تفريغ مكتبتي.. حديث عن اقتناء الكتب
المقال من 1931 وعن ترجمة هاري زون إلى الإنجليزية 1968
 
ترجمة أمير زكي
2015
 
نشرت الترجمة بمجلة عالم الكتاب، مايو 2015
 
***
 
 

أنا أفرغ صناديق كتبي، نعم أفعل ذلك. لم أرص الكتب بعد على الأرفف، ولم يلمسها بعد الملل الطفيف الذي يصنعه الترتيب. لا أستطيع أن أرتبها للأفضل والأسوأ لأقدمها للجمهور الودود. لستم بحاجة للخوف من ذلك. إنما بدلا من ذلك، عليّ أن أطلب منكم أن تنضموا إليّ في فوضى الصناديق التي انفتحت فجأة، حيث الهواء معبق بغبار الخشب، والأرضية مغطاة بالورق الممزق. أطلب منكم أن تنضموا إليّ وسط أكوام المجلدات التي ترى الضوء مجددا بعد عامين من الظلمة، ربما يعني هذا أن تكونوا مستعدين أن تتشاركوا معي في جزء من الحالة – هي بالتأكيد ليست حالة حزينة ولكنها بالأحرى حالة من التوقع – التي تثيرها هذه الكتب في مقتن حقيقي للكتب. لأنه عندما يتحدث هذا الرجل إليكم، ستعرفون - عندما تنظرون إليه عن قرب - أنه يتحدث فقط عن نفسه. ألن يكون هذا صلفا منى إن عددت أمامكم الأقسام الرئيسية أو الكتب الأقيم في المكتبة، لأبدو شخصا موضوعيا وواقعيا بشكل مقنع، أو لو قدمتها لكم بتاريخها أو حتى بفائدتها للكُتَّاب؟ أنا ككاتب، لديّ في ذهني شيء أقل غموضا، شيء محسوس أكثر من ذلك؛ ما أهتم به هو أن أقدم لكم رؤية عن علاقة مقتني الكتب بمقتنياته، عن الاقتناء أكثر من المقتنيات. إن فعلت ذلك بشرح الطرق المختلفة في الحصول على الكتب، فهذا أمر اعتباطي تماما. ممارسة هذا أو ممارسة أي طريقة أخرى هو مجرد وضع لسد أمام طوفان من الذكريات يندفع تجاه أي مقتنٍ وهو يتأمل مقتنياته. كل شغف يقترب من حدود الفوضى، ولكن شغف المقتني يقترب من فوضى الذكريات. وأكثر من ذلك: فالصدفة، والقدر، اللذان يُظهران الماضي أمام عيني، حاضران بوضوح في الفوضى المعتادة لهذه الكتب. فهذه المجموعة ليست سوى فوضى جعلتها العادة تبدو على أنها نظام! كلكم سمعتم عن الناس الذي يحولهم فقدان كتبهم إلى مرضى، أو هؤلاء الذين يتحولون إلى مجرمين بحثا عنها. هذه هي المساحات التي يوازن فيها النظام الهشاشة المتطرفة. يقول آناتول فرانس: "المعرفة الوحيدة الدقيقة المتاحة هي معرفة تاريخ نشر وتنسيق الكتب". وفي الحقيقة، إن كان هناك شيء مقابل لارتباك المكتبة، فهو نظم فهرستها.
 
بالتالي هناك في حياة مقتني الكتب صراع جدلي بين قطبي الفوضى والنظام. يرتبط وجوده تلقائيا بالعديد من الأشياء الأخرى: بالعلاقة الغامضة جدا بالمِلْكية، وهذا شيء علينا أن نتحدث عنه أكثر لاحقا، وأيضا بالعلاقة مع الأشياء التي لا تعبر قيمتها عن وظيفة نفعية – أي، الأشياء التي ليس لها فائدة – ولكنه يدرسها ويحبها كمشهد، كمسرح لمصيره. السحر الأكثر عمقا لدى المقتني هو إغلاق الأشياء الشخصية بداخل دائرة سحرية تظل ثابتة فيها خوفا من أن تغادرها الإثارة الأخيرة؛ إثارة الاستحواذ. كل شيء يتم تذكره أو التفكر فيه، كل شيء يصير واعيا، يصير قاعد تمثال، إطارا، أساسا، قِفلا على ممتلكاته. الزمان، المكان، المهنة، الملكية السابقة – هي بالنسبة للمقتني الحقيقي الخلفية الكاملة لشيء يضاف إلى موسوعة سحرية يكون نموذجها هو مصير الشيء الذي يملكه. في هذه المساحة المقيدة، يمكن أن نعرف كيف لعلماء الفراسة العظام – والمقتنون هم علماء فراسة عالم الأشياء – أن يتحولوا إلى مفسرين للقدر. على المرء فقط أن يراقب مقتنيا يتعامل مع الأشياء في حالتها الزجاجية. وهو يمسكها بيديه، يبدو أن الإلهام يصيبه من خلالها ومن خلال ماضيها البعيد. وأخيرا الجانب السحري للمقتني – صورته وهو كبير السن كما يمكن أن أدعوها.
 
