كتبت من عام ونصف تقريبا مقالا أقارن فيه بين مقال (ما الميتافيزيقا) الشهير للفيلسوف الألمانى مارتن هايدجر وفصل بلا كلمات لبيكيت ، وقد نشرت هذا المقال هنا ، واليوم أنا لا أريد أن أكرر ما كتبته ساعتها ، إنما أريد أن أذكر بعض الملاحظات ، كإضافة لما كتبته فى المقال من جهة ، و لرصد بعض المعلومات التى لم تكن تخص مضمون المقال من جهة أخرى .
كتب صمويل بيكيت (فصل بلا كلمات) عام 1957 ، كتبها بالفرنسية (لغته الثانية) ثم ترجمها بنفسه إلى الإنجليزية ، وهى عادته التى مارسها على العديد من إبداعاته وأهمها مسرحيته الأساسية (فى انتظار جودو) ، فقد كان بيكيت يفضل الفرنسية عن الإنجليزية ، وتمييز المسرحية بإنها (فصل بلا كلمات 1) هدفه التفرقة بينها وبين (فصل بلا كلمات 2) التى كتبها عام 1958 .
ومسرحية (فصل بلا كلمات) هى مسرحية تنتمى إلى الفلسفة الوجودية ، هذا لا يعنى أن بيكيت كاتب وجودى ، ولكن بقراءة دقيقة للمسرحية ستجد العديد من الأفكار الوجودية فى مضمون النص ، والوجودية المقصودة هنا ليست فقط الوجودية بشقيها الهايدجرى والسارترى ، ولكن كتاريخ ممتد بداية من كيركجور ونيتشه فى القرن السابق لكتابة المسرحية ، ومن أبرز الأفكار الوجودية فى النص فكرة استبعاد المنطق والعقل فى الوصول للحقيقة ، لقد حاول بطل المسرحية استخدام عقله فى إخضاع الأدوات التى تحيطه ولكنه فشل فى ذلك ، كإنه إعلان فشل لطموح النهضة الفلسفية الحديثة (أحلام ديكارت وبيكون) ، وهذا ملمح وجودى ، فهايدجر استبعد العقل والمنطق والعلم ورأى إنه عن طريق المشاعر (كالقلق) يمكننا أن نصل للحقيقة ، أما أفكار (الإنسان الملقى به) ، وبداية الشقاء ببداية الوجود الإنسانى وغيرها ، فقد ناقشتها فى المقال المذكور سلفا . ولكنى أريد أن أؤكد على أن نهاية المسرحية تحمل فارقا بين فكر بيكيت والفكر الوجودى ، ففى رأيي أن الفلسفة الوجودية فلسفة متفائلة ، عكس ما شاع حولها من أنها متشائمة ووفقا لدفاع سارتر عنها (فى الوجودية مذهب إنسانى) ، هايدجر -كما قلنا- فى مقال (ما الميتا فيزيقا) عن طريق مشاعر تبدو سلبية (القلق) رأى أنه استطاع الوصول لحقيقة ما ، فى حين أن نص بيكيت متشائم ، وإن كنت قرأت أخيرا رأيا يرى أن عدم استجابة البطل للصافرات فى نهاية المسرحية هو نوع من التمرد (ملمح إيجابى) ، وهذه فكرة تقرّب بيكيت من هايدجر .
بيكيت فى هذه المسرحية ، ومرة أخرى كعادته ، يستغل ثقافته الواسعة ، ليس فقط فى التأثر بالوجودية ، وقد تأكدنا هنا إنه اطلع على هايدجر ، ولكن أيضا فى استخدامه أسطورة تنتالوس الذى رآه أوديسيوس لما زار العالم الآخر ، وكان يعاقب من قبل الآلهة ، بإنه كان يقيم بجانب بحيرة وبجانبه شجرة فاكهة ، وكلما يريد قطف ثمار الشجرة ، ترتفع فروعها بعيدا عن متناوله ، وكلما انحنى ليشرب ماء من البحيرة ينحسر الماء بعيدا عن فمه ، وهذا تقريبا ما كان يحدث لبطل (فصل بلا كلمات) وكأنه يعاقب من قبل قوى مجهولة ، من جهة أخرى هناك اعتماد بيكيت على كتاب العالم الألمانى كوهلر (عقلية القرود) الذى كتب فيه عن تجربة على القرود كانت تضع القرود فيها المكعبات على بعضها لتصل لثمار الموز ، مثلما كان يحاول بطل المسرحية من أجل الوصول لقنينة الماء.
حالة تجربة كل شيء ممكن فى العالم المتاح ثم الوصول لنتيجة هى عدم التعويل على الأشياء (عدم التعويل على العالم) ربما تبدو أقرب لحالة صمويل بيكيت الحياتية نفسها ، بيكيت ، قبل كتابة هذه المسرحية ، كان يمر بتجربة حياتية ثرية ، ما بين تفوقه الدراسى وتجوله فى أنحاء أوروبا ، وعلاقته مع جيمس جويس وقصة حبه المضطربة مع ابنته لوشيا واشتراكه فى الحرب العالمية الثانية فى صفوف المقاومة الفرنسية وصولا إلى بزوغ شهرته وتأكيد موهبته مع نشر مسرحيته (فى انتظار جودو) ، بعد ذلك اختار بيكيت نمط حياة هادئ ، امتد من نهاية الخمسينيات حتى نهاية حياته 1989 ، لم يكدر نمط الحياة الرتيب سوى نجاح بعض أعماله وفوزه بجائزة نوبل عام 1969 ، إذن فكأن بيكيت بهذا النص يكرس لمعتقده ونمط حياته الذى سيتبعه إلى النهاية .
***
لمزيد من المعلومات: