما بالفعل، معاد تشكيله، ومعاد بناؤه. فقط التحليل المقارن للنصوص المعاصرة والكلاسيكية، والسياقات الثقافية العربية والأوروبية يمكنه أن ينتج فهما معقدا لتطور النماذج الجنسية والجندرية في الأدب والثقافة العربية. بشكل خاص، فحص سلسلة من "الأحداث" الكويرية في سرديات الشيخ وأبو جليل تساعد على التعاطي مع مفهوم "التجربة" بعيدا عن شمول وتجريد ثنائية الحداثة/التقليد. الالتفات إلى فوكو في هذا السياق يعيدنا إلى النماذج الثقافية والنظرية الأوروبية بهدف خلق حوار ضروري يعترف- إلا أنه ينقد- تأثير اللقاء مع المدن والممارسات الاجتماعية والسياسية الأوروبية على الحداثة العربية في سياقات أدبية وثقافية عديدة.
في المجلد الأول من "تاريخ الجنسانية" يناقش ميشيل فوكو أن القرن التاسع عشر في أوروبا شهد ميلاد المثلية الجنسية. محددا استخدام كلمة "مثلي جنسيا" في مقال ويستفال Westphal عام 1870، يُظهِر فوكو أن المثلية الجنسية أُنتِجَت بشكل خطابي عن طريق أنساق نفسية وقانونية سعت لتصنيفها وتنميطها ومعالجتها واحتوائها: "المثلي جنسيا في القرن التاسع عشر أصبح شخصية، ماضيا، حالة تاريخية، وطفولة، بالإضافة لكونه نمط حياة، شكلا من الحياة، مورفولوجيا، مع تشريح فظ وربما فسيولوجيا غامضة. لا شيء مضى إلى مركبه الشامل لم يتأثر بجنسانيته. كان حاضرا في كل شيء فيه... السدومية كانت شذوذا مؤقتا؛ المثلي جنسيا الآن أصبح صنفا"[4]. أسس فوكو تمييزا زمنيا ومتطورا بين الحداثي وما قبل الحداثي، قارئا "الآن" كمسرح للإنتاج الخطابي للمثلية الجنسية كهوية خلال "علم الجنسانية". هذا حوّل المثلي جنسيا إلى ذات تاريخية، متميزة عن ما قبل الحداثي والسدومي غير- الغربي. المثلية الجنسية كـ "صنف" أصبحت مُدرَكة خلال تغير فيزيقي أعطاها شكلا وجعلها واضحة. تصنيفات "المثلية الجنسية" و"السدومية" في هذا السياق سمحت لفوكو أن يكشف انتشار أشكال جديدة من السلطة تستخدم السيادة السياسية والعلمية. مَيَّز إنتاج الحداثة الغربية للمثلية الجنسية خلال نسق من الحقيقة العلمية القانونية عن فن الإيروتيكا ما قبل الحداثي الشرقي، المتصل باقتصاد اللذة[5]. تمييز فوكو بين الحداثي وما قبل الحداثي وبين علم الجنسانية وفن الإيروتيكا، ليس أنطولوجيا على الإطلاق، ولكنه أداتي بالأحرى؛ من الضروري لطوبوسه topos النظري الذي يسعى لإنتاج الحداثة الخطابي للذاتية في القرن التاسع عشر. مع ذلك، فصياغة فوكو واستخدامه النقدي يفترضان سلفا تقاطعات رقابية، معاملا السرد الغربي الحداثي كمميز عن ما قبل الحداثي في مقابل الغرب، ومن هذا المنطلق، في مقابل ما يتم اعتباره خارج الغرب أيضا. تناقش دينا القاسم أنه بالنسبة لفوكو: "ما قبل الحداثي والشرقي هو بالتالي مُعَرَّف دوما بالتضاد الذي يحفظ فرادته عن طريق فصله عن التجليات الرقابية الحديثة"[6]. التعاطي مع نموذج فوكو ونقده يساعد على تعقيد كل من نموذجه واستثمار هذا النموذج في البحوث النقدية الحديثة للمثلية الجنسية في الأدب والثقافة العربية.
يقَصِّر فوكو في إدراك الارتباط بين الحداثي وما قبل الحداثي، الغرب والشرق، المعروض بشكل نسقي في الأدب العربي المعاصر والذي يدور بشكل طويل ودائم في العلاقات الثقافية والفكرية بين النصوص والثقافات العربية والأوروبية. تناقش سحر عامر أن فهم فوكو للمثلية الجنسية يحول دون إدراك الهويات المشابهة للمثلية السائدة في النصوص والثقافات العربية والأوروبية. بقراءة المثلية الجنسية في كتابات فرنسية وعربية في العصر الوسيط، تحدد عامر تناصّا كويريا بمستويات لغوية، وموتيفات ومجازات مُهَجَّنة. هذا التناص يخلخل الرابط بين الجنسانية والنقاء الثقافي وبين الحداثة والتقليد. مؤطراً إياه في داخل السياق التاريخي المحدد بشكل متساو بالتبادل الثقافي مثلما هو بالصراع والمقاومة، يمثل التناص الذي تحدده عامر موضعا استراتيجيا لفحص المثلية الجنسية في الأدب العربي في تقاطع االنصوص التقليدية والنظرية العربية- الإسلامية والأوروبية.
إنها لندن، يا عزيزي!
 
في "مساحة الترجمة: أدب مقارن جديد" (2006) تحلل إيميلي آبتر وضع النصوص بعلاقة اللغة مع مواضع السلطة. تُعَرِّف "مساحة الترجمة" كموضع "في- الترجمة" أي لا تنتمي إلى لغة واحدة منفصلة ـ أو وسيط اتصال واحد... (أي) تنطبق على لغة مجتمعات الشتات، النشر والمجالات العامة (و) مسارح الحرب"[7]. فكرة آبتر تتقاطع مع الحدود الفيزيقية بتخيل مساحات معقدة للتفاعل والتداول. بتكوير queering تلك المساحات جنسيا، تقرأ جاياتري جوبيناث الرغبة بين تعبيرات الوطن والشتات، وبالتالي تضعها في عمليات التداول عبر مستويات الثقافية واللغوية مختلفة. في هذا السياق، تشير جوبيناث إلى أن "الصدع الراديكالي لتراتبيات الوطن والشتات، الغيرية الجنسية والمثلية الجنسية، الأصل والنسخ، ونصوص الشتات الكويرية تتوقف على سؤال الترجمة"[8] .ولكن تلك الترجمة  ليست فحسب وضعا للاتصال عبر اللغات والسياقات الثقافية، ولكنها تتضمن نماذج للأدائية performativity التي تكتب المعنى في الجسد وتعيد تشكيل العملية التي تركز فقط على قضايا التمثيل والتبادل الثقافي والاستعارة.
من خلال  المجالات والأطر التي طورتها آبتر وجوبيناث، أركز على وصف "إنها لندن" للمثلية الجنسية بين لندن وبيروت، معبرا عن الطرق التي بها تتحدى الرغبة المثلية الجنسية الأعراف الاجتماعية في كل من أوروبا والعالم العربي. التعبير المُواجِه عن الجنسانية لدى الشخصية الكويرية يتشكل في تقاطع الأدب واللغة العربية، الوطن والشتات، والثقافة الجماهيرية والخطابات عن الجنس والحضارة في أميركا وأوروبا. إلا أن الشيخ تُخَصِّص تَعَقّد الربط المثلي جنسيا مع المشروع الحداثي المحدد بوضوح والمقيد ثقافيا. في نص الشيخ، الجنسانية العربية المتحررة تشكل موقف معارضة وتمرد ضد البنى العرفية للغيري/المثلي والبنى الأيديولوجية للمارسات الجنسية العربية- الإسلامية الأصيلة المواجهة للإنتاج الخطابي للمثلية الجنسية في الغرب.
سرد الشيخ المرح يبدأ على طائرة تتعرض لمطب هوائي، وعلى متنها أربع شخصيات رئيسية تسافر من دبي إلى لندن. ترتفع الطائرة وتهبط "وكأنها يويو"[9]. هذا المطب الهوائي يصف أحوال الشخصيات الثقافية والنفسية ويقدم بذلك التنافر والانفعالات كإطار استراتيجي لتطور السرد. الاضطراب والإشارة إلى دبي، مدينة العولمة بامتياز، تتحدى الحدود المكانية والثقافية للشرق والغرب، وتزعزع النماذج الثابتة للرغبة والهوية واللغة[10]. أميرة، وهي عاهرة مغربية، تعود إلى الوطن بعد رحلة "عمل" محبطة؛ لميس وهي امرأة مطلقة حديثا تعيش أيضا في لندن، تعود بعد محاولة فاشلة للاستقرار في دبي؛ نيقولاس، وهو خبير بريطاني في الفن الإسلامي، يعود من رحلة إلى عمان؛ وأخيرا، سمير، وهو رجل لبناني في العقد الرابع من عمره، متزوج ولديه خمسة أطفال، ويعيش في الإمارات، يأتي إلى لندن لأول مرة بحثا عن الحرية الجنسية.
