السياقات الثقافية والفكرية لصمويل بيكيت

 هذه هى ترجمة الفصل الثاني من كتاب رونان مكدونالد (مقدمة كامبريدج لصمويل بيكيت - The Cambridge Introduction to Samuel Beckett) الصادر عام 2006

 ترجمة: أمير زكى

* رونان مكدونالد محاضر اللغة الإنجليزية بجامعة ريدينج ومدير سابق لمؤسسة بيكيت الدولية.

لقراءة الفصل الأول هنا

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه

***

المشكلة في محاولة وضع بيكيت ضمن أي تقليد قومي أو ثقافي هو كونه أنكر تلك العلاقات في شبابه، وتحت كل الظروف. هو كان يزدري الفن الذي يعلق نفسه بـ"الحوادث المحلية" أو "الماهيات المحدودة"، ويعتقد بدلا من ذلك أن موضوع الفن الحقيقي هو "المأزق اللا موضوعي للوجود". خذ عندك مثلا علاقته بأيرلندا. أسماء شخصياته – مورفي، مولوي، مالون – ولهجتهم في الحديث فيها التواء أيرلندي، بينما طبوغرافيا طفولة بيكيت تسيطر على أعماله، إلا أنه كتب معظم أعماله الرئيسية بالفرنسية، قبل أن يترجمها، وقضى معظم حياته بالخارج. بالإضافة إلى ذلك، وكما تؤكد أعماله النقدية المبكرة امتعاضه من الفن المُسيّس فهو ازدرى بشكل كبير القومية الثقافية. هو تأثر بوضوح بأسلافه الأيرلنديين مثل سويفت وييتس وخاصة سينج، ولكن لم يكن لديه وقت كبير لمشروع الإحياء الأيرلندي الذي سيطر على الحياة الثقافية في مدينته الأم حين كان يعيش هناك. في مقالته "الشعر الأيرلندي الحديث" (1934) انتقد "حافظي التحف" الذين يحافظون على الروح الإحيائية عن طريق الكتابة عن الأساطير والقصص الأيرلندية. الفن عند بيكيت لم يكن متعلقا بالزمن، هذا الذي يتضاد تماما مع السياسة والقومية. هو كان يحتفي برسوم جاك ب. ييتس (أخو الشاعر وأحد أبطال بيكيت) بسبب "الغرابة الكاملة وكأنها تقاوم المزج التقليدي للتراث المقدس، قومي أو غيره". بيكيت بدأ في مقاومة المزج المتعلق بأي سياق ثقافي أو تراث مقدس.
ومع ذلك فهو اختار دوما أن يحمل جواز سفر أيرلنديا. عندما سأله صحفي أيرلندي إن كان إنجليزيا، رد ببساطة: "على العكس". من الواضح أنه من غير الممكن أن يتقيد ببساطة بتقليد قومي أو أدبي واحد. هو ليس شيئا على وجه الخصوص – ليس كاتبا "أيرلنديا" فحسب، ولا هو "فرنسي" فحسب، هو ليس حداثيا فحسب، ولا ما بعد حداثي فحسب. "الخطر يكمن في أناقة التعريفات"، هكذا يبدأ بيكيت مقاله عن كتاب جويس "عمل قيد التحقيق". إنه تحذير يوضع جيدا في الاعتبار حين نحاول قراءة عمله، ولكنه ينطبق أيضا على طرحه من أي تقليد أدبي أو فكري محدد. مثله مثل أي كاتب كبير، هو مقاوم للتصنيف. عندما نناقش علاقة بيكيت بأيرلندا علينا أن ننظر إلى العلاقات وليس الانغماسات، والاستخدامات وليس التطابقات. بيكيت تزود من العديد من الآداب القومية – الأيرلندية، الفرنسية، وحتى الألمانية. والواحدة منها لا تستبعد الأخرى. إنه من السذاجة وضيق الأفق أن نضع المتروبوليتاني في مواجهة القومي، كأن الكاتب بإمكانه فقط الانتماء لواحد دون الآخر. جويس نجح في مزج الإثنين وكذلك بيكيت. ولكن على الرغم من مقاومة بيكيت للحوادث والماهيات "المحلية" إلا أن الوريد الأيرلندي في عمله يمتد بعمق، حتى لو لم يكن مرئيا على السطح.