[1]Habent sua fata libelli (بحسب قدرات القاريء تتشكل مصائر الكتب): من الممكن اعتبار هذه الكلمات مقولة عامة عن الكتب؛ بالتالي فكتب مثل "الكوميديا الإلهية" و"الأخلاق" لسبينوزا، و"أصل الأنواع" لديها مصائرها. ولكن المقتني يفسر هذه الجملة اللاتينية بشكل مختلف. بالنسبة إليه، ليست الكتب فحسب التي تملك مصائر وإنما أيضا نُسَخ الكتب أيضا. وبهذا المعنى، تكون أكثر المصائر أهمية للنسخة هو لقاء المقتني بها، ولقاء مجموعته بها. أنا لا أبالغ حين أقول إنه بالنسبة للمقتني الحقيقي، فالحصول على كتاب جديد هو إعادة ميلاد للكتاب. هذا العنصر القريب من الطفلية ممتزج عند المقتني بعنصر السن الكبيرة. فمن الممكن أن يتجدد الوجود عند الأطفال بمائة طريقة لا تعرف الفشل؛ الاقتناء عند الأطفال أحد طرق  التجديد؛ والعمليات الأخرى هي طلاء الأشياء، وتفكيك الأشكال، ولصق الصور – المساحة الكاملة من طرق الطفل في التحصل على الأشياء، بداية من لمس الأشياء حتى إطلاق أسماء عليها. تجديد العالم القديم – هذه هي رغبة المقتني العميقة عندما ينقاد ليحصل على أشياء جديدة، وهذا هو سبب أن مقتني الكتب القديمة أقرب إلى أصول الاقتناء من المقتني الساعي إلى النسخ الفاخرة. كيف يمكن للكتب أن تتخطى عتبة إحدى المجموعات وأن تصبح ملكية لأحد المقتنين؟ تاريخ حصولهم على الكتب هو موضوع الملاحظات التالية.
 
بين كل طرق الحصول على الكتب، تعتبر كتابة المرء لها أكثر الطرق التي يمكن أن نثني عليها. عند هذه النقطة سوف يتذكر العديد منكم بسعادة المكتبة الكبيرة التي حصل عليها أستاذ المدرسة الصغير الفقير ووتس في قصة جان باول[2]، وذلك بأن كتب بنفسه كل الأعمال التي آثارت عناوينها اهتمامه عندما رآها في كتالوجات معرض الكتاب؛ هو لم يكن يستطيع شراءها في الواقع. الكتاب هم في الحقيقة الناس الذين يكتبون الكتب ليس لأنهم فقراء، ولكن لأنهم غير راضين عن الكتب التي يستطيعون شراءها ولكنهم لا يحبونها. أنتم يا سيداتي وسادتي، ربما ستعتبرون هذا تعريفا غريبا للكاتب. ولكن كل شيء يقال من وجهة نظر مقتني الكتب الحقيقي هو غريب. من بين الطرق المعتادة على الحصول على الكتب، فالأكثر ملائمة للمقتني سيكون استعارة كتاب مع النية على ألا يعيده. مستعير الكتب ذو القامة الحقيقية الذي نتحدث عنه هنا،  الذي يثبت أنه مقتنٍ راسخ للكتب، لا يتصف كثيرا بالضعف الذي يجعله يحفظ كنوزه المستعارة، ولا بالأذن الصماء التي يوجهها لتذكير العالم اليومي بالأعراف، بقدر ما يتصف بفشله في أن يقرأ تلك الكتب. إن كان يمكن لتجربتي أن تساعد على أن تكون دليلا، يميل الإنسان إلى أن يعيد كتاب مستعار أكثر من أن يقرأه. ولكن هل يمكن اعتبار عدم قراءة الكتب سمة المقتنين؟ يمكنك أن تزعم أن هذه معلومة جديدة بالنسبة لك. ولكنها ليست معلومة جديدة على الإطلاق. سيتفق معي الخبراء عندما أقول إن هذا أقدم شيء في العالم. يكفي أن نقتبس الإجابة التي رد بها آناتول فرانس على واحد من الجهلة أعجب بمكتبته وانتهى إلى السؤال المعتاد، "وهل قرأت كل هذه الكتب مسيو فرانس؟ - ولا حتى عُشْرها. أنا لا أعتقد أنك تستخدم طقم المائدة الصيني كل يوم؟".
 