مع تطور السرد، تظهر لندن كمساحة متخيلة للحرية الشخصية والجنسية. يحب لميس ونيكولاس بعضهما؛ تنظر إليه كرجل بريطاني سيسمح لها بالتعبير عن جنسانيتها بحرية، وينظر إليها كامرأة عربية جميلة إلا أنها ضعيفة وفي حاجة لحمايته. يحاول الحبيبان تجاوز إسقاطاتهما على الآخر، هذا الذي يقود العلاقة إلى طريق مسدود. أميرة، المرأة التي تجمع كل الشخصيات في الرواية، تقرر استكشاف آفاق مهنية جديدة منتحلة شخصية أميرة خليجية من أجل خداع الرجال الأثرياء العرب في لندن. وبعد نجاحات قليلة، ينكشف أمرها وتُضرَب في مشهد تراجيدي ومذل. بالنسبة لسمير الذي ليس لديه مكان ليأويه ينتقل مع أميرة ويصبح رفيقها الأكثر إخلاصا. مصطحبا قرده الأليف، يقرر سمير أن يكتشف لندن، وأن لا يعود إلى زوجته وأطفاله وحياته السابقة.
نتعرف على سمير بوصفه "رجلا يرتدي ملابس صارخة" Flamboyant؛ قميص فيرساتشي وحذاء كاوبوي ويبدو ككلينجر في مسلسل MASH[11]، زيّ سمير عابر للثقافات؛ مُشَكَّل بعوالم الموضة والتلفزيون من لبنان إلى إيطاليا إلى هوليوود، متجاوزا الحدود بين الشرق والغرب، والمحلي والأجنبي. يذهب إلى كابينة الدرجة الأولى بحثا عن مهدىء لقرده الأليف الذي ينقله بشكل غير قانوني في سلة وهو يهدد بأن يكشفه. يقترب سمير من لميس: "دخيلك مداموزيل، رح جنّ... دخيلك عندك حبة منوِّمة أو مهدئة للأعصاب؟"[12]. نص الشيخ يركز على قرب انفجار الجنون مع تكرار عبارات مثل "دخيلك" و"راح جن"[13]. واصفا انهياره الشعوري استخدمُ سمير كلمة "جِن". فهذا التعبير الدارج الذي قد يدل على عدم التصديق، والغضب، والانزعاج، يتخذ من كلمة "جن" ما يعني "الجني" أو "الروح". وسرعان ما يحصل سمير على المهدىء، ويعود من أجل المزيد. وعندما تخبره لميس أنها أعطته البعض منه للتو، يجيب سمير: "بعرف عطيتيني حبتين، والله أنا مش مجنون، مع أنه مبيّن عليّ مجنون".[14]في الاستخدام الثاني، كلمة "مجنون" تتخذ معنى آخر، تضع حالة سمير الشعورية إلى جانب مظهره. التلاعب والارتباط اللغوي يستحضران إلى الذهن تعبيرا دارجا لبنانيا آخر، مجنونة (وأيضا "جنية") المشابهة للكلمة الفرنسية الدارجة folle (خَوتة). سمير بالتالي يتنقل بين الجنون كاضطراب نفسي، والجنون كتعبير عن الرغبة المثلية المستعرة المُدرَكة في الملابس والأفعال. في كل من الحالتين، موضوع الجنسانية والتعبير عنه على متن الطائرة  ثم في لندن  مصاغ خلال الحركة والاهتزاز والانهيار. تلك الأحوال الجسدية تُكَوِّن الإطار الذي من خلاله تتشكل الجنسانية في الرواية.
تواريخ الجنون
 
في كتاب "الجنون والحضارة: تاريخ الجنون في عصر العقل"، يناقش فوكو أنه بينما كان الجنون في العصور الوسطى الأوروبية مرتبطا بالغامض وغير الطبيعي، فَسَّر القرنان السابع عشر والثامن عشر الجنون كمضاد للعقل (déraison، اللا عقل). أما القرن التاسع عشر فأنتج الجنون تدريجيا كمرض عقلي من خلال خطاب طبي ونفسي. الشخص المجنون تم حجزه وأُجبِر على الاعتراف في المصحات الأوروبية في القرن العشرين. ولكن الانقطاع مع ما قبل الحداثي في نموذج فوكو ليس كاملا. في الحقيقة، الجنون كنوع من مس الأرواح سيطر على المنتج النفسي للجنون. في الروايات التي أناقشها، تَشَكَّل الجنون في التقاطع بين العيادة النفسية والعالم الخارق للطبيعة.
في السياق العربي- الإسلامي، أنتج مبكراً التقدم في العلوم في العصور الوسطى الجنونَ كمرض عقلي قابل للعلاج. في القرن الحادي عشر، خصص الطبيب ابن سينا (980- 1037) قسما في كتابه "القانون في الطب" للمرض العقلي. كانت العيادات النفسية الإسلامية في هذا العصر موجودة في مصر وسوريا وفي أنحاء العالم الإسلامي. هذا يُظهِر أن شكلا من المؤسسة الطبية، يعالج الجنون ويعتبره مرضا قابلا للشفاء، اندمج مع اعتبار الجنون حالة مس. وبما هو أبعد، في كتاب "خطاب الجنون في الثقافة العربية" (1993) يقرأ الناقد السوري محمد حيان السمان الجنون في أعمال مجموعة من المفكرين، من الجاحظ (781 -868) إلى ابن خلدون (1132- 1406). ومقتبسا النيسابوري (توفي 1016) يقترح السمان أن المجنون يتحدى المعتقدات والتقاليد والأزياء السائدة[15]. المجنون بالتالي متمرد، مسلٍ، رمز نبوي. ناقش السمان إلى جانب ذلك أن صوت الجنون في النصوص الإسلامية والسرديات التاريخية هو صوت المعارض الذي يقول الحقيقة أمام السلطة ويتحدى الأعراف الاجتماعية والسياسية. معبراً عن الآراء الجمعية للمقموعين والمهمشين، يُخَرِّب المجنون بعنف النظام الاجتماعي بالكلام والأفعال.
يُعَرِّف ابن منظور (1233 - 1311) "الجنون" كشكل من "السِتر" وانسحاب "العقل"[16].هذا الجنون عادة ما يرتبط في الأدب العربي بحالة من المس العقلي. المثال الأبرز يمكن أن يوجد في قصة "ليلى والمجنون" من القرن السابع، تلك التي سجلها الأصفهاني (897 - 972) من القرن العاشر في "كتاب الأغاني". في هذا السرد عن الحب "العذري" تظهر عدم قدرة المجنون (اسمه الحقيقي قيس بن الملوح، توفي عام 688) للاتحاد مع حبيبته، هذا الذي دفعه الى الجنون والموت[17]. شِعر الحب العذري متخذ من ممارسات قبيلة يمنية، بني عذرة، وكان رجالها معروفين بالحب الشديد وغير المُشبَع، الذي عادة ما يقود إلى الموت. يصف الجنون، في هذا السياق، استهلاك الرغبة للمرء، وهو شبيه باستهلاك الأروح أو الجن.
وجميل (مات عام 701)، من "قبيلة عذرة" أيضا، هو مثال آخر مهم للشعر العذري الذي استحضر جهرُه بحب بُثينة الهوسَ المُوهِن. يذكر روجر ألان أن "قصة جميل تتضمن قطعا مع التقاليد القبلية في ما يتعلق باللقاء بين الجنسين، إذ كشف للعامة مشاعره لحبيبته"[18]. وهذا الوصف لجنون المحب، المؤدي إلى اختفاء الحبيب، يتصادف مع الجهر بالحب والرغبة. فالجنون بالتالي لا يصف فقط العاطفة نفسها ولكن أيضا تعبيرها العام. وفي هذا السياق، يحيل جنون سمير في "إنها لندن" إلى كل من حالته النفسية ورغبته المستترة، المُجَسَّدة في أقواله وأفعاله المتمردة في لندن. فالجنون يعمل بالتالي ككشف للرغبة التي تُحَطم وتُخَلخِل التقاليد الاجتماعية والثقافية للحب والجنسانية. وبالضبط كالمجنون، حبيب ليلى، الذي يصاحب الحيوانات أثناء بحثه المجنون عن حبيبته، ينطلق سمير وقرده الكبوشي في جنونهما، في بحث عن الرجال الشُقْر في لندن.
الارتباط الاستراتيجي لجنسانية سمير بالجنون خلال تَقلُّب الجنون عبر المستويات الثقافية العربية، البريطانية، الفرنسية يساعد على ظهور لغة جديدة للرغبة في الرواية. فبالظهور والتصرف بجنون، ينتهك سمير الأعراف الثقافية والاجتماعية. ويعكس القرد في السلة الذي ينتظر أن يتحرر في لندن رغبة سمير الجنسية[19]. ففي الوقت الذي يأخذ فيه سمير المهدىء من لميس يقول: "بدّي خبَرِك سرّ، دخليك احلفي إنك بتخليه تحت إجريك... عندي بالسلة سعدان صغير".[20]"يخرج" سمير إلى لميس كشخص يُهَرِّب قردا ويحتاج إلى مهدئات ليبقيه نائما. إعلان سمير أنه "راح يجن" يعني أنه على وشك أن يتصرف كقرد طالما أن القرد "مجنون" (folle) وسيخرج من السلة في الوقت الذي تحط فيه الطائرة ويتبدد تأثير المهدئات. عبارة "راح جن" في هذا السياق ليست فقط توصيفا للحالة النفسية غير المستقرة وفقا لاضطراب الطائرة وخوف سمير من أن تقبض عليه الشرطة البريطانية بسبب تهريبه للقرد؛ إنها أيضا جهر بالرغبة بتوصيف الحالة الجسدية، بـ"راح جن" (أي سوف أجن)، في اللحظة التي تحط فيها الطائرة على الأرض وتتحرر القردة. فـ"راح جن" بالتالي تعمل كقول أدائي، يصيغ تعبير سمير عن الرغبة في لندن من خلال الأفعال الكويرية  للتمرد الجنسي والاجتماعي المقلدة للقرد[21]. ومن ثم يشير الخروج إلى لندن إلى تعبيرات حديثة للمثلية الجنسية والحرية الجنسية في سياق أوروبي، وإلى التعامل العربي - الإسلامي مع الجنون كنوع من المعارضة والتخريب عن طريق الملابس والسقوط والتعبير عن الرغبة أيضا.
