المختفي: كيف غيرت فتوى حياة كاتب (2-2)
سلمان رشدي
ترجمة: أمير زكي
 

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

1989
ألفا متظاهر يمثلون حشدا صغيرا في باكستان، حتى أقل سياسي ذو سلطة يستطيع أن يحشد آلاف أكثر في الشوارع بمجرد التصفيق بيديه. هؤلاء "الأصوليون" الألفين الذين جاءوا ليهاجموا مركز المعلومات الأمريكي في قلب إسلام آباد في 12 فبراير كانوا - بشكل ما - نذيرا جيدا. رئيسة الوزراء بنظير بوتو كانت في زيارة رسمية للصين في هذا الوقت، وكان هناك شك في أن هدف المتظاهرين الحقيقي هو خلخلة حكمها؛ المتطرفون الدينيون تشككوا طويلا في كونها علمانية، وأرادوا أن يضعوها تحت دائرة الضوء. وليس لآخر مرة، ستستخدم "الآيات الشيطانية" ككرة قدم في لعبة سياسية علاقتها بها محدودة أو لا علاقة على الإطلاق. يتم رمي الطوب والحجارة على قوات الأمن، مع صرخات "كلاب الآمريكان"، و"اشنقوا سلمان رشدي" – هذه الأمور المعتادة. لا شيء من هذا يفسر تماما رد فعل البوليس، الذي فتح النار مستخدما البنادق والآسلحة نصف الآلية وبنادق الرش اليدوية. المواجهات استمرت لثلاث ساعات، ورغم كل هذه الأسلحة، وصل المتظاهرون إلى سطح البناية وأحرقوا العلم الأمريكي، ودمى تمثل الولايات المتحدة، وتمثله. في يوم آخر ربما سأل نفسه أي مصنع يزود الناس بآلاف الأعلام الأمريكية التي تُحرق حول العالم كل عام. ولكن كل شيء حدث في هذا اليوم تقزم أمام حقيقة واحدة: أُطلق الرصاص على خمسة أشخاص وماتوا. فكر: الدماء ستجلب دماء.
***
هناك رجل عجوز مصاب بمرض مميت، يستلقي في غرفة مظلمة، وهناك ابنه، يخبره أن المسلمين يُرمون بالرصاص ويُقتَلون في الهند وباكستان؛ إنه هذا الكتاب هو المتسبب في ذلك، يقول الولد لأبيه، الكتاب المعادي للإسلام. بعد ساعات قليلة، سيأتي ملف إلى مكاتب الإذاعة الإيرانية وسيذاع على أنه مرسوم الخميني. الفتوى، أو المرسوم، غالبا ما تكون ملفا رسميا، مُوقَعا ومشهودا عليه ومختوما مع نهاية الإجراءات القانونية، ولكن هذه كانت مجرد قطعة من الورق تحمل نصا مكتوبا على الآلة الكاتبة. لا أحد رأى الملف الرسمي، إن وجد واحدا. قطعة الورق أعطيت لقاريء الأخبار في الإذاعة وبدأ يقرأ.
 
كان عيد الحب.
 
"التهديد" مصطلح تقني، وهو لا يساوي مصطلح "المخاطرة". مستوى التهديد كان عاما، ولكن مستويات المخاطرة كانت محددة. مستوى التهديد ضد فرد ربما يكون عاليا – وكان على أجهزة المخابرات أن تحدد هذا – ولكن مستوى المخاطرة المتعلق بفعل بعينه يقوم به هذا الفرد ربما يكون أقل كثيرا، على سبيل المثال، لو لم يعرف أي شخص ما الذي يخطط له أو متى. تقييم المخاطرة كان عمل فريق البوليس. كانت هناك مباديء تتعلق بأن عليه أن يخطط، لأن التهديد وتقديرات المخاطر ستشكل حياته اليومية، الآن ولاحقا.
 
ضابط الأمن الخاص[1] الذي جاء ليراه في صباح 15 فبراير كان اسمه ويلسون، وضابط المخابرات كان ويلتون، والإثنين ينادان بـ "ويل"؛ ويل ويلسون وويل ويلتون. كان الأمر أشبه بنكتة في مسرح المنوعات، باستثناء أنه لا يوجد شيء طريف يتعلق بما حدث هذا اليوم. قيل له إنه بسبب كون التهديد ضده يعتبر خطيرا جدا – تهديد من المستوى الثاني، هذا الذي يعني أنه يعتبر في خطر أكبر من أي أحد في البلد باستثناء الملكة – ولأن التوعد كان من قبل قوى خارجية، فتم تكليف حماية له من الدولة البريطانية. طُلب منه رسميا أن يقبل الحماية وقبلها. شُرح له أنه سيُخصص له ضابطان للحماية، وسائقان وسيارتان. السيارة الثانية موجودة في حال تعطلت الأولى. تم تفسير ذلك بأنه بسبب الطبيعة الفريدة للمهمة والمخاطر غير المحددة المتضمنة، فكل الضباط الذين يحمونه سيكونون متطوعين. تم تقديمه لأول فريق حماية: ستانلي دول وبين وينتر (الأسماء وبعض التفاصيل تغيرت هنا)؛ ستانلي كان واحدا من أفضل لاعبي التنس في قوات الشرطة، بيني كان واحدا من الضباط السود القليلين في الأمن، وكان يرتدي جاكت جلدي مصبوغ وأنيق، الإثنان كانا وسيمين بشكل كبير، وكانا يحملان أسلحة. الأمن الخاص كانوا بمثابة النجوم في بوليس المتروبوليتان، نخبة الصفرين[2]. هو لم يكن قد قابل أبدا أي شخص مسموح له فعليا بالقتل، ولكن ستان وبيني كان مسموحا لهما الآن بالقتل من أجله.
 