ليس فقط جنسيته، ولكن أيضا طبقته وطائفته داخل المجتمع الأيرلندي يمكنهما أن تكونا قد أثرتا بشكل كبير في تطوره الفكري والجمالي. كما ناقشت في الفصل الأول فالعزلة السياسية التي تربي فيها بيكيت وسط الطبقة المتوسطة البروتستانتية التي تعيش في الضواحي جعلته بشكل ما يميل لازدراء الالتزام الاجتماعي والفن القومي، كما أظهر في ألمانيا في الثلاثينيات امتعاضه من شكاوي بعض زملائه الفنانين من الاضطهاد الفاشستي. وكأنه ليس السياق السياسي فقط بل الاجتماعي ككل منفصل عن الإبداع الفني، الذي يتعامل مع مستوى أعلى وعابر للتاريخ.
يبدو أن وعيه السياسي تحول مع الحرب وما بعده، إذ فقد صوته السردي نغمته المتعالية والمتهكمة. "مولوى والكتابات الأخرى جاءوا إلى ذهنى عندما أصبحت واعيا بحمقى، عندها فقط بدأت أكتب عما أشعر به"[1]. في عمله فيما بعد الحرب، وعلى الرغم من أنه أصبح أقل اتصالا بالعالم المعروف، إلا أن المرء يستطيع أن يقول، للمفارقة، أنه أصبح سياسيا أكثر، ومتشكلا أكثر بعلاقات القوة المستغلة، والأوامر التى تصدر من فوق، والسرية والغموض وأوصاف العذاب البشري المحض. بيكيت كانت لديه حساسية شديدة وغير شائعة للوعي بعذابات الكائنات الحساسة، ومن ضمنها الحيوانات. حتى في طفولته كانت تصدمه مشاهد القسوة، تلك التي كانت تسيطر عليه لسنوات بعد ذلك. ولكن فقط لأنه في السنوات الشابة، وجزئيا بسبب تربيته المنعزلة، فهذه النزعة لم تجد لنفسها تعبيرا بالمصطلحات السياسية. ودافعه الأول للاشتراك في المقاومة الفرنسية يبدو أنه كان شخصيا. هو ارتعب من اضطهاد اليهود، ومن ضمنهم أصدقاء له، من قبل القوات النازية التي كانت تحتل باريس. ربما تكون هذه لحظة حاسمة في معرفته أنه حتى لو كانت المعاناة الإنسانية لا يمكن تجنبها، لأنها ببساطة نتيجة لكوننا نعيش، فبالتالي سيكون من غير المسموح بشكل أكبر أن يعذب الناس أناسا آخرون أو يظلمونهم أو يذلونهم. هو بدأ في تنمية ما يمكن أن نطلق عليه حسا سياسيا. رعبه من الظلم، وخاصة التعذيب، أظهر نفسه في حياته اللاحقة في رفضه للوحشية الفرنسية في الجزائر، والنظام العنصري في جنوب أفريقيا (رفض أن يسمح بعرض مسرحياته في المسارح التي تشترط التمييز) والإساءات لحقوق الإنسان خلف الستار الحديدي.