بيت الدعارة، والعيادة، والمصحة
 
يتخيل سمير لندن على أنها جنة المثلية حيث يرى "صفوفا من الشباب الإنجليز... يسيرون اليد في اليد"[22]. ولكنّه يسعى لتفسير العالم من حوله بفهمه المحدود للإنجليزية. تجربته في الذهاب - بدون أن يعلم - إلى عيادة أمراض منتقلة جنسيا هي خير تعبير عن "جنونه" في لندن. بينما كان في كابينة تليفون في حي سوهو، لاحظ سمير إعلانا يحتوي على صورة تُظهِر رجلين يقبلان بعضهما. وهو مفعم برغبته وغير قادر أو راغب في فهم النص الإنكليزي، يوقف تاكسي ويريه الإعلان، ويطلب منه أن يقوده إلى المكان المشار إليه. عندما يصل إلى المكان يدخله ويجده منظما ونظيفا جدا، على خلاف "بيت دعارة المثليين" الذي تخيله. موظفة استقبال تضع صورة فتاة صغيرة على مكتبها ترحب به وتقدم له استمارة ليملأها. يتخيل سمير وسط ارتباكه أن في إنكلترا "كل شيء هنا عالإتيكيت والقانون... حتى الكذا مذا"[23]. وعلى رغم أن المكان لا يصلح لأن يكون بيت الدعارة المتخيل، يصر سمير مع ذلك على جنسنته. شارحا لها أنه غير قادر على ملء الاستمارة، تستمر موظفة الاستقبال في سؤاله مجموعة من الأسئلة الشخصية، وهو ما جعله غير مرتاح، وبشكل سريع جدا يبدأ في انتاقد القوانين والتقاليد التي تنظم الجنس في إنجلترا. "حتى هذه الأمور الذي يحسبها المرء صعبة هي أسهل في بلادنا. لا استمارات ولا كونتراتات، بل في المقابر، في الكاراجات، عند حواجز الميليشيا[24]". هكذا ينتقد سمير علم الجنس الذي هو وفقا لفوكو نموذج يُخضِع الجنس إلى قانون سلطة المعرفة. بهذا المعنى، تسأل المرأة في العيادة سمير عن حقيقة جنسانيته، مجبرة إياه على الاعتراف عن طريق الكتابة. وبينما يقاوم سمير تقليد الجنسانية هذا في لندن، يستدعي لبنان الممزق من الحرب (بالإشارة إلى "الحواجز" في دولة الحرب الأهلية اللبنانية السيئة السمعة) كمكان للحرية. في النهاية، بعد اعتبار إنكلترا مكانا للتحرر الجنسي تتحول هنا إلى موضع  لجهاز قانوني وطبي حديث لتقييد الرغبة وتعطيلها. معارضة سمير الجنسية بالتالي تربط انهيار النظام الاجتماعي والسياسي في لبنان كنتيجة للحرب الأهلية (التي يشار إليها على أنها "أحداث") بالحرية الجنسية، منتقدة بهذه الطريقة تنظيم الجنسانية عن طريق المؤسسة الطبية المُمَثَّلة في عيادة الأمراض الجنسية.
بعدما سَأَلته عن عمره وتاريخه الطبي وإن كان قد اكتسب أي مرض جنسي معد، غضب سمير وانزعج جدا، رافضا أن يكون ما أطلق فوكو عليه "حيوان مُعتَرِف"[25]. مدركة أنه يتحدث العربية، تستدعي موظفة الاستقبال زميلها، جيمس، الذي عاش في مصر، وبإمكانه التواصل معه، وبينما كان ينتظر سمير مجيء جيمس "الجميل"، اقترحت موظفة الاستقبال التالي:
"... هل نجرب معا إذا شعرت بأنك فعلا تود جيمس؟.
تود أن تجرب معي حتى أقلع عن عادتي وأعلق بالنساء من جديد. فهمت أنهم يضعون صور الأطفال حتى يشوّقوا الرجال للعائلة والأولاد. هي كعمته التي كانت تضربه قائلة: "امش عدل، مثل الصنم، لا تتحرك يمين ولا شمال". وهي التي قامت بتزويجه"[26].
سمير الذي كان يتوقع التحرر الجنسي في لندن، يجد بدلا من ذلك جهازا لاحتواء رغبته. يفسر صورة الفتاة الصغيرة على مكتب موظفة الاستقبال والدعوة لـ "نجرب معا" كاعتراف بمثليته الجنسية سعيا لكبتها. الذكرى التي استدعيت في هذا اللقاء كانت ذكرى العمة التي أجبرت سمير على زواج مُدبَّر. في هذا السياق، أصبحت المؤسسة الحديثة للعيادة متواطئة في عيني سمير مع سلطة الأسرة، كل منهما سعى لقمع رغبته عن طريق أفعال العنف العاطفي والجسدي، مقيدين ومنظمين بالتالي جنسانيته بأغلال الزواج والمؤسسة الطبية. بسبب تفاعل سمير مع صورة الرجلين في الكابينة في سوهو، وسوء تواصله وسوء فهمه خلال المشهد، أصبحت بيروت ولندن متقاطعتين. عندما يتوجه إلى العيادة (أو تلك التي يظن أنها بيت دعارة) من أجل أن يؤدي فعل "الجنون"-  ممارسة الجنس مع رجال - يجد سمير رغبته تُكبَت وتُخنَق. هو يصمم المسرح للتعبير عن رغبته المثلية في مواجهة أشكال مختلفة (شكلين) من السلطة الاجتماعية والسياسية: الأسرة اللبنانية القامعة والمؤسسة الطبية البريطانية.
رحلة سمير إلى العيادة تستدعي تجارب صدمة الطفولة. تطبيق العمة العنيف للأعراف الاجتماعية مرتبط بتجربته المبكرة مع الجنون. عندما أمسك أبوا سمير به، وهو في عمر الثالثة عشر، مرتدياً قميص نوم على السطح، أرسلاه إلى المصحة. يكشف السارد أنه عندما رأته أمه "... نادت زوجها... ابتعدت عن ابنها خائفة من أن يرمي بنفسه من على السطح إذا هي اقتربت منه. قريبها المجنون رمى نفسه؛ كل المجانين لا يرضون أن يمسهم أحد أثناء نوبتهم"[27]. رقص الابن وهو مرتدٍ قميص النوم يربط "المجنون" بالمجنونة (Folle, tante).
في بناء سرد متطابق للمراهِق المثلي الذي يمكن أن يحاول الانتحار، يربط السارد أفعال سمير بأفعال لقريب الأم؛ مجنون آخر قفز ليموت. طالما أن نوبة سمير على السطح نوع من مس الجن الذي يجعل المرء مجنونا، فابتعاد الأم من ابنها يعبر عن كل من الخوف من لمسة الممسوس، والقلق الحقيقي على سلامة ابنها.
مثلية سمير، حتى على السطح في لبنان، تأخذ شكل تقاطع الأطر الثقافية واللغوية التي لا يمكن أن تقتصر على الثقافة اللبنانية أو العربية بأي شكل حصري أو أصلي. وهذه المثلية، المشابهة للجنون، تتضمن نماذج من سلوك ونمو المراهق المثلي: "العلاج" النفسي في الخمسينات والستينات للمثلية الجنسية واللغة الدارجة الفرنسية واللبنانية. في هذا السياق، من المهم أن نذكر توصيف المستشفى النفسي في اللغة الدارجة اللبنانية على أنها "عصفورية" (وهي المكان الذي تجتمع فيه العصافير)، وتلك الإشارة تؤكد على العلاقة بين الجنسانية والحرية من جهة، وتعبير عن الرغبة في انضباطها المؤسسي من جهة أخرى. "العصفورية" التي أُرسِل إليها سمير تسعى لقص أجنحته ومنعه من الانتحار عن طريق الطيران من السطح. وفي محاولة لعلاج مثليته، تُعَرِّض المصحة في لبنان سمير للعلاج بالصدمة الكهربائية. تُشَكِّل الإشارات إلى المصحة النفسية، وعيادة الأمراض الجنسية، وبيت الدعارة في هذا السياق تعبيرا عن رغبة سمير الكويرية في لندن. وتلك الرغبة يتم التعبير عنها عن طريق الأفعال الآثمة والصارخة flamboyant التي تتطلب تفسيرا خلال المستويات اللغوية والثقافية والنماذج النظرية من الثقافة العربية - الإسلامية إلى فوكو. هذا الحس الكويري يُجَسَّد في الملابس والصدمات، والسلوك القهري وردود الفعل الداخلية، التي تشكل التعبير عن الجنسانية في الرواية. ومن هذه "الأحداث" الجنسية تثار مِحَن الحداثة العربية.
