توم ريبلي ومعنى الشر
جون جراي*
ترجمة: أمير زكي
* جون جراي (1949) فيلسوف إنجليزي مهتم بالفلسفة السياسية والفلسفة التحليلية

الترجمة خاصة بـ Boring Books

يحتفظ المترجم بحقه في المساءلة الأخلاقية والقانونية إذا تمت الاستعانة بترجمته دون إذن منه.

***
نحن جميعا نعتقد أننا نعرف معنى الشر، وهناك العديد من الناس يعتقدون – على الرغم مما نسمعه في الأخبار كل يوم – أن الشر يتلاشى تدريجيا من العالم طالما أن البشر يصيرون أكثر عقلانية.
 
كانت باتريشيا هايسميث تفكر بطريقة مختلفة. يراها معظم الناس ككاتبة لروايات الإثارة، ولا شك أنها مُمارِسة منغمسة في هذا النوع. بالنسبة لي هي أيضا واحدة من أعظم كتاب القرن العشرين. فلديها رؤية عميق لهشاشة الأخلاق.
 
من روايتها الأولى "غريبان في قطار" التي حولها آلفرد هيتشكوك إلى فيلم سينمائي عام 1951، وطوال مشروعها الأدبي، كانت هايسميث مولعة دوما بالشر.
 
في بعض الأوقات يكون من الصعب مقاومة الشعور الذي يقول إنها كانت معجبة حقا بالشر – وهو انطباع يدعمه موقفها تجاه أشهر شخصياتها؛ القاتل الملغز توم ريبلي. عندما بدأت أول رواياتها الخمس عن ريبلي، قالت هايسميث عنها "أظهر (فيها) الانتصار البين للشر على الخير، وأبتهج له، وسأجعل القراء يبتهجون له أيضا".
 
الكتاب الذي نشر عام 1955 بعنوان "السيد ريبلي الموهوب"، كُتِب بسرعة شديدة، قالت: "كما لو أن ريبلي هو الذي يكتبه". كاتب سيرتها الذاتية يخبرنا أن هايسميث تماهت لبعض الوقت مع الشخصية التي خلقتها، ووقعت أحد خطاباتها لصديق باسم: "بات هـ.. الاسم المستعار ريبلي"
 
تُقرأ روايات ريبلي كما قصدت هايسميث أن تُقرأ – كتعبيرات عن انتصار الشر – والعديد من الناس وجدوها مزعجة لهذا السبب.
 
ولكن لا يوجد شيء تخبرنا به يشير إلى أن ريبلي يعتقد أنه شرير. وبدلا من ذلك هو يعيش على أساس أن الخير والشر ليس لهما معنى. ربما يكون هذا الجانب الموجود عند ريبلي هو ما تماهت معه هايسميث بشكل أقوى. الكاتبة الحانقة والغاضبة من الإنسانية ربما كانت تحسد اللا أخلاقية اللا مبالية لأناها المتخيلة البديلة. إلا أن هذه اللا مبالاة تجاه الأخلاق هي التي جعلت شخصية ريبلي مزعجة جدا للقراء – وأعتقد أنها تعليمية جدا.
 
عندما بدأ ريبلي جرائمه بقتل وانتحال شخصية شاب ثري، كان هذا بسبب أن الحياة التي يريدها تمضي بهذه الطريقة – بالأيام المرفهة والشقق الممتئلة بالأثاث الفاخر الأكثر جاذبية من الحياة التي كان يعيشها من قبل. وعندما قتل واحدا من أصدقاء هذا الشاب، فهذا لأن الصديق بدأ يتشكك فيه. ولاحقا، عندما كان ريبلي يعيش على التزوير الفني، كان يقتل من أجل أن يمنع كشف جرائمه.
 
يجد ريبلي رضا محدد في التخلص من ضحاياه، ولكن هذا غير نابع من أي رومانسية مظلمة تجاه الشر. إنه الرضا الذي يتبع انتهاء العمل. يقتل عندما يكون القتل ضروريا من أجل الحفاظ على نوع الحياة التي يستمتع بها، وليس لأنه يستمتع بقتل الناس.  
 
عادة ما يصف النقاد ريبلي على أنه سيكوباتي، ولكن هايسميث كانت تعتقد أنه لم يكن مختلفا عن بقية البشر.
 
تكتب في دفترها: "السيكوباتي هو شخص عادي يعيش بشكل أوضح مما يسمح له العالم". وبتحوله إلى مجرم، اعتقدت أن ريبلي يعيش بشكل أكثر وضوحا وغرضية عن بشكل أكبر مما يمكن أن يقوم به معظم البشر.
 
في الروايات اللاحقة، يظهر ريبلي سعيدا في زواجه من وريثة جذابة، ويعيش في قصر رائع في مقاطعة بالريف الفرنسي. لا زوجة ريبلي إيلويز ولا عائلتها الثرية اهتما بمعرفة كيف جمع ثروته. لم يهتما طالما أن أسلوب حياتهما نصف الأرستقراطي يمضي بيسر.
 
لم يلومهما ريبلي على لا مبالاتهما. إنها ساعدته على صناعة ترتيب محبب، متمكنا – هو المولع دوما بالجمال – أن يقضي وقته في العزف على الهاربسكورد والاعتناء بالحديقة في فناء القصر الواسع.
 
إلا أن هناك عدة إشارات على ازدرائه للمجتمع الراقي الذي انتقل إليه. طالما استطاع أن يحافظ على مظهر البراءة، من المُرضي أن يستفيد من نشاطاته الإجرامية. لقد اختار حياة إجرام ممتلئة بالاهتمام بما تتضمنه، وهذا يحتوي على فخر محدد بهذه الحقيقة.
 