بالصدفة وضعت فكرة الحق في هذا الموقف موضع الاختبار. لسنوات، على الأقل في الثلث الأول من وجود مكتبتي، تكونت المكتبة مما لا يزيد عن رفين أو ثلاثة تزيد عدة بوصات فحسب كل عام. كان هذا عصرها المتشدد، عندما لم يسمح بكتاب آخر ليدخل بدون أن تكون لديه أهلية أنني لم أقرأه. بالتالي ربما لم أكن لأحصل على مكتبة غزيرة بما يكفي لتستحق اسمها إن لم يحدث تضخم. وفجأة تغير هذا الحس؛ صارت الكتب غالية بالفعل، وصار من الصعب الحصول عليها. على الأقل هذا هو ما بدا في سويسرا. في الساعة الحادية عشرة، أرسلت طلباتي الرئيسية الأولى للكتب من هناك وبهذه الطريقة كنت قادرا على الحفاظ على الأشياء غير القابلة للتبديل مثل مجموعة كتب "الفارس الأزرق" [3]Der blaue Reiter وكتاب باخوفين "ملحمة تانكويل" التي كان يمكن الحصول عليها من الناشرين في هذا الوقت.
 
حسنا – بالتالي يمكننا أن نقول – بعد استكشاف كل تلك الطرق الجانبية - أنه يجب الوصول في النهاية إلى الطريق الرئيسية الواسعة لاقتناء الكتب، أي شراء الكتب. هذه في الحقيقة طريق رئيسية واسعة، ولكنها ليست طريقا مريحة. عمليات الشراء التي يقوم بها مقتني الكتب لا تتشابه كثيرا مع عمليات الشراء التي يقوم بها طالب في المكتبة لشراء كتاب دراسي، ولا مع الرجل العادي الذي يشتري هدية لامرأته، ولا رجل الأعمال الذي يرغب في تزجية الوقت حتى تنطلق رحلته التالية بالقطار. لقد قمت بأبرز عمليات الشراء المحفورة في الذاكرة في الرحلات؛ كعابر سبيل. الملكية والاستحواذ ينتميان إلى مجال تكتيكي؛ المقتنون هم أناس ذوو غريزة تكتيكية؛ تعلمهم خبرتهم أنهم عندما يغزون مدينة غريبة، فأصغر محل أنتيكات يمكن أن يكون قلعة، وأبعد مكتبة يمكن أن تكون موقعا محوريا. عديدة هي المدن التي كشفت نفسها لي من خلال المسيرات التي قمت بها لمطاردة الكتب!
 
أجريت كل مشترياتي الأكثر أهمية دوما بناء على اقتراحات الوسيط. تلعب الكتالوجات الدور الأعظم. وحتى إن كان المشتري عارفا تماما بالكتاب الذي طلبه من أحد الكتالوجات، فالنسخة الفردية تظل دوما مفاجئة ويظل الطلب نوعا من المقامرة. هناك إحباطات مؤلمة، ولكن هناك أيضا اكتشافات سعيدة. أذكر على سبيل المثال أنني طلبت مرة كتابا برسوم ملونة لمجموعتي القديمة من كتب الأطفال فقط لأنه يحتوي على قصص شعبية لآلبرت لودفيج جريم، ونشر بمدينة جريمّا، بثورينجيا. كانت جريمّا أيضا مكانا لنشر كتاب للقصص حرره أيضا آلبرت لودفيج جريم. برسوم ليسار الستة عشر، كانت نسختي من هذا الكتاب المثال الوحيد الموجود للعمل المبكر لرسام الكتب الألماني العظيم، الذي عاش في هامبورج في منتصف القرن الماضي تقريبا. حسنا، كان رد فعلي على صوتيات الأسماء صحيحا. في هذه الحالة أيضا اكتشفت عمل ليسار، أي "قصص لينا" Linas Märchenbuch، وهو عمل ظل مجهولا لجامعي كتبه وهو يستحق إشارة أكثر تفصيلا من هذه الإشارة المبدئية التي أذكرها هنا.
 