 
تشابك المشاعر والعديد من ممارسات الخطاب والقوى الثقافية في "إنها لندن" يُعَقِّد النموذج الفوكوي إلا أنه يتحدى التعامل معه كإطار غربي غير مناسب للسياق غير الغربي. بشكل خاص، المساحة الحدية التي يحتلها سمير في هذا الوضع المشتت تستجوب التوكيد الحديث للرغبة الذي حدده فوكو؛ من الأسرة إلى المصحة النفسية في لبنان إلى العيادة الجنسية في لندن. تعبير رغبة سمير تُخَلخِل التمييز بين النماذج الطبية والثقافية الحداثية وما قبل الحداثية. جنون سمير، النفسي والجنسي، الاجتماعي والسياسي، يعيد تشكيل قراءة الحداثة كموضع للعرف الاجتماعي والسياسي الذي يظهر في أوروبا والمغروس في العالم العربي. رغبة سمير التي تظهر من خلال التفاعلات والتبادلات ترتبط في عيادة فوكو النفسية مع مس الجن، والحداثة الأوروبية مع سلطة الأسرة، والتواصل اللغوي وغير اللغوي، وبيروت ولندن.
انتهاك الأعراف
 
ينتهك سمير الأعراف الاجتماعية في لندن. تستحوذ عليه الشياطين الداخلية - الجن غير المرئي الذي يستدعي هوسه أو جنونه. يبحث عن الرجال الشقر بإيقاف الناس في الشارع، يلمسهم، ويتحدث معهم. في أحد المواقف، يقترب سمير من شاب من البوسنة[28]. ولكونه لبنانيا، يحاول سمير أن يصادقه عن طريق استحضار تجربتهما مع الحرب. وعندما تفشل استراتيجية الإغواء، يصر سمير على أن يجرب الشاب الجاكيت التي كان يرتديها والتي أعجب به الشاب. يستغل سمير سوء التواصل اللغوي ليلقي الجاكيت حول الرجل، متجاوزا الأعراف الاجتماعية والحدود الجسدية. بشكل مشابه للقرد، يمارس سمير رغبته عن طريق أفعال مضادة للمجتمع. تواصله غير اللغوي، الذي يجعل العلاقة بالجسد تتم عن طريق اللمس والإيماء، يعمل جنبا إلى جنب مع سوء التواصل اللغوي، بينما أفعاله وملابسه التي تعتبر طريفة، تواجه في الحقيقة النظام الاجتماعي في لندن.
بالإضافة إلى ذلك، يكشف السارد أنه أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، كان سمير يرتدي الفساتين وقمصان النوم ويتحدث ويسلي المسلحين في الشوارع[29]. يشرح السارد أن الحرب وانهيار القانون الذي تلاها حررا سمير من القيود الاجتماعية التي كانت تخنق رغبته. بهذه الطريقة توازي الشيخ لندن مع بيروت الممزقة من الحرب، ممثلة إياها كمسارح (مثلما على خشبة المسرح) يمارس عليها سمير "الجنون"، بينما في لبنان كان جنونه عَارضاً لانهيار الدولة، كان جنونه في لندن يُخَلخِل الأعراف "المتعجرفة" التي تُنَظِّم الرغبة والتفاعلات الاجتماعية.
أفعال سمير المنتهكة للأعراف وملابسه وسلوكه الفاضح يمكن أن يرتبط بالتمثيلات العربية الإسلامية للجنون على مر قرون التطور الأدبي والثقافي. يمكن أن تفسر أيضا كأداء مبالغ فيه للمثلية camp، هذا الذي نوقش بكثافة في النظرية الكويرية queer theory[30]. تناقش جوديث باتلر هذا الأداء، عن طريق الأفعال والكلمات، التي تنتج الجندر والجنسانية كعناصر "أساسية" لهوية المرء. في فعل الأداء، لدى المتباهي بالملابس العابرة للجنس القدرة على حل أنماط الأصالة والقيود العرفية للجندر والجنسانية[31]. مرور المثلية الجنسية والجنون في الرواية عبر الإشارة إلى جنون سمير بالتالي يساعد على تقديم المثلي جنسيا المرتدي الملابس العابرة للجنس كمتمرد ضد التنظيم الاجتماعي والسياسي للرغبة. توصيف الشيخ للمجنون والمثلي المستعر، المنتهك للأعراف الاجتماعية، يلقي الضوء على التناص الذي يربط السياقات العربية الإسلامية مع النظريات المعاصرة للتخريب الاجتماعي والسياسي. هو أيضا يحدد أسئلة اللقاء والانفعال كمواضع رئيسية لبحث التجسيد الأدبي للجنسانية العربية في ما وراء التنظيم الثنائي الذي يُتَخَذ بدون فحص في النقاشات النقدية.
بالإضافة إلى ذلك فعرض الشيخ لـ"جنون" سمير في "إنها لندن" يمكن أن يُقتَفَى أثره في روايتها "حكاية زهرة" (1980). زهرة امرأة مكتئبة تعيش إبان الحرب وتوصف عادة بأنها مجنونة، تهرب من أبيها القامع عن طريق زواج خال من الحب، فتجد نفسها في علاقة تقودها إلى يأس أكبر[32]. في كل من "حكاية زهرة" و"إنها لندن"، تعرض الحرب الأهلية (أحداث لبنان) قدوم الجنون، بينما الخوف والاكتئاب يصفان جنون زهرة، بطلة رواية الحرب اللبنانية منذ الثمانينيات، المثلية الجنسية المنتهِكة والمستعرة تصف ذلك الجنون الموجود لدى سمير في العمل اللاحق. نموذج المجنون في "إنها لندن" يرتبط بزهرة عن طريق الشاعر العذري المجنون، رابطا بذلك التطورات الأدبية في الأدب العربي الحديث بتعبيرات الجنون والرغبة في العصر الكلاسيكي. مستجلبا كلا من نوبات زهرة وبحث الشاعر العذري الممسوس عن حبيبته المتهربة، يطارد سمير ويحب الرجال في لندن الذين يتفهمونه ولكنهم لا يبادلونه رغبته. يتم التعبير عن ذلك عن طريق أفعال الانتهاك التي تكشف بشكل نسقي العنف الاجتماعي والسياسي، فرغبة سمير تدمج معاناة المجنون مع قلق زهرة.
توازي المثلية الجنسية مع الجنون في "إنها لندن" يساعد على تحديد أمثلة متعددة لسوء التواصل والمقاومة والانهيار. تلك الأحداث الكويرية تُوَلِّد تغييرات الذاتية العربية، التي تحتاج لأن تُقرأ في سياق تجارب الطهطاوي في باريس، والشدياق والطيب صالح في لندن؛ الأعمال التي نوقشت بالترتيب في الفصول الثاني والثالث والرابع. فمسافر "النهضة المغترب" الذي يجابه الحداثة الأوروبية تحول إلى كويري في نص الشيخ. وهذه الكويرية تُخَلخِل ثنائيات الشرقي والغربي، المثلي والغيري، وتنظر لمِحَن الحداثة العربية كعملية مستمرة في كل من العالم الأوروبي والعربي. مِحَن الحداثة العربية تظهر من خلال هذا النقد والتداول الديناميكي، الذي حددته خلال الكتاب في أحوال الأدائية في سرديات الرحلة العربية، والروايات ما بعد الاستعمارية والكتابة الجديدة.
لصوص متقاعدون
 
تدور أحداث رواية حمدي أبو جليّل "لصوص متقاعدون" التي نشرتها دار ميريت عام 2002 في "منطقة عشوائية"[33]للطبقة العاملة في منشية ناصر في القاهرة الكبرى. تستخدم الرواية بنية سرد نجيب محفوظ في "أولاد حارتنا" (1959)، مُوَظِّفة السارد كغريب إلا أنه مقيم في المنطقة، والسرد متركز حول "عمارة" أبو جمال. وبينما في رواية محفوظ، الجبلاوي الشبيه بالله هو البطريرك الذي لا ينازعه أحد والذي يتدخل في حياة أبنائه، فالجبلاوي الجديد (أبو جمال) في عمل أبو جليل تعوزه السلطة، وهو مجبر على تغطية ضعفه بقمع ابنه المثلي. سيف، الابن الأصغر الواثق والجريء لأبو جمال، يظهر تدريجيا كالثائر في الرواية. تقمع أسرته سلوكه الجنسي المعلن بضربه، ومحاولة قتله، وحجزه في مصحة، وفي النهاية تزويجه. وبشكل يشبه سمير عند الشيخ، والذي وُضِع في مصحة وأُجبِر على زواج مرتب عندما ظهرت علامات مثليته الجنسية لأول مرة، فسيف عند أبو جليل هدف العنف الأسري ومثليته معروفة إلا أنها مقموعة. "حالة" سيف يشار إليها على أنها "جنون" - مساحة للغرابة مجبرة بشكل نظامي على أن تكون خارج المجتمع.
يصف السارد سيف وهو يضع مساحيق وأحمر شفاه ويرتدي ملابس ضيقة من أجل أن يبرز أعضاءه الجسدية[34]. هذا المظهر يستدعي مثلي فوكو كصنف بموروفولوجيا وصفات جسدية واضحة. متبنيا سلوكا غريبا في الحديث والتصرفات. يغوي سيف الرجال من خارج وداخل المنطقة، بمن فيهم السارد. ويكشف السارد أيضا أن سيف الذي يبلغ 18 عاما يحاول الانتحار بشكل متكرر مثلما يفعل المراهقون المثليون عادة عندما يدركون اختلافهم ويتعرضون للاضطهاد. يزعم السارد أن المجتمع يلعن الشباب الذين يتصرفون كالنساء برفضهم عبر كل أنواع الإهانات، و"أهونها الجنون"[35]. يصف السارد كيف يتحدث كل الجيران عن جنون سيف - متشككين في مثليته[36]. فالجنون ينطبق على هؤلاء الذين يتحدى سلوكهم وملابسهم الأعراف الاجتماعية والجنسية. وعدم تكيف سيف يتقابل مع نمط من الجنون ينتجه الخطاب ويديره المجتمع. حديث الجيران ينتج المثلية الجنسية كشيء مضاد للمجتمع وكسلوك تخريبي. ومثل سمير في "إنها لندن"، يصدم سيف "الحارة" بالتباهي برغبته بمستويات متعددة. المجنون هنا يشبه المثلي بمعنى فوكو، ولكنه أيضا متمرد في قراءة السمان للجنون كنمط لمواجهة السلطة الاجتماعية في السياق الثقافي العربي- الإسلامي.
