نجيب محفوظ واﻹخوان
مقال لأمير زكي

المقال خاص بـ Boring Books

يحتفظ الكاتب بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بمقاله دون إذن منه.

يظهر للقاريء المدقق لمحفوظ أنه كان واعيا طوال الوقت بمكانة الإسلام السياسي في مصر، فطوال تاريخ كتابته ظلت الشخصية التي تحاول تحقيق مكاسب سياسية من خلال أرضية إسلامية متواجدة في أدبه، بداية من "القاهرة الجديدة" أول رواية عصرية كتبها وحتى كتاباته الأخيرة. قبل موته بوقت قصير قال في جلسة أصدقاء تناقلتها الصحف أن مصر تريد أن تجرب حكم الإخوان المسلمين، هذا الذي حدث بعد وفاته بست سنوات.
كانت "القاهرة الجديدة" أول رواية لمحفوظ تدور في زمن معاصر له وكان مهتما بأن يظهر فيها التيارات الفكرية المتصارعة في زمنه، ليضع علي طه المؤمن بالمادية والاشتراكية في مقابل مأمون رضوان الذي يؤمن بـ"الله في السماء، والإسلام على الأرض"، وإن لم يتكلم محفوظ هنا صراحة عن انتماء مأمون رضوان للإخوان المسلمين. مع تقدم الرواية انسحب الحديث عن الصديقين الندين ليركز على شخصية محجوب عبد الدايم وصعوده الوظيفي الفاسد، قبل أن يجتمع الندين مرة أخرى معلقين على نهاية محجوب البائسة وعلى حال مصر قائلين: "ماذا تخبيء لنا أيها الغد؟!".
يعود محفوظ في السكرية ليصير أكثر صراحة في التعبير عن انتماءات شخصياته، ولا يتجاهل هنا أن يضع أيضا الشيوعي والإخواني في مواجهة بعضهما البعض، يضعهما محفوظ هنا كشقيقين من بيت واحد، حتى مع نهاية الرواية يضعهما في سجن واحد. تدين عبد المنعم المصبوغ بصبغة سياسية كان مثار سخرية أكثر من شخصية من عائلته، ليس فقط من قبل غير المهتمين بالدين - سخرية عمه كمال الباطنية من "يقينه وتعصبه"، وسخرية أخيه أحمد الظاهرة الذي يرى في الإخوان المسلمين "خازوق رباني" - ولكن أيضا من الشخصيات المتدينة في العائلة، تدين الجد أحمد عبد الجواد ومن ثم ابنته خديجة كان تدينا مختلفا، وشعبيا، آثار عبد المنعم إعجاب و"سخرية" الجد أحمد عبد الجواد عندما توجه إليه الأول لطلب يد حفيدته ابنة عائشة، كان كلام عبد المنعم مستشهدا "بالقرآن والحديث". وتسخر الأم خديجة – الأكثر تدينا في عائلتها - من ابنها قائلة: الدين جميل ولكن ما ضرورة هذه اللحية التى تبدو فيها مثل محمد بيّاع الكسكسى؟!" لا يتجاهل محفوظ الإيحاء بملاحظات على الخطاب السياسي الذي تقدمه جماعة الإخوان المسلمين من خلال شخصياته الأدبية، فيقول الشيخ علي المنوفي المعلم المباشر لعبد المنعم في الرواية: تعاليم الإسلام وأحكامه شاملة تنظيم شئون الناس فى الدنيا والآخرة، وأن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية الروحية أو العبادة دون غيرها من النواحى مخطئون فى هذا الظن، فالإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية ومصحف وسيف". ومن جهة أخرى تقول سوسن حماد: "الإخوان يصطنعون عملية تزييف هائلة، فهم حيال المثقفين يقدمون الإسلام في ثوب عصري، وهم حيال البسطاء يتحدثون عن الجنة والنار، فينتشرون باسم الاشتراكية والوطنية والديمقراطية". أو يرد عدلي كريم على تخوف أحمد من الإخوان قائلا: " ... ليسوا بالخطورة التي تتخيلها، ألا ترى أنهم يخاطبون العقول بلغتنا فيقولون اشتراكية الإسلام؟ فحتى الرجعيون لم يجدوا بدا من استعارة اصطلاحاتنا، وهم لو سبقونا إلى الانقلاب فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقا جزئيا، ولكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يطرد النور الخفافيش". إذا نظرنا للرواية كأننا ننظر لمؤشرات أولية لانتخابات أو حركة على الأرض، سنجد أن كفة اتجاه عبد المنعم رابحة من جهة التنظيم والعدد، فالحديث المتكرر عن شعب الإخوان والعدد الذي يؤازر عبد المنعم في مناسباته الاجتماعية يبدو مؤثرا أكثر من اتجاه أحمد، رغم أن أحمد ورفاق اتجاهه ينظرون للأولين بتعالي مستمر.
يحاول مصطفى بيومي صاحب كتاب "نجيب محفوظ والإخوان المسلمون" أن يبلور الخطاب الإخواني في أدب محفوظ، يكتب: "يتسم الفكر السياسي للإخوان بالميل إلى التعميم والحرص على الغموض والابتعاد عن الوضوح والتحديد، فهم سياسيون يرفعون الشعارات الدينية، ودينيون يعملون في السياسة، وفي هذا السياق، يتجلى تمسكهم الدائم بتجنب طرح برنامج تفصيلي ذي نقاط واضحة، ويتشبثون دائما بخصوصية غير منطقية وعاجزة عن الإقناع: الحديث السياسي المترفع كأنهم من رجال الدين، والخطاب الديني المختلف كأنهم يحتكرون الإسلام".   ثم يكتب عن موقف الإخوان من الوفد قائلا: "اختلاف الإخوان مع الوفد لا يحول دون حقيقة أن الغالبية من الرعيل الأول للإخوان كانوا وفديين، أو متعاطفين مع الحزب الشعبي الكبير. ولقد تعرض الإخوان للاضطهاد والمطاردة في العهود غير الوفدية، لكنهم تحالفوا دائما مع كل مضطهديهم ضد الوفد. الإخوان لا يقنعون بالوفد في عالم نجيب محفوظ والوفديون يضيقون بالإخوان وتعصبهم".
لاحظ أن كثيرا ما تكون نظر محفوظ للوفد (حزب سعد زغلول) أقرب للرومانسية في رواياته، فهو الحزب الذي يعبر بشكل أساسي عن الوطنية المصرية، وكل خروج عنه هو خروج عن هذا الحس الوطني. لذلك كان خلط محمد حامد برهان بين وفديته وبين اهتمامه بالانتماء للإخوان المسلمين في رواية "الباقي من الزمن ساعة" مثار انزعاج أبيه الوفدي، مرة أخرى يشير محفوظ إلى أن الدين "الإخواني" الذي تتوطد علاقة محمد به دين مختلف "... عن دين أسرته المتسم بالسماحة والبساطة". ولكن مثلما ابتلي محمد الإخواني بالاعتقال قبل ثورة يوليو ابتلي باعتقال أصعب بعدها رغم التوقع بتحالف بين الثورة والإخوان، ليخرج محمد من السجن "بعين واحدة وساق عرجاء". ليصبح وضعه أقرب للسلبية في عهد جمال عبد الناصر قبل أن يعبر عن حماس للسادات الصديق وحالما بـ"الحل الإسلامي"، ثم ينقلب رأيه بعد زيارة الرئيس إلى إسرائيل. وتتشابه شخصية سليم حسين قابيل في "حديث الصباح والمساء" مع شخصية محمد حامد برهان، إذ تتلاعب الرياح السياسية التي هبت مع ثورة يوليو بسليم المنتمي للإخوان، هذا الذي يجعله يعتبر الكوارث الوطنية كهزيمة يونيو واغتيال السادات كعواقب إلهية.
وإذا كان محفوظ في "السكرية" و"الباقي من الزمن ساعة" و"حديث الصباح والمساء" قد تحدث عن كوادر إخوانية، فهو في المرايا يتحدث عن "أسطورة"، عبد الوهاب إسماعيل: "إنه اليوم أسطورة، وكالأسطورة تختلف فيه التفاسير". لن نلعب طويلا لعبة "من الشخصية الحقيقية؟" مع عبد الوهاب إسماعيل (نحن الذين نقارب عدلي كريم "السكرية" بسلامة موسى وطاهر عبيد" قشتمر" بصلاح جاهين)، فمحفوظ في حواره الطويل مع رجاء النقاش أشار إلى أن الشخصية تحمل ملامح كثيرة من سيد قطب. يرى الراوي في "المرايا" بذور التعصب في شخصية عبد الوهاب إسماعيل، فهو يرفض الكتابة عن كاتب قبطي جيد لأنه لا يثق في أتباع الديانات الأخرى"، ثم يعبر أمام الراوي عن أفكاره الرجعية التي تتضمن ضرورة عودة المرأة إلى البيت واجتثاث الحضارة الأوروبية. ارتفع نجم عبد الوهاب اسماعيل سريعا وهبط سريعا بعد ثورة يوليو كالشخصيات الإخوانية، لصدام الإخوان مع عساكر الثورة.
الشخصيات التي تؤمن بالإسلام السياسي عند نجيب محفوظ غالبا ما تكون أقل جاذبية من الشخصيات التي تؤمن بأفكار أخرى، فستجد من محفوظ اهتماما وتعقيدا أكبر عند شخصية كعلي طه أكثر من مأمون رضوان، وعند أحمد شوكت أكثر من عبد المنعم شوكت، ولكن مع ذلك تظل هذه الشخصيات المتدينة بيقينها وربما تعصبها تحمل صلابة في مواجهة الصعاب عن الشخصيات الأخرى حتى لو حولتها الضربات السياسية لكائنات أقرب للسلبية السياسية مثلما صار محمد حامد برهان في "الباقي من الزمن ساعة".
 
***
مصادر:
-         عمنا نجيب محفوظ تنبأ بسطوع نجم الإخوان في السياســـــة، حوار مع عبد الرحمن الأبنودي، أخبار اليوم، 15/7/2012
-         نجيب محفوظ، القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، 1945
-         محفوظ، السكرية، مكتبة مصر، 1957
-         مصطفى بيومي، نجيب محفوظ.. والإخوان المسلمون، كتاب اليوم، 2005
-         محفوظ، الباقي من الزمن ساعة، مكتبة مصر، 1982
-         محفوظ، حديث الصباح والمساء، مكتبة مصر، 1987
-         محفوظ، المرايا، مكتبة مصر، 1972
-         رجاء النقاش، نجيب محفوظ – صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته، 1998