فيما يتعلق بالأمر الحاضر، أكد كل من بيني وستان: "هذا ليس مسموحا"، يقول ستان: "أن تهدد مواطنا بريطانيا، هذا لن يستمر، سيتم حله، عليك فقط أن تحرص لعدة أيام لتدع السياسيين يحلون المشكلة".
 
قال بيني: "لا تستطيع أن تذهب لمنزلك كما هو واضح، هذا لن يكون أمرا ملائما، هل هناك أي مكان تريد أن تتوجه له لعدة أيام؟"
 
قال ستان: "اختر مكانا لطيفا، ونحن سنسرع بك إليه فورا، إلى أن تصبح آمنا".
 
أراد أن يقتنع بتفاؤلهما، فكر، ربما يذهب لنواحي كوتسوولد[3]، ربما في هذا المكان الذي يظهر في صور البطاقات البريدية الذي يضم تلال كثيرة ومنازل بأحجار ذات لون ذهبي. هناك نزل مشهور في قرية برودواي بوكتسوولد يدعي اللايجون آرمز، طالما أراد أن يذهب هناك في عطلة نهاية الأسبوع ولكنه لم يفعل ذلك مطلقا. هل من الممكن أن يذهبوا للايجون آرمز؟ نظر كل من ستان وبيني إلى بعضهما البعض وشيء يدور بينهما.
قال ستان: "لا أرى مانعا من ذلك، سننظر في الأمر".
 
قال إنه يريد أن يرى ابنه مرة أخرى قبل أن يذهب للاختباء، وكذلك أخته سامين، وافقا على "إعداد ذلك". عند حلول الظلام تمت قيادته إلى طريق بورما في سيارة جاجوار مصفحة، الغطاء المصفح كان كثيفا جدا بحيث لم تكن هناك مساحة علوية كبيرة كما في السيارات العادية، الأبواب كانت ثقيلة جدا فإذا أُغلقت فجأة وصادف وضربتك فهي ستصيبك بأذى شديد، استهلاك الوقود في الجاجوار المصفحة يأخذ جالون لكل ستة أميال، إنها بنفس ثقل دبابة صغيرة. عرف هذه المعلومات من أول سائق أمن خاص؛ دينيس (الحصان) شوفالييه، رجل ضخم مرح ملغد بشفتين غليظتين –"أحد الرفاق القدامي" قال عن نفسه، "هل تعرف المصطلح التقني الذي يطلق علينا نحن سائقي الأمن الخاص؟" سأله دينيس الحصان، هو لم يكن يعلم، قال دينيس: "المصطلح هو س. م. و، هذا هو نحن". وماذا تعني س. م. و؟ فأطلق ضحكة متحشرجة قليلا من حلقه وقال: "السائقون الملعونون الوحيدون".

سيعتاد على نكات البوليس؛ واحد من سائقيه الآخرين سيُعرَف وسط الأمن الخاص بأنه ملك أسبانيا، لأنه ترك مرة الجاجوار بدون أن يغلقها ليذهب إلى دكان السجائر، وعاد ليجدها قد سُرِقت، لذلك أصبح اسم شهرته – لأن ملك أسبانيا اسمه كذلك – عليك أن تقوله ببطء – خوان كار- لوس Car-Los[4].
 
أخبر ظفر وكلاريسا بما قاله له فريق الحماية: "سينتهي الأمر في عدة أيام". ظفر بدا مرتاحا بشكل كبير، أما وجه كلاريسا فبانت عليه كل الشكوك التي كان يحاول التظاهر بأنه لا يشعر بها. عانق ابنه بشدة ورحل.
 
سامين، المحامية (وإن لم تعد عاملة – وتعمل الآن في تعليم الكبار) كان لديها دوما عقل سياسي حاد، ولديها الكثير لتقوله عما يحدث؛ الثورة الإيرانية أصبحت مهزوزة من وقت أُجبِر الخميني – وفقا لكلامه – أن "يشرب كأس السم" ويقبل النهاية غير الناجحة لحربه مع العراق، تلك التي تركت جيلا من الإيرانيين الشباب قتلى أو مصابين، الفتوى كانت طريقته في استعادة الزخم السياسي، وتجديد طاقة المخلصين، كان حظ أخيها البائس أن يكون التكأة الأخيرة للرجل الميت، أما بالنسبة لـ"قادة" المسلمين البريطان، فمَن هم تحديدا مَن كانوا يقودونهم؟ كانوا قادة بدون أتباع، دجالون يحاولون أن يصنعوا مهنة من مأساة أخيها، لجيل كامل كان سياسيو الأقليات العرقية في بريطانيا علمانيين واشتراكيين، هذه هي طريقة المساجد في أن تضع الدين على مقعد القيادة، الأسيويون البريطان لم يتناثروا إلى مجموعات هندوسية ومسلمة وسيخية من قبل، يحتاج أحدهم أن يقول لهؤلاء الناس عمن يدق إسفين الطائفية بين المجتمع، قالت، ويُعرّفهم أنهم منافقون وانتهازيون كما هم بالفعل.
 
كانت مستعدة أن تكون هذا الشخص، وكان يعرف أنها ستكون ممثلة عظيمة، ولكنه طلب منها ألا تفعل ذلك، ابنتها مايا لم تكن قد أتمت عامها الأول، إن أصبحت سامين المتحدث العام باسمه، سيعسكر الإعلام خارج بيتها، ولن يكون هناك مهرب من وهج الشعبية، حياتها الشخصية، حياة ابنتها، ستصبح شيئا مكونا من أضواء الكاميرات والميكروفونات. أيضا فمن المستحيل أن تعلم أي خطر يمكنه أن يلحق بها. هو لم يرد منها أن تغامر من أجله، وافقت على مضض.
 