اقتناء الكتب ليس مسألة متعلقة بالمال أو معرفة الخبير فحسب، ولا حتى العاملين مجتمعين كافيين لتأسيس المكتبة الحقيقية، التي هي دوما عملية مستغلقة إلى حد ما وفي الوقت نفسه عملية فريدة. أي أحد يشتري من الكتالوجات يجب أن يتمتع بذوق إلى جانب السمات التي ذكرتها. التواريخ وأسماء الأماكن والتنسيقات، والمالكين السابقين، والتجليدات، وأمثال كل تلك التفاصيل يجب أن تخبره بشيء ما، لا بطريقة الحقائق الجافة المنعزلة، ولكن  بطريقة الكل المنسجم؛ عن طريق كفاءة وكثافة هذا الانسجام عليه أن يكون قادرا على إدراك إن كان الكتاب موجها إليه أم لا. بالتالي يتطلب المزاد مجموعة أخرى من الصفات لدى المقتني. بالنسبة لقاريء الكتالوج فالكتاب نفسه يجب أن يتحدث، أو من الممكن أن يتحدث مالكه السابق إن كان مصدر النسخة مذكورا. الرجل الذي يرغب في المشاركة بمزاد يجب أن يولي انتباها مساويا إلى الكتاب وإلى منافسيه، بالإضافة إلى الحفاظ على عقل رزين بما يكفي ليتجنب أن ينجرف في المنافسة. يحدث مرارا أن يتورط شخص في سعر شراء عالٍ لأنه استمر في إعلاء عطائه – بسبب أنه يريد تأكيد نفسه أكثر من رغبته في الحصول على الكتاب. من جهة أخرى، واحدة من ألطف ذكريات المقتني هي اللحظة التي ينقذ فيها كتابا ربما لم يكن قد فكر فيه أبدا، ولا حتى كان يأمل فيه، إنما يشتريه لأنه وجده وحيدا ومهجورا في السوق واشتراه ووهبه حريته – بالطريقة التي اشترى بها الأمير جارية جميلة في "ألف ليلة وليلة". بالنسبة لمقتني الكتب، كما ترون، فالحرية الحقيقية للكتب هي أن تجد لها مكانا على الأرفف.
 