يُذكَر سيف لأول مرة في الرواية عندما يسمع السارد (الساكن في عمارة أبو جمال) جمال يلوم أباه على فشله في قتل سيف[37]. ومثلية سيف المشابهة للجنون مُمثَّلة كمصدر لعار الأسرة. ووفقا لجمال، فـ"علاج" مثلية سيف المعلنة هي القتل[38]. وبعد ذكر "جريمة الشرف" غير المكتملة يشرح السارد أنه بينما كان هناك صراع على السلطة الحقيقية بين أبو جمال وابنه الكبير، جمال تاجر المخدرات والمتسلق اجتماعيا، الذي يقترب من السيطرة على العمارة، فالتعبير الظاهر عن الصراع يتركز في مثلية سيف. جمال، الابن الأكبر، هو القائد، يحارب أباه ويصر على إفناء "الخَوَل" من العائلة. وهذا الإفناء يسمح لجمال بصرف النظر عن فساده والحفاظ على سلطة أبوية يسعى لاستخدامها. وفي مواجهة الحديث عن "جنون" سيف، يقتضي الأمر تدخل جمال، ويقوده هذا لأن يحتجز أخاه في مصحة مجانين. هذا الفعل يلقي الضوء على تواطؤ المؤسسة الحديثة (العيادة النفسية)  مع تطبيق "الحارة" "التقليدي" للأعراف الاجتماعية والجنسية.
إخفاء المثلية الجنسية
 
يستخدم جمال "معارفه" لحجز أخيه، معبرا عن رضاه عن "اختفاء" الأخير[39]في المصحة بدون فحص عيادي أو أية مساعدة في هذه الحالة. بهذا التدخل تكون المؤسسة الحديثة في خدمة السلطة الأبوية العنيفة والفاسدة، التي تسعى لاستعادة شريعتها ومواجهة سوء السمعة بإبادة الابن المجنون والكويري. يستخدم أبو جليل كلمة "اختفاء" كأن حجز سيف  فعل اختطاف معد من جهاز أمني موجه لمعارض سياسي. وبينما يتضمن "الاختفاء" عملية اعتقال يتم في الليل، فمشهد اختفاء سيف يتم في وضح النهار. ويصف أبو جليل المشهد الذي تتوقف فيه "عربية المجانين" أمام العمارة من أجل خطف سيف[40]. هذا "الاختفاء" المعد ضد سيف أمام أهل الحي، يستدعي منظر العقاب الطقسي المشابه لما يصفه فوكو في "المراقبة والعقاب" كموضع لنشر السلطة السيادية ما قبل الحداثية. فوفقا لفوكو، يتطابق صعود الحداثة خلال أنساق الحجز والعقاب مع إبادة العقاب المادي وتجريد عملية العدالة. ويزعم فوكو بأن النسق الحديث ينتقل من عذاب الجسد المُدان إلى إصلاحه عن طريق الممارسات المنضبطة في السجون. يصيغ فوكو جدله عن طريق وصف العقاب العام المعد ضد دميان، وهو رجل متهم بقتل الملك/الأب تحت النظام القديم في فرنسا.
"أُخِذ دميان ونُقِل في عربة، لم يكن يرتدي شيئا سوى قميص، حاملا مصباحا من الشمع المحترق يزن باوندين؛ ثم- - في العربة المذكورة – انتقل إلى ميدان بلاس دو جريف، حيث نصبت منصة التعذيب هناك، تمزق الجلد من صدره وذراعيه وفخذيه وربلتي ساقيه، ووضعت في يده اليمنى السكين التي ارتكب بها القتل المذكور، مشتعلة بالكبريت... ثم رُبِط جسده وشُدّ عن طريق أربعة جياد وتآكلت أعضاؤه من النار، وتحولت إلى رماد وألقي الرماد في الريح"[41].
طالما أن جريمة دميان تعمل كانتهاك لجسد الملك، يسعى تعذيبه العلني لإعادة تنشيط السلطة الملكية وإثناء الناظرين عن انتهاكها. أما نظام الحجز الحديث فيحل محل كيان السيادة كموضع للانتهاك، وبالتالي ينتج المجرم كذات بحاجة إلى الإصلاح. فالذاتية الحديثة، المنتجة خلال مؤسسات السجن والمصحة، تصبح إطارا ضروريا للانتقال من الملكية إلى الدولة القومية، من العقاب العام إلى التصويب والعلاج والإصلاح.
مثل العربة التي تَعرِض دميان قبل أن تخفيه، اختفى سيف أمام أسرته وجيرانه. العرض العلني لاختطاف سيف واختفائه يوازي المؤسسة ما قبل الحداثية للعقاب والعدالة، تلك المتعلقة بالدولة الحديثة الممثلة في عربة المصحة. جنون سيف ومثليته الجنسية، مثل قتل الأب/الملك في حالة دميان، تبرز قتل الأب على مستويين. الأول، العقاب والاختطاف العلني والطقسي يسعى لاستعادة شرف الأسرة الملطخ بتعبير سيف عن المثلية عن طريق الأفعال والملابس المضادة للمجتمع. ثانيا، تبرز محو موقع أبو جمال الأبوي، لأن ابنه جمال هو الذي نَظَّم اختطاف سيف وليس هو.
في الحقيقة، يكشف السارد أن الاختطاف أغضب أبو جمال، الذي اعتبره تحديا لسلطته. واختطاف سيف وبالتالي الحجز ينتج الأب كضعيف ومخلوع عن موضعه الأبوي عن طريق ابنه الأكبر. إنه ينتج أيضا مثلية سيف والجنون كموضع لـ "الاختفاء". وفعل وطقس الاختفاء كعقاب يصيغ العملية التي من خلالها يتم علاج وضبط المثلية الجنسية في "لصوص".
رواية أبو جليّل ترصد رغبة السلطة في إخفاء المثلية الجنسية. ولكن فكرة "الاختفاء" مرتبطة بفكرة مهمة أخرى من الجذر نفسه: "التخفي". هذا التخفي يعمل في سياق الرواية كشكل من التصنع الأدائي Drag*** ، المُعَبَّر عنه في سلوك وملابس سيف. فـ"الاختفاء" و"التخفي" كأشكال من ارتداء الملابس العابرة للجنس بالتالي تنطبق على أدائية رغبة سيف قبل الاحتجاز وبعده.
ففي الوقت الذي يخرج فيه من المصحة، "يتخفى" سيف كامرأة من أجل أن يغوي السارد ويمارس الجنس معه[42]. بالإضافة إلى ذلك، يعبر سيف عن رغبته "بالخفية"، أولا بالزواج وثانيا بالخروج من "الحارة" في الليل، بحيث يجوب شوارع القاهرة بحثا عن الرجال. أشكال التخفي تلك ملحوظة تماما من زوجة وعائلة سيف، وهي أشكال مقبولة من المثلية الجنسية، التي أُجبرت على التنكر والتخفي. ما تم اعتباره شكلا تقليديا من المثلية الجنسية المندمجة مع الزواج، ينكشف كمنتج قهري في رواية أبو جليل. وبالتالي ننتقل من التصنع والتخفي لسيف (وسمير) المُعبر عنه في الفضائحية والملابس العابرة للجنس، إلى التخفي المفروض من القوى الاجتماعية والسياسية العنيفة والقهرية.
فكرة الاختفاء مرتبطة أيضا بمس الجن. فلجعل سيف يختفي عليه أن يُفهَم على أنه ممسوس وهكذا يكون "مخفيا" به ويظهر فقط في سياقات محددة، أي في الليل[43]. "إخفاء" سيف بإعلانه "مجنونا" وحجزه عن طريق حديث الجيران و"معارف الأسرة" وليس التقييم النفسي، مرتبط بالمثلية الجنسية كحالة من المس واستهلاك المرء بالرغبة المشابهة للأرواح. وضع "المجنون" مع "المخفي"-  الذي عقله مخفي، وفقا لابن منظور-  من جهة، و"المجنون" مع المثلي من جهة أخرى، يصف حالة سيف وعلاقته بالمجتمع. في هذا السياق، تتقاطع قراءة فوكو لكل من المثلية الجنسية والجنون مع المعتقدات الشائعة والخرافية عن المس إلى جانب تمثيل الشعراء العذريين مثل مجنون ليلى وجميل بثينة. تلك الروابط تُعَقِّد التعامل مع جنسانية سيف من خلال صد الإقفال الإبستمولوجي عن طريق الإطار الشرقي/الغربي، الحداثي/ما قبل الحداثي المتبع.
يختفي سيف عن طريق بنية السلطة التي تتضمن الأسرة والحارة والدولة.