واحد من النتائج غير المتوقعة لهذا القرار - فأثناء تصاعد الأزمة، كان مضطرا أن يظل تقريبا غير مرئي، لأن البوليس طلب منه ألا يزيد المشكلة، تلك النصيحة التي قبلها لفترة –  أن أحدا يحبه لم يتكلم عنه، لا زوجته، ولا أخته، ولا أصدقاءه المقربين، الناس الذين رغب في أن يستمر في رؤيتهم. أصبح في نظر الإعلام الشخص الذي لا يحبه أحد في حين أن الكثيرين يكرهونه. "ربما يكون الموت سهلا إلى حد كبير بالنسبة له". يقول إقبال ساكراني، عضو لجنة الفعل البريطانية للشئون الإسلامية، وأضاف: "لا بد أن عقله سيظل ممزقا لبقية عمره لو لم يطلب المغفرة من الله العظيم". (في 2005 ساكراني نفسه سيحصل على لقب فارس باقتراح من حكومة بلير لخدماته المتعلقة بالترابط الاجتماعي).
 
في طريقه لكوتسوولد، توقفت السيارة من أجل البنزين، احتاج أن يذهب إلى الحمام، ففتح الباب وخرج. كل رأس في محطة البنزين ارتفعت لتحدق فيه. كان في الصفحة الأولى من كل جريدة – مارتن آميس قال، في جملة لا تُنسَي إنه "تلاشى في الصفحات الأولى" – وأصبح في ليلة واحدة من أكثر الرجال المعروفين في البلد. بدت الوجوه ودودة – حياه رجل، وآخر رفع له إبهامه – ولكنه كان أمرا مقلقا أن يكون مرئيا جدا في ذات اللحظة التي طُلب منه أن يختبيء فيها. في نزل لايجون آرمز، لم يستطع العاملون المدربون جيدا أن يمنعوا أنفسهم من أن يفغروا فيهم، لقد أصبح يمثل عرضا غريبا، وهو وماريان شعرا بالارتياح عندما حصلا على الخصوصية في غرفتهما الجميلة التي تنتمي لعالم قديم. أعطوه زر إنذار ليضغط عليه لو قلق من أي شيء، اختبر الزر ولم يعمل.
 
في اليوم التالي في الفندق، أتى ستان وبيني ليقابلانه ومعهما ورقة في أياديهما؛ رئيس إيران علي خامنئي أشار إلى أنه لو اعتذر "فربما سيتم الصفح عن هذا الرجل البائس". قال ستان: "يبدو أنه عليك أن تفعل شيئا لتقلل من سخونة الوضع".
 
أكد بيني: "نعم، هذا هو الكلام، تصريح مناسب منك ربما يجلب المساعدة".
 
أراد أن يعرف؛ يبدو بالنسبة لِمًن؟، وتفكير مَن هذا؟
 
قال ستان: "هذا هو الرأي العام" ثم بغموض: "الأعلى".
 
هل كان هذا رأي البوليس أم رأي الحكومة؟
 
قال ستان: "هم سمحوا لأنفسهم أن يكتبوا النص، اقرأه في كل الأحوال".
 
قال بيني: "في كل الأحوال اصنع التغييرات إن لم يعجبك الأسلوب، أنت الكاتب".
 
قال ستان: "عليّ أن أقول بصراحة، إن هذا هو النص الذي قُبِل".
 
النص الذي تسلمه كان فيه جبن وتذلل، أن يوقعه معناه أن يسلم بالهزيمة، هل يمكن أن تكون هذه هي الصفقة التي تُعرَض عليه – أنه سيتلقى دعم الحكومة وحماية البوليس فقط لو تنازل عن مبادئه وعن دفاعه عن الكتاب، أن ينزل على ركبتيه ويتذلل؟
 
بدا ستان وبيني غير مرتاحين بشكل كبير، قال بيني: "كما قلت، أنت حر في إجراء التعديلات".
 
قال ستان: "ثم سنرى كيف سيتصرفون".
 
ولكن بافتراض أنه اختار ألا يصدر تصريحا أصلا الآن؟
 
قال ستان: "يُعتَقَد أن هذه فكرة جيدة، هناك مفاوضات عالية المستوى تجري من أجلك، وهناك في الاعتبار أيضا رهائن لبنان، والسيد روجر كوبر في السجن بطهران؛ موقفهم أسوأ من موقفك، مطلوب منك أن تقوم بدورك". (في الثمانينيات من القرن الماضي، جماعة حزب الله اللبنانية، الممولة من طهران، أسرت 96 أجنبيا من 21 دولة، منهم أمريكان وبريطانيين. كوبر، رجل الأعمال البريطاني، مقبوض عليه في إيران).
 
كانت مهمة مستحيلة: أن تكتب شيئا يمكنه أن يُفهَم على أنه غصن زيتون، بدون أن ترضخ لما هو مهم. التصريح الذي وصل كان الأكثر تقززا منه:
 
"ككاتب (الآيات الشيطانية) أدرك أن المسلمين في أجزاء كثيرة من العالم منزعجون بشكل كبير من نشر روايتي. أنا آسف كثيرا لهذا الانزعاج الذي أداه نشر الكتاب لأتباع الإسلام المخلصين. العيش في عالم يحتوي عقائد عديدة كما هو حادث يجعل هذه التجربة تذكرنا أننا يجب أن نكون مراعين لمشاعر الآخرين".
 
صوته الداخلي المُبرِر قال له إنه يعتذر على الانزعاج – وهو على كل حال لم يرد أبدا أن يُحدِث انزعاجا – لا على الكتاب نفسه. ونعم، بالطبع علينا أن نراعي مشاعر الآخرين، ولكن هذا لا يعني أنه علينا أن نستسلم لها. هذا هو المضمون المتحدي غير المصرح به. لكنه كان يعرف ذلك، لو كان المقصود من التصريح أن يكون مؤثرا، فلا بد أن يُقرَأ كاعتذار صريح. هذه الفكرة جعلته يشعر بأنه مريض جسديا.
 