ومع ذلك فهناك تيار يستقبل بيكيت ويراه ليس فقط غير سياسي، ولكنه فريد ومستقل، يقف خارج كل التصنيفات الممكنة وكأنه يعمل في الفراغ. هذا جزئيا يتعلق بقوة أصالة بيكيت، عبقريته في السيطرة، وصناعة شكله الأدبي الخاص به والذي عمل عليه. المشاهد المسرحية العارية، الصور المقفرة، التعامل الظاهر مع الأحوال المبدئية والأولية للخبرة، كلها تدعم الانطباع عن كاتب في عزلة عن اللحظة التاريخية. فمع كل الإصرار الموجود قبل الحرب على الملائمة العالمية وغير الموضوعية للفن، من أجل المميزات المجتثة والتي بلا جذور في عمله، فمن غير المرغوب فيه والمستحيل، لحسن الحظ، بالنسبة للكاتب بأن يفصل نفسه تماما عن سياقه إلى هذا الحد. نقتبس من الفيلسوف شوبنهاور عن دانتي: "مم جاء دانتي بمضمون جحيمه، إن لم يكن من عالمنا الحقيقي؟"[2]. عمل بيكيت غزير بانغماسه المكثف في التشاؤم والمعاناة الإنسانية، ومع ذلك بالجمال الكئيب، والكوميديا المظلمة اللاذعة. هل يعتقد أي أحد فعلا أنه من غير الملائم أو من المصادف أن بيكيت عاش خلال (وفي الحقيقة فحياته متزامنة مع..) أكثر القرون ظلاما ووحشية في التاريخ المعروف؟ حربان عالميتان، فظائع ستالين، هولوكوست هيتلر، قفزة ماو العظيمة الكارثية، الحروب الاستعمارية الوحشية في أفريقيا، والتهديد الممتد بالإبادة الذرية أثناء الحرب الباردة، من المؤكد أن هذه الأشياء تسللت إلى العقل المُستقبل بمستوى ما. كلها ولدت بالتأكيد مناخا مؤثرا داخل أخلاقيات ومظهر الثقافة الغربية ككل، التي لا يمكن أن تكون غير مؤثرة على مخيلة خلاقة لفنان متابع.
مراهقة بيكيت في أيرلندا تزامنت مع الحرب الأنجلو – أيرلندية التي تبعت بالحرب الأهلية الأيرلندية. زار ألمانيا أثناء حكم النظام الفاشي، وكما يظهر فهو اشترك في الكفاح ضد السيطرة النازية على باريس. هذه الأشياء ربما لم يحدث وظهرت على سطح أعمال بيكيت، ولكن أثر ما بعد الصدمة الذي انتشر في قيم وعقائد ومواقف المجتمعات التي عاش فيها والفكر تغلغل وإلى حد ما شكّل عقليته الخلاقة.
دمار ويأس القرن العشرين يمكن استشعارهما في حركات فلسفية وأدبية متشائمة عموما، كالوجودية وأدب العبث الذي رسخ في أوروبا في الأربعينيات والخمسينيات، والذي يتم ضم بيكيت له (على الرغم من أن هذا لا يتم دوما بشكل صحيح). الوجودية تظهر بالعديد من الأقنعة، وربما أكثر من أي حركة فلسفية أخرى، فهي لها صورة شعبية ومبسطة وأحيانا كاريكاتورية. المصطلح عموما يُستخدم للإحالة إلى الحركة الفلسفية المتعلقة بعدد من مفكري ما بعد الحرب الفرنسيين، أساسا جان-بول سارتر وألبير كامو اللذان وضعا الفرد أو الذات كمحور البحث، ورأياها كأساس لفهم طبيعة الوجود الإنساني. المصطلح اشتُق كمضاد لـ"الماهوية". كما يشتهر عند سارتر فالوجود يسبق الماهية، فلا يوجد مخطط لما نحن عليه أو عن كيف نسلك، ولا سلطة من الله أو أي حقيقة موضوعية تصادق على وجودنا. الذات وحيدة تماما. أولوية الفرد والاختيار الفردي على حساب كل الأنظمة الحتمية المتعلقة بالتحكم الاجتماعي أو البيولوجي تقودنا إلى التأكيد القوي على مبدأ الحرية الفردية. حريتنا لا مهرب منها، وهي جزء جوهري من وحدتنا واغترابنا. من المغري أن ننكرها، أن نتخلص من واقع فعلنا الكامل لدور خارجي (كوات في منزل السيد نوت)[i] أو نظام وهمي لغرض أو إيمان (في انتظار جودو حتى يأتي). ولكن هذه هي خطيئة "الخداع الذاتي" وفشل في تبني وعي أصيل ملائم لحريتنا في الاختيار.
هناك تشابهات محددة بين بعض مباديء الوجودية وبين أعمال بيكيت – مسرحيته "إليثوريا" (اللفظ اليوناني لكلمة "حرية") على وجه الخصوص، تحمل بعض التوازيات المثيرة للاهتمام – ولكن من الصعب أن نكون متأكدين كم من هذه التوازيات مضت مع بيكيت إلى نتائج متشابهة خلال طريق مختلف وكم هي المناسبات المعتمدة على نفس التأثرات. الاهتمام المهووس بالأنظمة والحتمية فى العديد من كتابات بيكيت، والفكرة المتكررة، التي يضعها هام في "لعبة النهاية" بأن "هناك شيء يمضي في مداره" يضرب الرفض الوجودي للبناء أو التحكم خارج الوعي الإنساني. إنه ليس من المفاجئ قوله لجيمس نولسون، في حوار حول الوجودية أنه منجذب عقليا أكثر إلى الفكرة الحتمية التي ترى أننا محبوسين في جيناتنا، أو عن طريق تربيتنا، أو عن طريق الظروف الاجتماعية أكثر من الفكرة الوجودية عن الحرية المطلقة[3].
هناك ميل آخر لعلاقة بين الوجودية وبين اعتقادات بيكيت، وهي فكرة "العبث" على الرغم من أن الحذر واجب هنا أيضا. بدون أي أساس، أو أي سبب لوجودنا في العالم، فهناك تيار محدد للفكر الوجودي يرى أن الحياة عبثية، مضطربة، وبلا معنى. نحن نوجد صدفة في العالم، ولا توجد خطة أو هدف لحيواتنا، والسؤال الكبير، الذي سأله ألبير كامو في "أسطورة سيزيف" (1942) هو إن كان سنقدم على الانتحار (ومن الملحوظ أنه ميل كبير في "في انتظار جودو") تصنيف "أدب العبث" تم صياغته عن طريق مارتن إسلن[ii]ليدل على مجموعة الكتاب المسرحيين الذين يقدمون تعبيرا فنيا لمعتقد العبث الذي شرحه كامو؛ وهو الإحساس بأن الوجود الإنساني تافه وبلا معنى. الكتاب المسرحيون الآخرون الذين يتم ضمهم إلى هذا المخطط منهم يوجين يونسكو، جان جينيه، آرثر آداموف. وجهة النظر العبثية عامة ما يتم إظهارها في الشكل كما في مضمون المسرحيات، وهي من أجل خلق الأحوال الكابوسية تميل إلى تجاهل البناء المنطقي، وتتخلص من الهوية الشخصية والعلاقات المفهومة بين العلة والمعلول.
بيكيت نفسه ولأسباب قوية، رفض تماما أي علاقة له بمسرح العبث، أو بشكل أخص بالافتراضات التي بُني عليها هذا التجميع النقدي، فبالنسبة له فالمصطلح "حُكمي" للغاية، ومتشاءم للغاية:
"أنا لم أقبل أبدا بفكرة مسرح العبث، هذا المبدأ الذي يتضمن حكم قيمي، إنه ليس من الممكن حتى أن تتكلم عن حقيقة، هذا جزء من المعاناة"[4].
مقاومة بيكيت هنا هي جزء من ابتعاده عن الفلسفة والعقلانية، إلى حالة أكثر ارتباكا وتواضعا معرفيا. هو رفض تشاؤم بروست الحاسم، من أجل نظرة مضطربة ومتألمة للعالم، تلك النظرة التي يمكن إظهارها من خلال التعبير الفني أكثر من "التأكيد الوجودي":
"المرء لا يستطيع أن يتحدث مجددا عن الوجود، المرء عليه فقط أن يتحدث عن الفوضى. عندما يتحدث هايدجر وسارتر عن الفرق بين الوجود والكينونة ربما يكونان على حق، أنا لا أعرف، فلغتهما فلسفية جدا بالنسبة لى"[5].
حقيقي أن بيكيت لم يتدرب كفيلسوف محترف ولكن بداية من انغماسه بعمق خلال التقليد الفلسفي مِمَن قبل السقراطيين ومَن بعدهم، وبداية من أن أعماله، خاصة أعماله المبكرة، مكتظة بالدلالات الفلسفية، فهناك شيء ماكر قليلا في إنكاره. إنه بالأحرى دلالة على عداوته للغة الاستنتاج والفلسفة فيما بعد الحرب، والتي نتذكرها في سخريته في "تفكير" لاكي بـ"في انتظار جودو". عداء بيكيت اللاحق للفلسفة هو مثل عداء المدخن السابق للتدخين، الممتلئ بأثر انغماسه الأول فيه.
مهما كانت الشكوك في علاقة بيكيت بالوجودية وتشاؤم ما بعد الحرب، ومهما كان القلق الذي يضعه في هذا السياق الفلسفي، فمن المهم أن نلاحظ أن المناخ الذي تخصبت فيه هذه التعبيرات والفلسفات المتشائمة، حيث تجذرت فكرة العبث، كانت مهيأة لاستقبال أعماله. إن كانت روح عصر ما بعد الحرب غير مهيأة لاستقبال تعبيرات العبث، فهل كانت ستصل "في انتظار جودو" إلى هذا النجاح؟
بيكيت كان مخترعا ومُجرّبا عظيما في أي شيء استخدمه. هذا أحد الأسباب التي جعلته يوصف على أنه "الحداثي الأخير". نداء عزرا باوند الشهير "إجعله جديدا" يعتبر واحدا من النداءات المشجعة في الحركة الحداثية. الحداثة هو مصطلح ينطبق بأثر رجعي على مجموعة كبيرة من التيارات التجريبية والطليعية في الأدب والفنون الأخرى مع بداية القرن العشرين، وهي تضم الرمزية، والدادية، والدورانية، والشكلانية، والتعبيرية، والمستقبلية ومدارس أخرى كثيرة على العد. من الخطير تحديد عناصر مشتركة بين العديد من المذاهب الفنية المختلفة، ولكن خلال التيارات المتنوعة، فالحداثة تميل لمشاركة وعي كثيف عن العالم المعاصر، بدقة كشيء "حديث"، وهو حس غيّر السياقات الثقافية والاجتماعية والعقلية التي تتطلب أشكالا فنية وأدبية جديدة. واقعية القرن التاسع عشر اعتبرت غير قادرة وغير ملائمة على التعبير عن أحوال الحداثة. بيكيت يشير في "بروست" إلى "الخطأ المنفر في الفن الواقعي" – "التعبير البائس للجملة والسطح"، والسوقية الرخيصة لأدب الترميز. الكتاب الحداثيون يميلون لأن يروا أنفسهم كطليعيين، منفصلين عن القيم البرجوازية، ويزعجون قراءهم عن طرق تبني أشكال وأساليب صعبة ومعقدة. في "الشعر الأيرلندي الحديث" بيكيت يقسّم الشعراء ضمن مَن يُظهرون وعيا بـ"الأشياء الجديدة التي حدثت"، أي "الصدع في تعبيرات التواصل". وبين هؤلاء المتأخرين والتراثيين الذين "يحلقون بعيدا عن الوعي". كلا من الحس واللهجة يظهران صفات الموقف الحداثي. هذا ليس مفاجئا، طالما أن مرحلة مهمة من نشأة بيكيت الفنية تمت في باريس في دائرة جويس. أكثر روائيين أثرا على بيكيت هما بروست وجويس. "يوليسيس" جويس تعتبر مثالا بارز على الرواية الحداثية، بتجريبها المجهد وأساليبها الأدبية والنظرية، وبحركتها الأسطورية وإحالاتها الكثيفة. "يقظة فينيجان" والتي ساعد فيها بيكيت عمليا جويس ذو العينين الضعيفتين أثناء كتابتها، كانت أكثر مراوغة وصعوبة. بيكيت ذو الثلاثة وعشرين عاما كتب مقالا يدافع فيه عن الرواية ويسجل إعجابه بالانصهار بين الشكل والمضمون ويعلن: "وإذا لم تفهموها سيداتي وآنساتي، فهذا لأنكم متدهورين جدا على فهمها". 
المقال نشر أول مرة في مجلة "ترانزيشن" وهي مجلة أدبية طليعية عنوانها الفرعي "فصلية عالمية عن التجريب الخلاق"، وهي أصبحت منبرا للأدب والفن المضادين للبرجوازية. بالإضافة إلى مقاله عن "عمل قيد التحقق" نشر بيكيت أيضا قصته القصيرة الأولى "افتراض" في هذا العدد[6]. من الصعب أن تكون هناك انطلاقة حداثية أكثر صراحة من هذه في مهنة الأدب. النثر والشعر الذي بدأ في نشره في الثلاثينيات استمر في استخدام العديد من الأساليب المضادة للواقعية وغالبا ما تتجنب تسلسل الأحداث وتتباهى بمميزاتها السردية ومثلها مثل العديد من الأدب الحداثي تظهر ثقافتها للعيان. 