يصف السارد عودة سيف من المصحة، ملوحا بتقرير طبي يثبت عدم جنونه. هذا التقرير، الذي يظهره سيف لكل من تحدث عن جنونه وشهد اختطافه، تم تقديمه كدليل على شفائه. وبالتالي اكتمل الاختطاف العام ببراءة عامة عن طريق تقرير رسمي تم التلويح به وعرضه، مثلما كان الحال عند اختطاف سيف. والنقطة الرئيسية هنا ليست فقط التقرير ولكن أيضا عرضه العام، إنتاجه في مواجهة الآخرين كوثيقة أو إثبات على الصحة العقلية. فمظهرا إياه لواحد من الجيران، وهو مُدرِّس، فكّر الأخير أنه على "الناس... حمل شهادات تحدد مستوى عقولهم والطريقة المناسبة للتعامل معهم بدلا من البطاقات الشخصية"[44]. فحالة العقل كمواجهة لحالة الجنون تظهر بالتالي كحال للذاتية السياسية، بينما تتدخل الأسرة وتشكل نشر سلطة الدولة (المؤسسة النفسية). في هذا النموذج، يتم استجواب المواطنين عن طريق نماذج العُرف النفسي، المرتبط بالعُرف -الغيري. ولكن ما يُعَقِّد الصورة بشكل أكبر هو ملاحظة الطبيب التي تصحب الإثبات الرسمي، وهو موجه للأسرة. فيكتب الطبيب أن شفاء سيف الحقيقي لا يكون من خلال العلاج المؤسسي والنفسي ولكن بالأحرى عن طريق بيت مستقر، مشجعا أبواه على تزويجه فورا. هذه الملاحظة تكشف فشل المؤسسة النفسية في "علاج" سيف، مرُجِعة المهمة إلى "علاج" الأسرة التقليدي للمثلية الجنسية عن طريق قيود الزواج. وأثناء قراءة التقرير، تزغرد أم سيف، وتقرر الأسرة تزويجه لابنة عمه ندى. ملاحظة الطبيب تتجاوز المصحة الفوكوية والإبستيم episteme  الحديث، وتعود بدلا من ذلك إلى العلاج "القديم الطراز" الذي يسعى إلى ستر المثلية الجنسية بجعلها تختفي في زواج مُعَدّ.
بربط المثلية الجنسية بالجنون، تكشف الرواية دور عنف الأسرة والدولة في قمع تعبير المثلية الجنسية العلني، محو جنونه، ونزع انفعالاته. عندما يؤخذ سيف في عربة المجانين، يتخيل السارد سيف يتفاعل مع مجانين آخرين في المصحة. مثله مثل مشهد في فيلم، يظهر سيف في خيال السارد مرتديا ملابس بيضاء تماما، شعره غير مرتب، يتم استجوابه بـ "السين جيم" - مثل المجرم في قسم البوليس - عن طريق العاملين في المصحة[45]. وبشكل مشابه للتحقيق مع سمير في عيادة الأمراض الجنسية في لندن، ينتج علاج المثلية (معالجة الجنون) في "لصوص" تخييل العنف الاجتماعي والسياسي. فيُنتِج العنف المثلية الجنسية عن طريق الـ "سين جيم" كمرض يتطلب علاجا وإفناء.
في عرض أبو جليل للمثلية في سياق الطبقة العاملة في "الحارة" الجديدة، يمكن للمرء أن يقرأ نشر القوى المحافظة التي تسعى لجعل المثلية الجنسية غير مرئية. المثلية تظهر كهدف للقمع ولكن أيضا كموضع مجسد لمقاومة جهاز السلطة.
المجنون يرد الهجوم
 
قمع مثلية سيف "يُعالِج" جنونه وتُحَوِّله إلى مطيع للقانون، إلى مواطن متزوج. في مستوى آخر، هذا القمع يُنتِج بطلا تراجيديا في الرواية، مُنتهكاً ولكنه يقاوم العديد من بنى العنف. متأملا في "اختفاء" سيف عن طريق الاختطاف في وضح النهار يزعم السارد: "سيف لم يكن مجنونا... لم يكن مجنونا أو حاسما قاصر النظر... هو فقط ممثل متمرد وعاشق ولهان"[46]. بدخوله عربية المجانين في مشهد سينمائي تماما، يُخرِج سيف لسانه لأخيه الكبير، ويبصق في وجه أبيه، ويهين أمه. يقاوم العنف المُعَدّ ضده، يمارس سيف التحدي والتمرد عن طريق الانفعالات الجسدية والشتائم. بهذه الطريقة، يرفض الدور المُجبَر على أن يلعبه. وبوصف سيف بأنه "عاشق ولهان" (العاشق هو الشكل المثالي للحب المثلي الإيروتيكي في الشعر العربي)[47]، يُبرِز السارد تمرد الذات الكويرية كإنكار لشرعية جهاز القمع. "إخراج اللسان" و"البصق" و"اللعن" (عرض الجسد) على رغم أنه يفشل في إنقاذ سيف من عقابه واحتجازه، يُشَكِّل مواضع مقاومة عنف الاستجواب العرفي الذي يسعى لإخفاء جنسانيته.
سرد الجسد لسيف وانفعالاته لا يعمل فقط لتنظيم مثليته الجنسانية كـ"صنف" مُدرَك كما يزعم فوكو، ولكنه أيضا كالمجنون الذي يرد الضربة التي تُخَلخِل تمثيلات الأدب العربي للمثلية الجنسية أيضا. يصيغ أبو جليل ذلك سرديا عن طريق الإشارات المتناصّة مع روايات نجيب محفوظ وإعادة إنتاج حسن الإمام لأعمال محفوظ في الأفلام السينمائية التي أخرجها[48].
في الحقيقة، يصف السارد سيف كشخصية من أفلام الإمام، يمارس التمرد في المسرح المعاصر لـ "الحارة" مازجا الجنون في السياق الثقافي العربي، وفي نموذج فوكو عن التعبيرات الحديثة للجنسانية الكويرية. تمثل الرواية سيف كشخصية وحيدة مُجبَرة على الخضوع. سيف ممثل متمرد يعمل على نقد الأشكال السياسية والاجتماعية الضابطة من خلال التمثيلات الكويرية في الأدب والسينما العربية المحدثين. مثلما يمكن أن يُقارَن سمير مع كلينجر في "ماش" و الشاعر العذري "المجنون"  الذي يصاحب الحيوانات، يُقارَن سيف بالبطل المحفوظي في الروايات والسينما. تمرد سيف المجنون والمثلي موجه ضد فساد السلطة الاجتماعية والسياسية، وضد وصف الشخصية المثلية كشخصية هامشية في الروايات العربية الحديثة أيضا.
عن طريق مِحَن سيف في هذا المسرح المعاصر، تمثل "لصوص" قطعا مع وضع التمثيل وتُخَلخِل الحداثة في "الأدب العربي الحديث". شخصية المثلي المضطهد لا يمكن أن توضع بشكل عضوي في "حارة" محفوظ. ربط جنسانية سيف مع الجنون تُعَقِّد تماما الحبكة المحفوظية، وتحل محل إطارها الجمالي والسياق الاجتماعي والسياسي. جنون وانفعالات سيف بالتالي تخلق تنافرا في وضع تمثيل المثلية الجنسية في الأدب العربي، وبالتالي تُزَعزِع التماسك والثبات والنمط.
وبالتركيز على شخصية كرشة في رواية محفوظ "زقاق المدق"؛ صاحب القهوة المتزوج الذي يطارد شابا، يشير فريدريك لاجرانج إلى أن "المثلي في الرواية المصرية المعاصرة أو القصة القصيرة نادرا ما يكون شخصية رئيسية، بالأحرى يكون مجرد شخصية نمطية أخرى في "الحارة" الشعبية في القاهرة".[49]"نمطية" كرشة مندمجة بسهولة في البنية الاجتماعية لـ "الحارة". فعلى رغم أن كرشة شخصية هامشية في عمل محفوظ في الخمسينات، فإنه يُسَبِّب فضيحة عندما يُعَبِّر بشكل علني عن رغبته. وعندما يظهر مع معشوقه أمام الناس ويدعوه إلى قهوته ويقضي معه الليالي خارج المنزل، يصبح كرشة هدفا للعنف الجسدي. يحدث هذا عندما تهاجم زوجته أم حسين عشيق زوجها أمام الناس، قبل أن تتوجه لكرشة وتضربه وتذله أمام زبائن القهوة والعابرين. عندما "يجهر كرشة بما يسره"، يستثير الإهانات والعنف[50]. يصف محفوظ كرشة كـ "homosexual"، تاركا الكلمة بالأحرف اللاتينية[51]. حتى في رواية محفوظ، التعبير العلني للمثلية الجنسية يقود الى الفضيحة والعنف.
فكرة "يَجهَر" أو "الجَهر"[52]، التي تستخدم أيضا في وصف "الخروج" في الخطاب العربي المعاصر للمثلية الجنسية، تكتمل مع فكرة "السر". بنية الظهور والتخفي هذه تعيد تقديم "الاختفاء" كتعبير عن مثلية جنسية يمكن أن تُحجَب أو تُمارَس فقط "بالسر". وهذا يلقي الضوء أيضا على ربط المثلية الجنسية بالجنون كموضع لحجب وكشف الرغبة، من إعلان جميل عن حبه لبثينة إلى تعبير كرشة عن مثليته في عمل محفوظ. هنا، ربط السرية مع الكشف، القمع مع التعبير، يصيغ المثلية الجنسية في الأدب العربي الحديث. وعلى رغم أن كلا من كرشة وسيف ينتهك الأعراف الاجتماعية عن طريق التعبير عن رغبته المثلية في بيئته، فكرشة متواطىء مع بنية السلطة في "الحارة" المحفوظية. هو متزوج، ويتاجر بالمخدرات، ويملك مقهى شعبيا، بينما سيف مُجبَر على الزواج عن طريق العنف والاختطاف والاحتجاز. في حالة كرشة، الإشارة إلى الجنون مقتصرة على زوجته، الموصوفة بالـ "مجنونة"[53]عندما تهاجم زوجها علنا. مع هذا التمييز المهم، يصف الجنون عند محفوظ تصرف الزوجة في إذلال زوجها لإعلانه عن رغبته أكثر من مثلية كرشة الجنسية في ذاتها.