كانت إشارة غير مفيدة، تم رفضها، ثم قُبلَت بشكل جزئي، ثم رُفضَت مرة أخرى، سواء عن طريق المسلمين البريطان أو القيادة الإيرانية. الموقف القوي كان بالأحرى هو رفض التحاور مع التعصب، هو اتخذ الموقف الضعيف وتم التعامل معه بالتالي على أنه رجل ضعيف. الأوبزرفر دافعت عنه: "لا بريطانيا ولا الكاتب فعلا شيئا ليعتذرا عنه" – ولكن شعوره بأنه اتخذ خطوة خاطئة تأكد سريعا؛ "حتى لو تاب سلمان رشدي وأصبح أكثر الرجال تقوى في العالم، فمن الواجب على كل مسلم أن يستولي على كل شيء يخصه؛ حياته وثروته، ويرسله إلى الجحيم". هكذا قال الإمام المحتضر.
***
ضباط الحماية قالوا إنه ليس من المفترض أن يقضي أكثر من ليلتين في لايجون آرمز، كان محظوظا لأن الإعلام لم يجده بعد، ولكن خلال يوم أو أكثر سيجدونه، كان هذا عندما تم تفسير حقيقة مزعجة أخرى: هناك اعتماد عليه في إيجاد الأماكن التي سيبقى فيها. نصيحة البوليس كانت أنه لن يستطيع العودة لمنزله، لأنه سيكون من المستحيل (هذا الذي يعني أنه من المكلف جدا) أن يحموه هناك، ولكن لم تكن هناك "بيوت آمنة"[5]، إن كانت توجد مثل هذه الأماكن فهو لم يرها، معظم الناس المعتادين على أدب الجاسوسية كانوا مقتنعين تماما بوجود البيوت الآمنة، وافترضوا بأنه تمت حمايته في مثل هذه القلاع على حساب البوليس. انتقاد المال المنفق على حمايته سيصبح أكثر صخبا في الأسابيع التالية: كمؤشر على التغير في الرأي العام، ولكن في يومه التالي بلايجون آرمز، سيقال له إن لديه 24 ساعة ليجد مكانا آخر ليبقى فيه. زميلة لكلاريسا عرضت قضاء ليلة أو إثنتين في كوخها بالريف، في قرية تيم بأوكسفوردشاير، وقتها كان قد أجرى اتصالات بكل شخص يمكن أن يفكر فيه، بلا جدوى، ثم راجع رسائله الصوتية ووجد رسالة من ديبورا روجرز، وكيلته الأدبية السابقة، قالت: "اتصل بي، أعتقد أننا نستطيع المساعدة".
 
ديب وزوجها، المؤلف الموسيقي مايكل بيركلي، دعياه لمزرعتهما في ويلز، قالت له ببساطة: "إن كنت تحتاجها فهي لك". تأثر كثيرا. قالت: "أنظر، إنها رائعة، في الحقيقة لأن الكل يعتقد أننا تشاجرنا، وبالتالي فلا أحد سيتصور أبدا أنك هنا". في اليوم التالي هبط سيركه المتجول إلى ميدل بيتس؛ مزرعة بسيطة في تلال حدود الريف الويلزي. "ابق الوقت الذي تحتاجه" قالت ديب، ولكنه كان يعرف أنه بحاجة لأن يجد مكانا يخصه، وافقت ماريان على الاتصال بالوكلاء العقاريين المحليين لتبدأ في البحث عن أماكن للإيجار، كانا فقط يتمنيان أن يكون وجهها أقل ألفة من وجهه.
 
بالنسبة له، فلا يُفترَض أن تتم رؤيته في المزرعة، وإلا سيتعرض أمنه للخطر. فلاح محلي كان يرعى قطيع مايكل وديب، وفي لحظة ما هبط التل ليتحدث مع مايكل عن شيء، أخبره مايكل: "من الأفضل أن تختبيء"، انحنى تحت مائدة المطبخ. أثناء ربضه هناك كان يستمع إلى مايكل وهو يحاول التخلص من الرجل بأسرع ما يمكن، شعر بإحساس كبير بالعار؛ أن تختبيء بهذه الطريقة يعني أن تنزع عن نفسك كل احترام للذات، فكر؛ ربما العيش بهذه الطريقة سيكون أسوأ من الموت. في روايته "العار"، كتب عن تكوين "ثقافة المسلم الفخورة"؛ قطبي محورها الأخلاقي هما الشرف والعار، هذا يختلف كثيرا عن السرديات المسيحية التي تتحدث عن الذنب والخلاص. هو جاء من هذه الثقافة، حتى لو لم يكن مؤمنا. أن يتوارى ويختبيء يعني أن يعيش حياة غير شريفة. شعر بالعار، كما شعر كثيرا في هذه السنوات، شعر بالعار والخجل.
***
تهدر الأخبار في أذنه؛ أعضاء البرلمان الباكستاني اقترحوا إرسال فوري لمغتالين إلى المملكة المتحدة، في إيران صرح رجال الدين الأقوى بتصريحات مشابهة خلف الإمام. "السهم الأسود الطويل انطلق، وهو يسافر الآن نحو هدفه". قال خامنئي أثناء رحلة إلى يوغوسلافيا. آية الله إيراني[6] يدعى حسن صانعي عرض مليون دولارا كمكافأة لمن يأتي برأس المرتد؛ لم يكن من الواضح هل آية الله يملك المليون دولار، أو كيف يكون من السهل المطالبة بالمكافأة، ولكن هذه لم تكن أياما منطقية. مكتبة المركز البريطاني في كراتشي – المكان الراكد المحبب الذي طالما زاره – تم تفجيرها.
 