إلى هذا اليوم، تبدو رواية بالزاك "الجلد السحري" peau de chargin الموجودة بين الصفوف الطويلة للمجلدات الفرنسية في مكتبتي  كذكرى لأكثر تجاربي إثارة في المزادات. تعود التجربة إلى عام 1915 في مزاد رومان الذي أقامه إيميل هيرش، واحد من أعظم خبيري الكتب وأفضل المتميزين بين الوسطاء. ظهرت النسخة المعروضة في المزاد عام 1838 في باريس، في قصر دي لا بورس. وأنا ألتقط نسختي، لم أقرأ فقط رقمها في مجموعة رومان، وإنما أيضا ملصق المكتبة التي اشترى منها أول شخص الكتاب الأصلي من تسعين عاما مضت بثُمن سعرها الحالي. مكتوب على الملصق "مكتبة فلانيو". كان من الرائع أن يظل ممكنا أن تشتري مثل هذه االنسخة الممتازة بعد هذا العمر من عند وسيط لمكتبة! كان هناك نقش صلب للكتاب صممه رسام فرنسي بارز، ونفذه نقاشون بارزون. ولكني سوف أخبرك عن سبب حصولي على هذا الكتاب. لقد ذهبت إلى إيميل هيرش لأقوم بفحص مبكر وحصلت على أربعين أو خمسين مجلدا؛ هذا المجلد بالتحديد ألهب بداخلي الرغبة المتقدة للحصول عليه للأبد. حتى جاء يوم المزاد، وكما يحدث من قبيل الصدفة، كان يسبق هذه النسخة من "الجلد السحري" مجموعة كاملة من الصور مطبوعة بشكل منفصل على ورق هندي. جلس المزايدون على طاولة طويلة؛ كان يجلس أمامي رجل كان محط اهتمام كل الأنظار في الجلسة الأولى، المقتني الشهير القادم من ميونيخ بارون سيمولين. كان مهتما بشكل عظيم بالمجموعة ولكن كان أمامه مزايدون منافسون؛ باختصار، كانت هناك منافسة مثيرة أدت إلى أعلى عطاء في المزاد كله – تجاوز ثلاث آلف مارك. لم يبد أن أحدا توقع مثل هذا الرقم العالي، وكل الحاضرين كانوا مستثارين. ظل إيميل هيرش غير مهتم، وسواء أراد أن يكسب الوقت أو قاده تفكير آخر، انتقل إلى الكتاب التالي، بدون أن ينتبه إليه أحد. نطق بالسعر، وقلبي يدق مع إدراكي التام أنني لست قادرا على منافسة أي من هؤلاء المقتنين الكبار، طرحت سعرا أعلى. وبدون إثارة اهتمام المزايدين، استمر مدير المزاد في روتينه المعتاد – "هل هناك سعر أعلى؟" وطرق ثلاث مرات بمطرقته، وبدا كأن الأبدية تفصل بين كل طرقة وأخرى – واستمر مضيفا نسبة مدير المزاد إلى السعر. بالنسبة لطالب مثلي ظل السعر معقولا. ما حدث في اليوم التالي في مكتب الرهن لم يعد جزءا من القصة، وأنا أفضل أن أتحدث عن حادثة أخرى أحب أن أقول عنها إنها سالب تجربة المزاد. حدثت في العام الماضي في مزاد برلين. كانت مجموعة الكتب المعروضة متنوعة في القيمة والمحتوى، أعمال نادرة عن السحر والفلسفة الطبيعية هي التي كانت تستحق الاهتمام. قمت بطرح العطاء على عدد منها، ولكن في كل مرة لاحظت رجلا نبيلا في الصف المواجه بدا وكأنه ينتظر عطائي ليتجاوزه، بدا وكأنه أعد نفسه لأن يتجاوز أي عطاء. بعد ذلك كرر الأمر عدة مرات، واستسلمت على أمل الحصول على الكتاب الذي كنت مهتما به بشكل أكبر في هذا اليوم. كان الكتاب النادر "المقتطفات المنشورة لطبيب شاب بعد موته" Fragmente aus dem Nachlass eines jungen Physikersالذي نشره يوهان فيلهلم ريتر في مجلدين في هايدلبرج عام 1810. لم يتكرر طبع هذا العمل، ولكني اعتبرت مقدمته دوما نموذجا مهما جدا للنثر الذاتي في الرومانتيكية الألمانية، وفيها يتحدث الكاتب-المحرر عن قصة حياته بطريقة أنه ينعى صديقه المفترض الراحل– الذي يتطابق مع شخصيته بالفعل. عندما ظهر الكتاب شعرت بالدوار. كان طريقتي بسيطة بما يكفي: طالما أن عطائي لن يكون مجديا وسينتهي الأمر بالكتاب إلى أن يحصل عليه شخص آخر، فعليّ أن لا أقدم عطاء على الإطلاق. تحكمت في نفسي وبقيت صامتا. ما أملت فيه أوشك أن يحدث: لا أحد اهتم، لا عطاءات، وُوضع الكتاب جانبا. رأيت أنه من الحكمة أن أدع عدة أيام تمر، وعندما ذهبت إلى المكتب بعد أسبوع، وجدت الكتاب في قسم الكتب المستعملة وربحته بسبب اللا مبالاة التي قصدتها.
 