لم يعد موجودا في الظل، ولم يوجد ظل في القرن العشرين أكبر من ذلك الذي ألقاه جويس. العديد من المقلدين والتلاميذ ذووا بتأثيره. بيكيت كان واعيا بهذا الخطر (الذي لاحظه في روايته الأولى "حلم جميل لنساء عاديات"، بقوله إنها "نتانة جويس") وواجه ذلك أولا وفي أعماله المبكرة من خلال السخرية. كما رأينا بالفعل في الفصل الأول، فهو وجد حل أكثر ثباتا عن طريق الانتقال تحديدا إلى الجهة المضادة، بعيدا عن العلم والقدرة الكليين إلى فن العجز والجهل، متخلصا من إحالات ضمير الغائب العارف والصوت السردي نحو سرد لضمير متكلم أكثر باطنية وانفعالية. 
الرغبة في التخلي يمكن استشعارها في مسرحياته، وهي من البداية (إذا استثنينا فريق العمل الكبير في إليوثيريا) تبنت بناءا مسرحيا محدودا وغير مزخرف. ولكن ليس فقط أدوات المسرح وفريق العمل تلك التي أهملها بيكيت، وإنما هجر أيضا أعراف الكتابة المسرحية، فكرة أن المسرحية يجب أن يكون لها بداية ووسط ونهاية، فكرة أن الشخصيات يجب أن تكون متماسكة ومقنعة، افتراض أن الفعل والحبكة ضروريان لخلق الطاقة الدرامية. في العالم المتكلم بالإنجليزية، "الصعوبة" والتجريب الحداثيين لم يؤثرا على الدراما بنفس قدر الشعر والرواية، ومن أسباب ذلك أن المسرح لديه متطلباته التجارية الإضافية. هناك عبء أكبر على المسرح ليلائم الذائقة والتوقع العامين، ليقدم ليلة مسلية وترفيهية. المسرح الشعبي، وقبل قدوم السينما والتلفزيون، كان يميل لتقديم الميلودرامات والكوميديات الخفيف. حتى زميل بيكيت بمدرسة بورتورا أوسكار وايلد، وعلى الرغم من أن مسرحياته المعقدة والتي تناسب أكثر من مستوى تخفي أفكارا مخلخلة عن تناقض الهوية، إلا أنه اختار شكلا تقليديا من كوميديا غرف المعيشة، الفودفيل ومسرح المنوعات، مع عروض متنوعة للغناء والرقص والمشاهد الفكاهية التي تتضمن غالبا ثنائيا كوميديا – أسلاف كلا من لوريل وهاردي وفلاديمير وإستراجون – كانت هي التسلية الشائعة. مؤسسا الدراما الأوروبية الأدبية الجادة واللذان قدما رؤى اجتماعية ونفسية كانا النرويجي هنريك إبسن (1828-1906) والروسي أنطون تشيكوف (1860-1904). وإبسن كان له تأثيرا كبيرا على جورج برنارد شو (1856-1950)، عملاق المسرح البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين.
بيكيت بالتأكيد ليس أول كاتب مسرحي يشق التقاليد الواقعية أو يلقي الضوء على الطبيعة الخيالية للمسرح. مبكرا في العشرينيات لويجي بيرانديللو كان يكتب مسرحيات تتجنب سهولة الوهم أو الرغبة في إيقاف عدم الإيمان، مع اللحظة التي يشارك فيها المتفرجون المفترضون في الفعل بتقدمهم نحو المسرح، هذا الأسلوب الذي استخدمه بيكيت في "إليوثيريا". الكاتب المسرحي الماركسي برتولت بريخت (1898 – 1956) مسرحياته اللا واقعية الكثيفة كان لها وجهة نظر سياسية في تقويض أي تحديد بين الجمهور والشخصيات واتجه بدلا من ذلك إلى تأثير الاغتراب الذي سيعلي من الوعي التاريخي وسينتقد التشييء الرأسمالي. بريخت كان واحدا من أبرز الكتاب المسرحيين في عصره ولكن اهتمامه بالسياسة كان بالتأكيد تعليمى جدا وسياسي جدا بالنسبة لبيكيت. بإمكان المرء أن يتخيل عدم رضاه إن كان بريخت قد نجح في طموحه قبل أن يموت بأن يكتب مسرحية مضادة لـ "في انتظار جودو" وفيها كانت ستصلح العلاقة بين بوتسو ولاكي وفقا للنظرة الماركسية للتاريخ[7].