في 22 فبراير؛ اليوم الذي نشرت فيه الرواية في أمريكا، كان هناك إعلان ملء صفحة في التايمز، مدفوع الأجر من قبل جمعية الناشرين الأمريكان وجمعية بائعي الكتب الأمريكان، وجمعية المكتبين الأمريكان، الإعلان كان يقول: "(الأحرار يكتبون الكتب)، (الأحرار ينشرون الكتب)، (الأحرار يبيعون الكتب)، (الأحرار يشترون الكتب)، (الأحرار يقرأون الكتب). بروح أمريكا الملتزمة بحرية التعبير نُعلِم الجميع أن الكتاب سيكون متاحا للقراء في المكتبات وأماكن البيع في كل أنحاء البلد". مركز "قلم" الأمريكي، بقيادة حميمة لصديقته المحبوبة سوزان سونتاج، أجرى جلسات قراءة للرواية؛ سونتاج، دون ديلايلو، نورمان ميلر، كلير بلوم، لاري مكمورتري كانوا من ضمن القراء، أُرسِل له شريط بالحدث، جلب الدموع إلى عينيه. بعد ذلك بفترة طويلة، قيل له أن بعض الكتاب الأمريكان الكبار تواروا واختبأوا، حتى آرثر ميلر اعتذر – لأن يهوديته ربما تأتي بنتيجة عكسية. ولكن خلال أيام رضخوا عن طريق سوزان، وتقريبا كلهم وجدوا ذواتهم الأفضل ووقفوا ليتم حسابهم.
 
عندما حصل الكتاب على المركز الأول للأسبوع الثالث على التوالي في قائمة الأفضل مبيعا في النيويورك تايمز، سخر جون إيرفنج الذي وجد نفسه مستمرا في المركز الثاني قائلا إذا كان هذا هو مقابل الصدارة فهو سعيد أن يكون ثانيا. هو نفسه يعرف جيدا، مثلما يعلم إيرفينج، أن التشهير، وليس التقدير الأدبي، هو الذي قاد المبيعات، هو أيضا عرف، وقدّر ذلك، أن العديد من الناس اشتروا نسخا من "الآيات الشيطانية" ليظهروا دعمهم.
 
بينما يحدث كل هذا وأكثر، كاتب "الآيات الشيطانية" كان رابضا خلف مائدة المطبخ وهو يشعر بالعار، متجنبا أن يراه فلاح يرعى القطعان.
***
وجدت ماريان مسكنا لتؤجره، كوخا متواضعا بحوائط بيضاء وسقف مغطى بالصخور يدعى (تين – أو – كويد) "Tyn-Y-Coed" (منزل في الغابة)، هذا اسم شائع لمنزل في هذه النواحي، كان في قرية ببينتريفيلين، في بريكون، ليس بعيدا عن الجبال السود في بريكون بيكونز[7]. كانت هناك أمطارا غزيرة، وكان الجو باردا عندما وصلوا. ضباط البوليس أرادوا أن يشعلوا المدفأة، وبعد فترة معقولة من الصياح والوعيد، نجحوا في ذلك. وجد حجرة صغيرة بالأعلى حيث كان باستطاعته أن يغلق الباب ويتظاهر بالعمل، بدا المنزل كئيبا كما كانت هذه الأيام. ظهرت تاتشر في التلفزيون؛ متفهمة الإهانة ضد الإسلام ومتعاطفة مع المهانين.
 
القائد جون هاولي من الأمن الخاص، أتى ليلتقيه في ويلز، يبدو الآن أنه سيكون في خطر لوقت معقول، وهذا لم يكن ما توقعه الأمن الخاص كما أخبره هاولي. الأمر لم يعد مسألة اختباء لعدة أيام حتى يحل السياسيون الأمور، لم يكن هناك تصور بأن يتم السماح له (السماح؟) بأن يستأنف حياته العادية في المستقبل القريب. هو لا يستطيع أن يقرر ببساطة أن يعود لبيته ويغامر بفرصه،  أن يفعل ذلك فهو يخاطر بجيرانه والمكان يمثل عبء غير محتمل على قوات البوليس، لأن الشارع كله، أو ربما أكثر من شارع، سيكون بحاجة لأن يُحاصَر وتتم حمايته. عليه أن ينتظر حتى يحدث "تغير سياسي كبير". ماذا يعني هذا؟ سأل، حتى يموت الخميني؟ أم إلى الأبد؟ لم تكن لدى هاولي إجابة، لم يكن من الممكن بالنسبة له أن يقدر كم من الوقت سيستمر هذا الأمر.
***
كان يعيش وهو مهدد بالموت لمدة شهر حتى الآن، كانت هناك مظاهرات أخرى ضد "الآيات الشيطانية" في باريس، نيويورك، أوسلو، كاشمير، بانجلاديش، تركيا، ألمانيا، هولندا، السويد، أستراليا، وغرب يوركشاير. كم الإصابات والقتلى استمر في الارتفاع، الرواية مُنعت الآن في سوريا، لبنان، كينيا، بروناي، تايلاند، تنزانيا، أندونيسيا، وأماكن أخرى في العالم العربي. في تين -أو- كويد في منتصف مارس أُلقِي بدون إنذار في أسفل حلقة من الجحيم الأورويلي؛ "لقد سألتني مرة.." يقول أوبراين[8]: "ما هي الغرفة 101. أخبرتك أنك تعرف الإجابة مسبقا، كل شخص يعرفها، الشيء الموجود في غرفة 101 هو أسوأ شيء في العالم". الشيء الأسوأ في العالم يختلف من فرد لآخر؛ بالنسبة لونستون سميث في رواية أورويل "1984" كانت الفئران، أما بالنسبة له، في الكوخ الويلزي البارد، فكان الاتصال غير المردود عليه.
 