بربط المثلية الجنسية بالجنون والتخلي عن السرد المحفوظي والتقليد الذي ارتبط بها ("الرواية المصرية المعاصرة" و"الأدب العربي الحديث" بشكل أعم)، قدم أبو جليل نموذجا كويري للتمرد في الرواية. وبينما تقدم "إنها لندن" سمير كشخصية متحررة جنسيا تسعى للإشباع والمعنى الجنسي بين بيروت ولندن وفي ما وراء ثنائيات الشرق/الغرب، يظهر سيف في "لصوص" كشخصية تراجيدية تتمرد ضد المؤسسات الاجتماعية والسياسية بفضح تواطؤها وعنفها وفسادها.
رواية أبو جليل تعرض تعبيرا جديدا للهوية والممارسات الجنسية عن طريق إعادة كتابة وإعادة صياغة الحبكة المحفوظية وتحويل مكانها الحضري إلى مكان اجتماعي وسياسي معاصر. "لصوص" بالتالي تسمح لنا أن ننقل النقاش عن التعبيرات الحالية عن الجنسانية العربية من الحداثة والتقليد، الشرق والغرب، والهويات المثلية الذكورية والأنثوية والبنى العربية والإسلامية التقليدية للرغبة، إلى نقاش عن التحولات الاجتماعية والسياسية والجمالية التي تظهر في الرواية المعاصرة. وهذا يرتبط بملاحظة روجر آلن عن الربط بين الأدب العربي الحديث وعمل محفوظ في الخمسينات والستينات الذي نوقش في الفصل الأول. وهذا الربط لا يُسقِط سيف مع كرشة عن طريق رفض الاعتراف بالتحولات الجمالية في النصوص العربية وتطور سياقاتها الاجتماعية والسياسية، ولكنه أيضا يُقَلِّص النماذج الثقافية العربية إلى ثنائيات الحداثة/التقليد والشرق/الغرب.
فالتعامل مع "الحداثة" في الأدب العربي الحديث كفترة زمنية غير متغيرة ومقيدة بشكل واضح، يربط بين النضالات السياسية المحددة، والجدالات الفكرية، والأعمال الأدبية، هو خارج متناول التحولات الثقافية والسياسية والاجتماعية العربية اليوم. ومن أجل خلخلة النموذج المفسر، أقرأ الحداثة العربية كعملية ديناميكية ممتلئة بالإمكانيات، تكشفها النصوص الأدبية من خلال التحول الدلالي، والأطر المقارنة، وأوضاع التجسد.
خاتمة
 
ربط المثلية الجنسية بالجنون في الأعمال التي نوقشت في هذا الفصل يوازي انهيار الدولة أثناء الحرب الأهلية اللبنانية وحالة الشتات التي أنتجها هذا الصراع مع تآكل الشرعية الاجتماعية والسياسية في مصر، والتي أدت في النهاية الى سقوط نظام مبارك عام 2011. كل من السياقين يلقي الضوء على قدوم أشكال عديدة من العنف والإحلال كطريقة في تأطير التعبير عن الرغبة الكويرية. تتم محاربة المثلية الجنسية - المعارِضة والمتضادة مع المجتمع-من أجل حجب الفساد والعنف في الدولة والأسرة. وبينما تضرب العمة سمير وتُزَوِّجه في "إنها لندن"، يحتجز جمال سيف في "لصوص" ويُزَوِّجه في محاولة لقمع التعبير العلني عن مثليته الجنسية. في كل من الحالتين، تعمل الأسرة إلى جانب مؤسسات الدولة "الحديثة" من أجل تأكيد شكل من السلطة يُبقي المثلية في حالة "تخفّي". في هذا الوضع، الشرعية المتآكلة للدولة العربية غير منفصلة عن الفساد والإفلاس الأخلاقي في الأسرة "التقليدية".
سردا أبو جليل والشيخ يفضحان مثال التقليد ("الحارة" القاهرية، "الأسرة العربية") كمصدر للأصالة والأخلاقية ومقاومة للهيمنة الغربية وسلطة الدولة. في الوقت نفسه، تخلخل تلك الروايات التعامل مع الحداثة كمشروع متجانس ومهيمن يُنَظّم بسهولة وينتج الجنسانية العربية. الشخصية الكويرية في هذه النصوص تقاوم أوضاع المعيارية الاجتماعية والسياسية في مصر ولبنان وإنكلترا. ومركزا على انفعالات الشخصية الكويرية في الروايات، يمكن للمرء أن يقرأ جنونها كإطار للتعبير الجنسي ولكن أيضا كموضع للتمرد والغضب. قراءة "الأحداث" أو الأحداث الجنسية في لندن وبيروت والقاهرة يكشف نصا ومجموعة جديدة من المواجهات تعيد تشكيل النماذج الأدبية وتعبيرات الرغبة والسلطة السياسية في ما وراء الإطار الشرقي/الغربي، الحداثة/ما قبل الحداثة.
في الروايتين التي ناقشتهما، الأشكال العربية-الإسلامية للمثلية الجنسية لا يمكن أن تعتبر أصيلة أو قَبْلية، تقاوم الهيمنة الثقافية والسياسية "الغربية" من القرن التاسع عشر إلى الآن. تُظهِر قراءتي أن الشكل التقليدي للمثلية الجنسية العربية، الممارسة داخل قيود الزواج، هي في الحقيقة منتجة خلال أشكال القهر الناتج عن الشتات وبيروت و"الحارة" القاهرية. كل من سيف وسمير مجبر على لعب الدور التقليدي للرجل الذي يعشق الرجال أو سدومية ما قبل الحداثة، وهو رجل متزوج يمارس رغبته المثلية سرا، في الليل، متخفيا. في "لصوص" و"إنها لندن"، هذا التطور الجنسي والاجتماعي وفكرة "التقليد نفسه"، تَنتُج وتتطبع خلال أشكال العنف الأيديولوجي والجسدي الذي تعده الأسرة ومؤسسات الدولة، في كل من أوروبا والعالم العربي. وبالتالي يُغَيِّر نقاشي الجدل عن الجنسانية العربية الكويرية من النقد القصري للحداثة الأوروبية والممارسات الخطابية الغريبة إلى بحث في منتج الجنسانية خلال شبكة معقدة من أشكال السلطة والسياقات والأيديولوجيات الأدبية والثقافية. تحليلي للانفعالات الجسدية والأحداث وسوء التواصل والأفعال المنتجة يخضع للفهم المعقد الضروري لكشف نمط الإنتاج هذا ونقد عنفه الابستمولوجي والسياسي. السرد المثلي المحدد في هذه النصوص يصف بالتالي مواقف الغضب والانهيار والتمرد والانتهاك التي تدمر بشكل نسقي الصورة المتماسكة والنمط والثبات في النص العربي في الخطوط المرجعية والتاريخية الجامدة.
الذاتية الكويرية التي تظهر في أعمال الشيخ وأبو جليل والعنف المنتشر المعدّ لقمعها هما ما يحتاج أن يُقرَأ بالعلاقة مع التحولات السياسية والاجتماعية التي سيطرت على العالم العربي منذ 2010. التعبيرات العلنية عن الرغبة، سواء جنسية أو سياسية، تجسدت في ميدان التحرير وعُرضت في الروايات، وكشفت تحلل السلطة الأبوية، التي يمكن فقط أن تحفظ نفسها خلال أوضاع العنف والفساد. وبشكل محدد، فبقراءة "لصوص" بعد سقوط نظام مبارك في مصر، يمكن للمرء أن يناقش أن الرواية تعرض فساد الدولة العربية الحديثة التي لم تعد مرتبطة بالحداثة كمشروع محدد بوضوح يُظهره التنوير ويتداخل عبر الاستعمار وأشكال الفكر والتبادل الثقافي مع أوروبا. تُظهِر "لصوص" تنوع نقد الفساد في مصر، الذي أظهر تغييرات جديدة في النشاط الاجتماعي والسياسي من حركة كفاية وحتى حركة 6 أبريل[54]. مِحَن الحداثة العربية تظهر من السياق الجمالي والسياسي، الذي يشهد صعود نماذج جديدة من الذاتية والممارسات السياسية والأدبية، بين الوطن والشتات، المدونة والرواية. وبدلا من التعامل مع الحداثة بشكل قسري على مستوى الصراع الأيديولوجي والسياسي – العلمانية والاستعمارية – يجب أن تُعالج عن طريق "أحداث" فجائية غير متجانسة، كويرية، محلية وفي الشتات، تظهر في نصوص "أخرى" حُكِم عليها "بالاختفاء" من المرجعيات الأدبية والجدالات الفكرية والسياسية في كل من العالم العربي والأكاديمية الأميركية.


[1]  لمقال عن المثلية الأنثوية في الأدب العربي الحديث أنظر Hanadi al-Samman, “Out of the Closet: Representations of Homosexuals and Lesbians in Modern Arabic Literature,” Journal of Arabic Literature 39.2 (2008): 270310.
[2]  Valerie Traub, “The Past Is a Foreign Country? The Times and Spaces of Islamicate Sexuality Studies,” in Islamicate Sexualities: Translations across Temporal Geographies of Desire, ed. Kathryn Babayan and Afsaneh Najmabadi (Cambridge, MA: Center for Middle Eastern Studies of Harvard University, 2008), 140, 2.
[3] Joseph Massad, Desiring Arabs (Chicago: Chicago University Press, 2007), 174.
[4] Michel Foucault, History of Sexuality, Volume 1: An Introduction, trans. Robert Hurley (New York: Vintage, 1990), 43.
[5] Ibid., 57.
[6] Dina al-Kassim, “Epilogue: Sexual Epistemologies, East in West,” in Islamicate Sexualities, 297340, 300.
[7] Emily Apter, The Translation Zone: A New Comparative Literature(Princeton, N.J.: Princeton University Press, 2006), 6.
[8] Gopinath, Impossible Desires, 13.
[9]  حنان الشيخ، إنها لندن يا عزيزي، دار الأداب (الطبعة 3، 2009) صـ 5.
[10]   للقراءة عن التهجين والتبادل الثقافي في الرواية أنظر
Susan Alice Fischer, “Women Writers, Global Migration, and the City: Joan Riley’s Waiting in theTwilight and Hanan al- Shaykh’s Only in London,Tulsa Studies in Women’s Literature 23.1 (2004): 10720.
وانظر أيضا
Syrine Hout, “Going the Extra Mile: Redefining Identity, Home, and Family in Hanan al-Shaykh’s Only in London,” Studies in the Humanities 30.12 (2003): 2945.
[11]  الشيخ، إنها لندن، صـ 11.
[12]  السابق، صـ 7، سمير كان مهربا بدون أن يعرف، قرده الأليف الذي تلقى أموال لإيصاله إلى مالكه في لندن كان في الحقيقة مُدَرَّبا على بلع الماس.
[13]  السابق، صـ 7.
[14]  السابق، صـ 8.
[15]  محمد حيان السمان، خطاب الجنون في الثقافة العربية (لندن: رياض الريس، 58). في سياق الإمبراطورية العثمانية، شخصية خيال الظل القراجوز، يمكن أن تذكر أيضا كموضع للمقاومة الأدائية للنظام والأخلاق الاجتماعية والسياسية. (أنظر  Dror Ze’evi, Producing Desire: Changing Sexual Discourse in the Ottoman Middle East, 15001900 [Berkeley University of California Press, 2006], 12548)
[16]  ابن منظور، لسان العرب، 3-4:217-21
[17]  See Leyla Rouhi, Mediation and Love: A Study of the Medieval Go-Between in Key Romance and Near-Eastern Texts (Leiden: Brill, 1999), 14849.
[18]  Roger Allen, An Introduction to Arabic Literature (New York: Cambridge University Press, 2000), 105.
[19]  استخدام الشيخ للقرد في الرواية هو استدعاء لأغنية "القرد" لجورج مايكل (1987). يقول الكورس التالي: لم لا تستطيع فعل ذلك؟ لم لا يمكنك تحرير قردك؟ دوما تستسلم له، هل تحب القرد أم تحبني؟ لم لا تستطيع فعل ذلك؟ لم عليّ أن أشارك حبيبي مع قرد؟" (www.lyricsmania.com/lyrics/george_michael_lyrics_138/faith _lyrics_701/monkey _lyrics_7949.html)
إلى جانب ذلك، تعبير: "لديك قرد على ظهرك" يصف إدمان المخدرات. في هذا السياق، جنسانية سمير، التي يحاول ترويضها عن طريق المهدئات على الطائرة، تتطابق مع الإدمان. بينما تتجلى لندن على أنها جنة الإدمان، يصف الإدمان الشغف المستهلك تماما الذي يجب التعبير عنه، والشبيه بالمجنون.
[20]  الشيخ، إنها لندن، صـ 8.
[21]  هناك العديد من الإشارات في الرواية للقرد على أنه مجنون. الشيخ، إنها لندن، صـ 44.
[22]  الشيخ، إنها لندن، صـ 129.
[23]  الشيخ، إنها لندن، صـ 133.
[24]  السابق، صـ 133
[25] Foucault, History, 78.
[26]  الشيخ، إنها لندن، صـ 135.
[27]  السابق، صـ 219.
[28]  السابق، صـ 129-130
[29]  السابق، صـ 219
[30] See Keith Harvey, “Describing Camp Talk: Language/Pragmatics/ Politics,” Language and Literature 9.3 (2000): 24060
[31] Judith Butler, Gender Trouble (New York: Routledge, 1990), 185.
[32]  بإدراك الطبيعة غير المستقرة لموقفها، تقرر زهرة أن ترتكب فعل "الجنون" في حفل غداء عن طريق ارتداء ملابس فاضحة والرقص أمام الضيوف. من ارتباط "الجنون" مع "الاكتئاب" إلى الجنون كفعل مقاومة للأعراف الاجتماعية، تستخدم زهرة في هذا الموقف كشكل من الاعتراض على  الأعراف الاجتماعية (حنان الشيخ، حكاية زهرة) لقراءة جنون زهرة كشكل من الاعتراض، انظر Miriam Cooke, Other Voices: Women’s Writers on the Lebanese Civil War (Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press, 1996), 5055.
[33]  حمدي أبو جليل، لصوص متقاعدون، دار ميريت، الطبعة الثالثة، 2009.
[34]  في إحدى المرات، اشترى سيف ملابس نسائية، من ضمنها "بلوزة بدون أكمام" Bodyولكن أخوته منعوه من ارتدائها، وخاصة أخوه جمال. حمدي أبو جليل، لصوص متقاعدون، صـ 19.
[35]  حمدي أبو جليل، لصوص متقاعدون، صـ 17.
[36]  السابق، صـ 28.
[37]  السابق، صـ 14.
[38]  السابق، صـ 16.
[39]  السابق، صـ 28. لأصل كلمة "اختفاء" انظر لسان العرب لابن منظور 5-6:116-18.
[40]  أبو جليل، لصوص، صـ 27.
[41]  Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, trans. Alan Sheridan (New York: Vintage, 1995), 3.
[42]  لأحداث مشابهة، أنظر قصة يوسف إدريس "هي" في مجموعة "بيت من لحم وقصص أخرى" (القاهرة، عالم الكتب، 1971).
[43] See P. N. Boratav et al., “DJinn,” in Encyclopedia of Islam, ed. P. Bearman et al., Brill Online, www.brillonline.nl/subscriber /entry?entry=islam_COM-0191.
[44]  أبو جليّل، لصوص، صـ 86.
[45]  السابق، صـ 28.
[46]  أبو جليل، لصوص، صـ 17،18.
[47] Khaled el-Rouayheb, Before Homosexuality in the Arab- Islamic World, 15001800 (Chicago: University of Chicago Press, 2005), 85.
 [48] حسن الإمام (1919-1988) هو مخرج سينمائي مصري غزير الإنتاج، نقل إلى السينما روايات محفوظية مثل "زقاق المدق" (1963)، و"بين القصرين" (1964)، و"قصر الشوق" (1967).
[49] Frédéric Lagrange, “Male Homosexuality in Modern Arabic Literature,” in Imagined Masculinities: Male Identity and Culture in the Modern Middle East, ed. Mai Ghoussoub and Emma Sinclair- Webb (London: Saqi, 2000), 16998, 178.
[50]  نجيب محفوظ، زقاق المدق، في المؤلفات الكاملة، مجلد 1: 660.
[51]  السابق، 686.
[52]  ابن منظور، لسان العرب، 3-4:225-26.
[53]  محفوظ، زقاق المدق، 684.
[54]  كفاية هي حركة مصرية من أجل التغيير تأسست عام 2004 عن طريق عدد من الكتاب والسياسيين والنشطاء منتقدين فساد الحكومة المصرية وسياساتها ومنتقدين بشدة التوريث وإشاعة تسليم حسني مبارك السلطة لابنه جمال. أما حركة 6 أبريل الشبابية فتأسست عام 2008، مرتبطة بشكل ما بكفاية، وكانت ذات دور كبير في قيادة المظاهرات التي أدت لسقوط نظام مبارك في كانون الثاني 2011.
endnotes
الاقتباس الأول: نجيب محفوظ، همس الجنون، المؤلفات الكاملة، المجلد 4 (بيروت: مكتبة لبنان، 1990)، 1:5.
الاقتباس الثاني: Gayatri Gopinath, Impossible Desires: QueerDiasporas and South Asian Public Cultures (Durham, N.C.: Duke University Press, 2005), 11.
الاقتباس الثالث: Bareed Mista3jil: True Stories  (Beirut: Meem, 2009), 34.
هذا هو عنوان الكتاب الفعلي، الذي يستخدم المصطلحات التقنية العربية، عن طريق إحلال رقم (3) كان حرف العين، ورقم (2) محل الهمزة وهكذا.
Trials of Arab Modernity: Literary Affects and the New Political. New York: Fordham University Press, 2013.
**كلمة كوير Queer تشير إلى أحرار الجنس وهو تعبير يتجاوز الغيرية الجنسية والثنائية الجندرية.
***كلمة Dragتشير إلى الرجل (أو المرأة) الذي يرتدي ملابس الجنس الآخر. وناقشت النظرية الكويرية البعد الأدائي المسرحي في هذا السلوك.