مدى قراءة بيكيت كان واسعا، تشبعه بالفلسفة والدب والدراما والفن والموسيقى الأوروبيين كبير جدا على التلخيص. هو قرأ بشكل في واسع في أربع لغات على الأقل، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية. أي قائمة بتأثراته ستتضمن راسين، موليير، سويفت، صمويل جونسون (وعنه، وقبل سنوات الشهرة، كتب مسرحية غير مكتملة بعنوان "الأماني الإنسانية")، جوته، سينج، بروست، وجويس. وربما علينا أن نذكر بشكل خاص دانتي أليجيرى (1265-1321)، وهو الكاتب الإيطالي لـ"الكوميديا الإلهية" ويمكن القول إنه مصدر إعجاب ممتد من قبل بيكيت. بطل "نخسات أكثر منها رفسات" بيلاكوا شوا، تمت تسميته على اسم الشخصية الكسلانة في "مطهر" دانتي. خلال أعماله ستجد صور ملحوظة يعاد استخدامها من المعاناة مستمدة من عمل دانتي الأبرز. يناسب ذلك أن نسخة بيكيت الدراسية من "الكوميديا الإلهية" ستكون بجانب السرير الذي سيموت عليه في ديسمبر 1989.
هو قرأ الكثير من الفلسفة في بداية الثلاثينيات، وهذا يتضمن من قبل السقراطيين، القديس أوغسطين، ديكارت، والظرفيين، والأسقف باركلي (الذي ألهمه فيلم "فيلم")، سبينوزا، ليبنيتز، كانط، شوبنهاور، موثنر، وبرجسون. واهتماماته وتأثراته الفنية لم تكن بالتأكيد منحصرة على الكلمة المكتوبة. فولعه بالرسامين الكبار ظل معه خلال حياته وهو كان معجبا بالعديد من الرسامين المحدثين. أصدقاؤه الشخصيين كان من ضمنهم برام و جير فان فيلد، هنري هايدن وأفيجدور أريخا، وهو كان يمتلك رسوما لكل هؤلاء الفنانين. في أيام الفقر في حياته المبكرة، دفع نفسه إلى فقر أفظع ليشتري لوحة لجاك ب. ييتس. هو عازف بيانو بارع ومحب لموسيقى شوبرت وبيتهوفن وشوبان وموتسارت. المميزات البصرية القوية لمسرحه المتأخر والذي يبدو أقرب إلى الرسم والنحت منه إلى المسرح العادي كان بدوره له تأثير عظيم على العديد من الرسامين والفنانين البصريين المحدثين. ولعه بالفن والموسيقى كان أساسيا لسموه بالشكل، والإطار والسيمترية في عمله الأدبي والمسرحي.

[2]Arthur Schopenhauer, The World as Will and Representation, trans. E. F. J. Payne, 2 vols. (New York: Dover, 1966), I: 325
[3]James Knowlson (text) and John Haynes (photographs), Images of Beckett (Cambridge:Cambridge University Press, 2003), p. 18.
[4]Charles Juliet, ‘Meeting Beckett’, trans. and ed. Suzanne Chamier, TriQuarterly 77 (Winter, 1989–90), p. 17. An extract from Rencontre avec Samuel Beckett (Saint-Cle´ment-la-Rivie`re: Editions Fata Morgana, 1986).
[6] Transition 16/17 (Spring–Summer, 1929).
[7] Cronin, Samuel Beckett: The Last Modernist, p. 494.

[i]  الإشارة لرواية وات Watt لصمويل بيكيت.
[ii]  مارتن إسلن Martin Esslin (1918-2002) ناقد وكاتب مسرحي من أصل مجري.