كان يقوم بروتينه اليومي مع كلاريسا: في الساعة السابعة كل مساء كان يتصل ليلقي التحية على ظفر، لو لم تكن كلاريسا في البيت مع ظفر في الساعة السابعة ستترك رسالة للأنسر ماشين في منزل شارع سانت بيتر تخبره متى سيعودان. اتصل بمنزل طريق بورما ولم يكن هناك رد، ترك رسالة في أنسر ماشين كلاريسا ثم استجوب جهازه، لم تترك رسالة، أوه، فكر، حسنا هما متأخران قليلا، بعد 15 دقيقة اتصل مرة أخرى، لا أحد، رفع السماعة، اتصل بجهازه مرة أخرى، لا شيء هناك، بعد عشر دقائق اتصل للمرة الثالثة، لا شيء أيضا. كانت تقريبا الثامنة إلا الربع في ليلة يوم دراسي، لم يكن معتادا منهما أن يتأخرا إلى هذا الحد، اتصل مرتين أخريين في العشر دقائق التالية، لا رد. الآن بدأ يشعر بالذعر، كرر الاتصال بمنزل طريق بورما، يتصل ويعيد الاتصال كالمجنون، وبدأت يداه تهتزان، كان يجلس على الأرض ملتصقا بالحائط والتليفون على حِجره، يتصل ويعيد الاتصال. لاحظ ستان وبيني النشاط التليفوني المهتاج لـ"عميلهما"، وجاءا ليسألاه إن كانت الأمور بخير.
 
قال لا، الأمور لا تبدو كذلك، كلاريسا وظفر متأخران الآن لمدة ساعة وربع عن موعد اتصاله بهما ولم يتركا تفسيرا. بدا وجه ستان جادا، سأله: "هل هذا خرق للروتين؟"، نعم، لقد كان هذا خرقا للروتين، قال ستان: "حسنا، دع ذلك لي، سأقوم ببعض الاستفسارات". بعد عدة دقائق عاد وقال إنه تحدث إلى الميتبول – شرطة المتروبوليتان بلندن – وتم بعث سيارة للعنوان لتقوم بفحص الأمر. بعد ذلك، مرت الدقائق ببطء وبرود كالجليد المتجمد، وعندما جاء التقرير أوقف قلبه؛ أخبره ستان: "السيارة مرت بالمبنى حالا، وأنا آسف لأن أقول إن التقرير يقول إن الباب الأمامي كان مفتوحا وكل الأنوار كانت مضاءة". لم يكن قادرا على الرد. "كما هو واضح فالضباط لم يحاولوا أن يصعدوا إلى المنزل أو يدخلوه". قال ستان: "في مثل هذا الموقف لن يعرفوا ما الذي يمكن أن يلاقوه".
رأي جسدين ملقيين على السلالم في الصالة الرئيسية، رأى بوضوح ساطع جثتي ابنه وزوجته الأولى ثابتتين غارقتين في الدماء، لقد انتهت الحياة، لقد هرب بعيدا واختبأ كأرنب خائف وكان على أحبابه أن يدفعوا الثمن. قال ستان: "لنخبرك ما الذي سنفعله؛ سندخل إلى هناك، ولكن عليك أن تترك لنا حوالي 15 دقيقة، فعليهم أن يجمعوا جيشا".
 
ربما الإثنان ميتان، ربما لا يزال ابنه حيا وأخذوه كرهينة، قال لستان: "هل تفهمني، فإذا أخذوه وطلبوا فدية، فسوف يرغبون في أن يبادلوني به، وأنا سأفعل ذلك، وأنتم لن تمنعوني من فعل ذلك". كان صمت ستان طويلا وكئيبا، هذا الذي يحدث فقط في مسرحية لبنتر ثم قال: "الأمر الذي يتعلق بمبادلة الرهائن يحدث فقط في الأفلام، وأنا آسف لأن أقول لك إنه في الحياة الواقعية، إن كان هذا اقتحام عنيف، فالإثنين قُتِلا غالبا، السؤال الذي عليك أن تسأله لنفسك، هل تريد أن تموت أنت أيضا؟".
 
جلست ماريان في مواجهته، غير قادرة على أن تهون عليه، ليس لديه شيء ليقوله، فقط الاتصال المحموم، كل 30 ثانية، الاتصال وصوت الرنين وصوت كلاريسا يسأله أن يترك رسالة، لم تكن هناك رسالة تستحق أن تُتَرك، "أنا آسف" لم يستطع أن يخفي ذلك، رفع السماعة واتصل، وكان صوتها مرة أخرى، مرارا وتكرارا.
 
بعد وقت طويل، جاء ستان وقال بهدوء: "لن يطول الأمر الآن، إنهم على أهبة الاستعداد"، أومأ وانتظر الواقع ليصله بما سيكون الضربة المميتة، لم يكن مهتما بأن يمسح وجهه رغم أنه كان مبتلا. استمر في الاتصال برقم كلاريسا، وكأن التليفون يملك قوى سحرية، وكأنه لوح ويجا سيصله بالموتى.
 
بعد ذلك، كان هناك صوت غير متوقع، أحدهم رفع السماعة على الجانب الآخر، "نعم؟" قال، كان الصوت مهتزا.
 
"أبي؟" قال صوت ظفر، "ما الذي يحدث يا أبي؟ هناك شرطي على الباب ويقول إن هناك 15 آخرين في طريقهم". استولى عليه الارتياح وربط لسانه للحظة، "أبي، هل أنت هناك؟"
 
قال: "نعم، أنا هنا، هل أمك بخير؟ أين كنتما؟"
 
لقد كانا في عرض مسرحي بالمدرسة استمر لوقت متأخر، وصلت كلاريسا إلى التليفون واعتذرت، "أنا آسفة، كان عليّ أن أترك لك رسالة، ولكني فقط نسيت، أنا آسفة".
 
سأل: "ولكن ماذا عن الباب؟ لماذا كان الباب الأمامي مفتوحا وكل الأنوار مضاءة؟".
 
كان ظفر على التليفون مرة أخرى: "لم يكن الأمر كذلك يا أبي". قال: "نحن فقط عدنا وفتحنا الباب وأضئنا الأنوار ثم جاء الشرطي".
 
قال ستان: "يبدو أن هناك خطأ مؤسفا، السيارة التي بُعثَت ذهبت إلى منزل خاطيء".
***
تم تفجير المكتبات؛ كوليتز وديلونز في لندن، آبي في سيدني، المكتبات العامة رفضت وضع الكتاب عندها، سلاسل مكتبات البيع رفضت عرضها، دستة من المطابع في فرنسا رفضت طبع النسخة الفرنسية، وتهديدات أخرى ظهرت ضد الناشرين. بدأ المسلمون يُقتَلون بواسطة مسلمين آخرين لو لم يعبروا عن آراء غير دموية؛ في بلجيكا، المُلّا الذي يقال عنه "القائد الروحي" لمسلمي البلد، عبد الله الأهدل ونائبه التونسي سالم البحير، قُتِلا لأنهما قالا ذلك؛ بغض النظر عما يقوله الخميني للاستهلاك الإيراني، ففي أوروبا هناك حرية تعبير.
 
كتب في يومياته: "أنا مكمم ومسجون، أنا لا أستطيع حتى التحدث، أريد أن أركل كرة قدم في حديقة مع ابني، الحياة اليومية العادية هي حلمي المستحيل". الأصدقاء الذين رأوه في هذه الأيام صُدِموا من تدهوره الجسدي، زيادة وزنه، لحيته التي تركها تنمو لتصبح كتلة قبيحة منتفخة، حالته الكئيبة، كان يبدو كرجل تعرض للضرب.
 
في فترة قصيرة جدا أصبح معجبا بشدة بمن يحمونه، هو قدّر طريقتهم في محاولة أن يكونوا مرحين ومتفائلين ليرفعوا من معنوياته، ومحاولتهم لأن لا يلفتوا الانتباه، كانوا يعرفون أنه من الصعب على "العملاء" أن يجدوا ضباط بوليس في المطبخ، تاركين العجين مخلوطا، حاولوا بجد وبدون ضغينة أن يتركوا له مساحة بقدر استطاعتهم،  وفهم سريعا أن معظمهم وجد قيود هذه الحماية كشيء أصعب - بشكل ما - مما يجدها هو؛ كانوا رجال أفعال، احتياجاتهم معاكسة لاحتياجات روائي ساكن يحاول أن يتمسك بما تبقى في حياته الداخلية، عالم الذهن. كان يستطيع أن يظل ساكنا ويفكر في غرفته لساعات ويبقى راضيا، هم كانوا يجنون لو ظلوا بالداخل لأي فترة من الوقت، من جهة أخرى كان بإمكانهم أن يعودوا لبيوتهم بعد أسبوعين ويحصلوا على إجازة، الكثير منهم قالوا له مع مراعاة الاحترام: "نحن لا نستطيع أن نفعل ما تفعله". هذا الأمر جعلهم يكسبون تعاطفه.
 
في الشهور والسنوات التالية، تجاوزوا القواعد أحيانا ليساعدوه، في الوقت الذي كانوا ممنوعين فيه من أن يصطحبوه إلى أي مكان عام، اصطحبوه إلى السينما، يُدخِلونه بعد انطفاء الإضاءة، ويُخرِجونه قبل أن تنير مرة أخرى، وقاموا بقدر استطاعتهم بمساعدته في دوره كأب، اصطحبوه هو وظفر لملاعب البوليس الرياضية وشكلا فريقي رجبي مرتجلين حتى يكون باستطاعته أن يجري معهم ويمرر الكرة، في الإجازات رتبوا أحيانا زيارات لمدن الملاهي. في يوم ما، في إحدى الملاهي، رأي ظفر دمية قطنية تُقدًّم كهدية في عرض الرماية وقرر أنه يريدها، أحد ضباط الحماية المعروف بجاك البدين سمعه: "أنت معجب بها، أليس كذلك؟" قال وزم شفتيه: "هممم، هممم"، دخل الكشك ووضع نقوده، عامل العرض أعطاه المسدس المعتاد بعدسة مشوهة، قال: "هممم، هممم"، فحص السلاح: "حسنا إذن"، بدأ في الإطلاق: بوم بوم بوم بوم، تساقطت الأهداف الواحد بعد الآخر، بينما ينظر له عامل العرض بفم مفتوح يظهر أسنانه الذهبية، قال جاك البدين: "نعم، هذا يقوم بعمل رائع"، وضع السلاح جانبا وأشار إلى الدمية، "سنأخذ هذه، شكرا لك".
 
لم يكونوا كاملين، كانت لهم أخطاؤهم، كان هناك الوقت الذي أخذوه فيه لمنزل صديقه حنيف قريشي، في نهاية المساء كان على وشك أن يرحل معهم قبل أن يجري حنيف في الشارع ملوحا فوق رأسه بمسدس ضخم في جرابه الجلدي، صارخا بمرح: "أوه، انتظر لدقيقة، لقد نسيت مسدسك". ولكنهم كانوا فخورين بعملهم، العديد منهم قالوا له بنفس الكلمات: "نحن لم نفقد أحدا مطلقا، الأمريكان لا يستطيعون قول هذا"، كانوا يكرهون الطريقة الأمريكية في التعامل مع الأمور، قالوا: "هم معتادون على إلقاء الأجساد أمام المشاكل"، هذا الذي يعني أن تعامل الأمريكان يكون دوما بأعداد كبيرة، العشرات أو أكثر، كل مرة يزور شخص أمريكي مهم المملكة المتحدة، تتجادل قوات أمن البلدين بنفس الطريقة عن منهجيهما، يقولون: "نستطيع أن نصطحب الملكة في سيارة فورد كورتينا عادية في شارع أوكسفورد وقت الذروة ولن يلحظ أحد مرورها، مع الأمريكان هناك دائما الصخب والتفاهات، ولكنهم فقدوا رئيسا، أليس كذلك، وكادوا يفقدون آخر".
***
كان بحاجة إلى اسم، هكذا أخبره البوليس في ويلز، اسمه الأصلي كان بلا فائدة؛ كان اسما لا يمكن أن يُنطق، كاسم فولدمورت في روايات هاري بوتر التي لم تكن قد كُتِبَت بعد، لن يستطيع أن يستأجر منزلا به، أو يتقدم للتصويت، لأن التقدم للتصويت يحتاج تقديم عنوان للمنزل، وبالطبع هذا مستحيل. ليحمي حقه الديمقراطي في حرية التعبير عليه أن يتنازل عن حقه الديمقراطي في اختيار حكومته.
 
يحتاج أن يختار اسما جديدا "سريعا جدا"، ثم عليه أن يتحدث إلى مدير بنكه ويطلب من البنك أن يقبل الشيكات الموقعة بالاسم الزائف، ليكون بإمكانه أن يدفع مقابل الأشياء بدون أن يتم اكتشافه. الاسم الجديد أيضا مفيد لمن يحمونه، إنهم بحاجة لأن يعتادوا عليه، أن ينادونه به طوال الوقت، عندما يكونون معه أو لا يكونون، حتى لا يدعوا اسمه يفلت مصادفة عندما يتنزهون أو يجرون أو يذهبون إلى الجيم أو السوبر ماركت ويكشفونه.
 
فريق الحماية كان لديه اسم: "عمليات الملكيت"، هو لم يعرف لم أُعطِي الفريق اسم حجر كريم أخضر، وهم أيضا لا يعرفون، لم يكونوا كُتَابا، ومسألة الأسماء لم تكن مهمة بالنسبة لهم، ولكن الآن فهذا دوره ليعيد تسمية نفسه.
 
قال ستان: "ربما عليك ألا تختار اسما أسيويا، فالناس يخمنون مثل هذه الأشياء أحيانا". إذن فعليه أن يتخلى عن عِرْقه أيضا، سيكون رجلا غير مرئي بوجه أبيض.
فكر في الكُتّاب الذين يحبهم وحاول أن يصنع تركيبات من أسمائهم؛ فلاديمير جويس، مارسيل بيكيت، فرانز ستيرن، صنع قوائم بهذه التركيبات ولكن كلها بدت حمقاء، حتى وجد اسما ليس كذلك، كتبه، الاسمان الأولان لكونراد وتشيكوف جنبا إلى جنب، ها هو ذا، اسمه للإحدى عشر عاما القادمة: جوزيف آنطون.
 
قال ستان: "يبدو اسما مرحا، لن تمانع إن ناديناك جو". في الحقيقة كان يمانع، قريبا سيكتشف أنه يزدري الاختصار، لأسباب لا يفهمها تماما، ولكن في النهاية لِم جو أسوأ كثيرا من جوزيف؟ هو لم يكن الإثنين، الإثنين بالنسبة له إما مصطنعين بشكل متساو أو مناسبين بشكل متساو. ولكن جو ضايقه تقريبا من البداية، مع هذا، فهذا الاسم ذو المقطع الواحد هو ما وجده فريق الحماية الأسهل في التعامل والتذكر، إذن فقد أصبح جو.
 
لقد قضى حياته يسمي شخصيات خيالية، الآن عن طريق تسمية نفسه أصبح هو أيضا نوع من الشخصية الخيالية، كونراد تشيكوف لم يكن لينفع، ولكن جوزيف آنطون هو اسم لشخص ممكن الوجود، مَن الموجود الآن؟. كونراد، الخالق متعدد اللغات لشخصيات الجوالين والمرتحلين نحو قلب الظلمات والعملاء السريين في عالم القتلة والقنابل والجبان الوحيد – على الأقل - الذي لا يموت ويتخفى من عاره[9]، وتشيكوف أستاذ الوحدة والكآبة وجمال العالم القديم الذي تهدم - كالأشجار في بستان الكرز - عن طريق وحشية العالم الجديد، تشيكوف الذي اعتقدت "شقيقاته الثلاث" أن الحياة الحقيقية في مكان آخر ورغبن دوما أن يذهبن إلى موسكو التي لا يستطعن[10] العودة إليها: هذان صارا أبويه الروحيين الآن، كان كونراد هو الذي أعطاه الشعار الذي تمسك به، كأنه جملة حياته في السنوات الطويلة التي تلت؛ ففي الكتاب ذو العنوان غير المقبول الآن: "زنجي السفينة نرسيس" البطل، البحار جيمس ويت، الذي أصيب بالسل أثناء رحلة بحرية طويلة، سؤل عن طريق بحار آخر لِم قام بالرحلة وهو يعرف أنه معتل، أجاب ويت: "عليّ أن أعيش إلى أن أموت، أليس كذلك؟"
 
في الظروف الحالية، بدا السؤال كأمر، قال لنفسه: "جوزيف أنطون، عليك أن تعيش إلى أن تموت".


[1]Special Branch وهو فرع أمني ببريطانيا يختص بالشئون المتعلقة بالأمن على مستوى الدولة.
[2]Double-O Elite يحيل رشدي إلى روايات إيان فليمينج كاتب السلسلة الشهيرة "جيمس بوند"، وفيها تحمل شخصية بوند وأقرانه من العملاء السريين المتميزين رمز رقمي يبدأ بصفرين.
[3]Cotswolds مجموعة تلال في جنوب ووسط غرب إنجلترا.
[4] تلاعب بالألفاظ بما يعني "الشخص الذي فقد سيارته".
[5]Safe House في الثقافة الغربية يعبر هذا المصطلح عن مجموعة البيوت غير المعروفة التي تقع تحت سيطرة الشرطة وأجهزة الأمن والمخابرات لتحافظ فيها على الرجال الذين يمكن أن يتعرضوا للإيذاء.
[6] من المعروف أن لقب "آية الله" من أسمى الألقاب التي تطلق على رجال الدين الشيعة.
[7] كلها أماكن بويلز واسم الكوخ باللغة الويلزية.
[8] أوبراين وونستون الذي سيذكر اسمه هما شخصيتان من رواية "1984" للإنجليزي جورج أورويل.
[9] يشير رشدي إلى روايتي كونراد "قلب الظلمات" و"العميل السري"
[10] يشير رشدي إلى مسرحيتي تشيكوف "بستان الكرز" و"الشقيقات الثلاث"