ما الذكريات التي تحتشد أمامك في اللحظة التي تصل فيها لجبال الحقائب لتبحث عن الكتب وتخرجها في ضوء النهار، أو بالأحرى الليل! لا شيء يُظهر عجب الاستخراج بشكل أكثر وضوحا من صعوبة إيقاف هذا النشاط. لقد بدأت في الظهيرة، وحلَّ منتصف الليل قبل أن أصل إلى الحقائب الأخيرة. الآن وضعت يدي على مجلدين بتجليد مهتريء لا أستطيع أن أنسبهما لحقيبة بعينها: آلبومين بصور ملصقة تركتهما أمي إليّ كطفل وقد ورثتهما. إنها بذور لمجموعة من كتب الأطفال تتنامى بشكل مستمر حتى اليوم، على الرغم من أنها لم تعد في حديقتي. لا توجد مكتبة حية لا تحتوي على عدد من أشياء مشابهة للمخلوقات القادمة من المساحات الهامشية. لا يعني هذا بالضرورة أن تكون ألبومات لملصقات أو آلبومات عائلية، أو دفاتر الأوتوجراف، أو الحقائب التي تحتوي على الكتيبات أو الكراسات الدينية؛ فبعض الناس يرتبطون بالمنشورات أو النشرات، وآخرون بالمنسوخات المطابقة للأصل أو النسخ المكتوبة على الآلة الكاتبة من الكتب التي لا يمكن الحصول عليها؛ وبالتأكيد يمكن للدوريات أن تشكل جوانب متراكمة لمكتبة. ولكن بالعودة إلى هذه الألبومات: في الحقيقة الميراث هو أوقع طريقة للحصول على مجموعة منها. لأن موقف المقتني تجاه ما بحوزته يعود إلى مشاعر المسئولية لدى المالك تجاه ممتلكاته. بالتالي فهو موقف الوريث بالمعنى الأعم، وأكثر صفة مميزة لأي مجموعة هي دوما قدرتها على الانتقال. عليكم أن تعرفوا أنني أدرك تماما أن حديثي عن المناخ الفكري للاقتناء يؤكد كثيرا قناعتكم بأن هذا الشغف متجاوز للزمن، ويؤكد عدم ثقتكم في نموذج المقتني. ولا يوجد شيء بعيد عن قصدي بقدر خلخلة قناعتكم أو عدم ثقتكم. ولكن هناك شيء واحد يجب ذكره: ظاهرة الاقتناء تفقد معناها عندما تفقد مالكها الشخصي: حتى عندما تكون المجموعات العامة مقبولة في المجتمع وأكثر فائدة أكاديميا من المجموعات الخاصة، تحصل الأشياء على قيمتها فقط وهي وسط مجموعة خاصة. أعلم أن النموذج الذي أناقشه وأقدمه هنا يتجاوزه الزمن. ولكن كما قال هيجل، فقد عندما يحل الظلام تبدأ بومة مينرفا في الطيران. فلا يمكن فهم المقتني إلا في زمن انقراضه.
 
الآن أنا أمام الحقيبة الأخيرة شبه الخالية وقد تجاوزت منتصف الليل. تشغلني أفكار أخرى مختلفة عن التي أتحدث عنها – هي ليست أفكارا ولكن صور، ذكريات. ذكريات عن المدن التي وجدت فيها العديد من الأشياء: ريجا، نابلس، ميونيخ، دانزيش، موسكو، فلورانس، بازل، باريس؛ ذكريات من غرف روزنتال الرائعة في ميونخ، في دانزيش ستوتورك حيث أقام هانز رو، عن قبو سوزينجت الرطب في شمال برلين؛ ذكريات عن الغرف التي وضعت فيها هذه الكتب؛ في وكر طالب لي في ميونيخ، في غرفتي برن، في عزلة آيزلتوالد على بحيرة بيينز، وفي النهاية في غرفة صباي، المكان القديم الذي كان يحتوى على أربعة أو خمسة آلاف أو بضعة آلاف مجلد مكومة من حولي. ليتبارك المقتني، ليتبارك رجل البهجة! الرجل الذي لم يتوقعه أحد، لا أحد لديه حس أعظم من الإنسان الذي كان قادرا على أن يواصل رغم وجوده سيء السمعة في صورة "دودة الكتب" [للفنان الألماني كارل] سبتزويج. لأنه بداخله تسكن أرواح، أو على الأقل يسكن جني صغير، يعرف ذلك عن المقتني – وأنا أعني المقتني الحقيقي، المقتني كما يجب أن يكون – يعرف أن الملكية هي أفضل علاقة يمكن أن تتحقق للمرء مع الأشياء. ليس لأن الأشياء حينا تصير حية بداخله؛ إنما لأنه هو الذي يعيش فيها، بالتالي أنا نصبت واحدة من ثكناته أمامكم بالكتب، وكأنها صخور بانية، والآن هو في طريقه ليختفي بالداخل، في أكثر مكان ملائم له.
 

 



 

[1]  الجملة تعود إلى النحوي اللاتيني تيرينتيانوس الذي يعود إلى القرن السادس عشر.
[2]  الإشارة إلى قصة "حياة الأستاذة المرحلة ماريا ووتس" للكاتب الألماني جان بول (1763-1825). 
[3]  الفارس الأزرق Der blaue Reiter هي مجموعة فنية تكونت من فنانين مهاجرين من روسيا إلى ألمانيا وكانت رد فعل وتطويل لـ "رابطة الفنان الجديد بميونيخ).