يُقارَن ريبلي براسكولنيكوف في رواية دوستويفسكي "الجريمة والعقاب"، وهناك بعض التشابه. كل منهما اختار أن يرتكب جريمة قتل من أجل أهداف اعتقدا أنها أهم من القيم الأخلاقية التقليدية. وهنا على أي حال ينتهي التشابه. ليس فقط لأن ريبلي كان يفر بجرائمه دون عقاب، بينما يعترف قاتل دوستويفسكي ويعاقب. ولكن ريبلي لا يظهر أي أثر للندم على ما فعله. وبعد أن يقتل، يستمر هادئا في حياته.
 
وكما قال لشاب لجأ إليه ليساعده بعدما قتل أبيه: "إما أن تسمح لحدث ما أن يدمر حياتك أو لا، القرار قرارك". مجددا، يبرر راسكولنيكوف جريمته على أساس أنه يستخدم المقابل لترقية حياة الآخرين للأفضل. ولا يرى ريبلي حاجة ليبرر أفعاله على أسس أخلاقية.
 
الفارق بين قاتل دوستويفسكي الأخلاقي وريبلي اللا أخلاقي يعكس اختلافا أساسيا في رؤية العالم. يظل راسكولنيكوف يعيش في عالم تشكله الأفكار الدينية عن الخير والشر. عندما يتردد قبل قتل المرأة العجوزة من أجل مالها، فهذا بسبب أنه يعلم أن الحياة الإنسانية ذات قيمة جوهرية.
 
من جهة ريبلي فلا يوجد شيء ذو قيمة بهذه الطريقة، ولا يوجد شيء يعتبر شر من حيث الجوهر، لديه كود للقيم خاص به. هو يعجب بالأشخاص النشطين والماهرين، ويزدري المذعنين وذوي الأرواح الحقيرة. يحتفي بالجمال ويكره القبح. هو قادر على التعاطف والطيبة. يصبح مولعا بصدق بشاب يأتيه من أجل المساعدة. ولا يرى شرا فيما فعله الشاب.
 
في عالم ريبلي لا يوجد شيء اسمه الشر. بالنسبة له، وهو لم يعد يعيش في عالم أخلاقي موروث من الدين، يصير الشر مجرد أثر من الخرافة.
 
مثله مثل هايسميث، ريبلي شخصية علمانية تماما. هي كانت ملحدة راسخة وكانت تشعر بالازدراء تجاه الدين. وبخلاف معظم الملحدين لم تكن تعتقد أن الأخلاق متجذرة بشكل عميق في الطبيعة الإنسانية.
 
ليس الأمر فقط في أن الناس يلقون بالأخلاق جانبا من أجل المصالح الشخصية، وإنما احتياجات ودوافع الإنسان متشابكة ومتصارعة، تحركها انفعالاتهم، عادة ما يدمر الناس الخير في الآخرين في الوقت نفسه الذي يهدمون فيه الخير بداخلهم. بشكل مثير للفضول، هذه نظرة للهشاشة الإنسانية تشترك فيها هايسميث مع الدين الذي احتقرته.
 
بالنسبة للعديد من الناس الذين يرفضون الدين اليوم، ما يظهر بشكل عام على أنه شر هو في النهاية نوع من الخطأ، منتج للجهل ونقص الفهم. مع نمو المعرفة وكون الناس أكثر عقلانية، سيصبحون أطيب وأكثر تفكيرا في معاملتهم لبعضهم البعض. بشكل صحيح، لم تستطع هايسميث أن تقتنع بهذه النظر نبيلة التفكير عن الأشياء بجدية.
 
في النهاية لم يكن ريبلي جاهلا أو غير عقلاني. لقد كان إنسانا مثقفا وواسع المعرفة. بالتأكيد كانت لا مبالاته تجاه الإنسانية صادمة. ولكن هذه لم تكن نتيجة لأي نوع من الارتباك العقلي. ففي النهاية كان ريبلي عقلانيا أكثر من معظم الناس، وهو في الحقيقة متناغم مع عواطف الناس ودوافعهم.
 
ولكن بدلا من أن يقوده ذلك إلى أن يكون أكثر أخلاقية، فهذه الصفات تمضي لتجعله منفصلا بشكل مرعب عن الأخلاق. بينما يكون قادرا على الشعور بالتعاطف الإنساني، كان بشكل متساوي قادرا على ارتكاب الجريمة بأسلوب بارد. المذهل هو أن ريبلي ليس صورة الشر الذي رآها العديد من الناس فيه. إنه صورة إنسان تنقصه فكرة الشر.
 
المفكرون العلمانيون يتخيلون أن الدين يمكن أن يسقط كالاعتقاد في الجنيات، بينما تستمر الأخلاق بالطريقة نفسها التي استمرت بها في الماضي. إن سلك الناس بشكل مختلف في عالم ما بعد الأديان، سيكون هذا فقط مجرد تدعيم. الأخلاق نفسها لن تختلف.
 
بدقة أكبر في عدم اعتقادها، وبتشكك أكبر في خيرية الإنسان، رأت هايسميث الأشياء بشكل أوضح. نَفْض يدها عن النظرة الأخلاقية الموروثة من الدين يعني تحولا كبيرا؛ عالم بدون فكرة عن الشر ربما يكون عالم أفضل من بعض الجهات، ولكنه سيكون مختلفا عن العالم الذي عشنا فيه – وعن العالم الذي يمكن أن يتخيله المؤمنون ذوي التفكير النبيل عن الإنسانية.