الأخوة كارامازوف
فيودور دوستويفسكي
ترجمة: سامي الدروبي
عن طبعة مكتبة الأسرة 2009
 اختيار أمير زكي

"إنني أحب الإنسانية، غير أن هناك شيئا في نفسي يدهشني: كلما ازداد حبي للإنسانية جملة واحدة، نقص حبي للبشر أفرادا... إنه ليتفق لي كثيرا أثناء اندفاعي في الأحلام أن تستبد بي حماسة شديدة ورغبة عارمة جامحة في خدمة الإنسانية، حتى لقد أرتضي أن أصلب في سبيلها إذا بدا هذا ضروريا في لحظة من اللحظات. ومع ذلك لو أريد لي أن أعيش يومين متتاليين في غرفة واحدة مع إنسان، لما استطعت أن أحتمل ذلك، إنني أعرف هذا بتجربة، فمتى وجدت نفسي على صلة وثيقة بإنسان آخر أحسست بأن شخصيته تصدم ذاتي وتجور على حريتي، إنني قادر في مدى أربع وعشرين ساعة أن أكره أحسن إنسان. فهذا في نظري يصبح إنسانا لا يطاق لأنه مسرف في البطء في تناوله الطعام على المائدة، وهذا يصبح في نظري إنسانا لا يطاق لأنه مصاب بالزكام فهو لا ينفك يمخط، إنني أصبح عدوا للبشر متى اقتربت منهم... ولكنني لاحظت في كل مرة أنني كلما ازددت كرها للبشر أفرادا، ازدادت حرارة حبي للإنسانية جملة".
 
***
 
"لم أعبث إلا نصف عبث، لم أمزح إلا نصف مزاح".
 
***
 
"إنني أشعر كلما دخلت على بعض الناس أنني أسوأ من الآخرين، وأن الجميع يعدونني مهرجا! فأقول لنفسي عندئذ، فليكن! سأقوم بدور المهرج، لأنكم جميعا أكثر مني غباوة، وأخبث سريرة".
 
***
 
"إن الرب قد خلق الضياء في اليوم الأول، وفي اليوم الرابع خلق الشمس والقمر والنجوم، فمن أين جاء الضياء إذن في اليوم الأول".
 
***
 
" – سؤال آخر يا إيفان: هل هناك شيء بعد الموت؟ هل هناك حياة أخرى، أية حياة أخرى، ولو شبح حياة أخرى، شبح صغير، صغير جدا؟
- لا شيء بعد الموت!
- لا شيء البتة؟
- البتة.
- أهو العدم المطلق إذن؟ أم يوجد شيء ما رغم كل شيء؟ ربما وجد قليل من حياة مع ذلك! لقليل خير من لا شيء..
- لا شيء إلا العدم الكامل! صفر.. لا شيء أكثر من ذلك!"
 
***
 
"... أنا من جهتي لا أقبل في حياتي أن تستطيع امرأة أن لا تعجبني.. تلكم هي مبادئي! أأنتم قادرون على أن تفهموا هذا؟ ولكن أنى لكم أن تفهموه! إن عروقكم ليس فيها بعد إلا لبن... إنكم لم تنضجوا بعد! إن القاعدة التي ألتزمها في سلوكي هي أن في كل امرأة شيئا خاصا شائقا لا يمكن أن يوجد في امرأة أخرى.. وإنما المهم أن يستطيع المرء اكتشافه.. وذلك فن.. ذلك فن يحتاج إلى موهبة! ما من امرأة يمكن أن تكون في نظري دميمة أو باعثة على الاشمئزاز في يوم من الأيام. حسبها أن تكون امرأة.. هذا وحده نصف الحب.. حتى العوانس لا بد أن يكتشف المرء فيهن متى عرضت الفرصة أشياء يذهله أن يتصور أن هناك أناسا أغبياء حمقى تركوا لهن أن يشخن دون أن يلاحظوهن. وأول شيء يجب أن يعمد إليه الرجل مع هاته الصغيرات الرثات الوسخات هو أن يدهشهن. بهذه الوسيلة إنما يجب التوسل إليهن. ألم تكن تعرف ذلك؟ يجب أن تبلغ بهن الدهشة حد النشوة والوجد، حد الألم والعذاب، حد الشعور بالخزي والعار من أن سيدا أنيقا أمكن أن يتوله حبا بدمامة كهذه الدمامة".
 
***
 
"إن إيفان إنسان متبجح. ليس هو بالعالِم قط. بل إنه ليس على شيء من ثقافة حقيقية. إنه لا يزيد على أن يسكت، وأن يسخر من الجميع صامتا. ذلك كل ما يعرف أن يفعله إيفان هذا".
 
***
 
 
"... إن علينا أن ننتظر قليلا فيما يتعلق بالقبلات يا أليوشا. نحن لا نعرف حتى الآن كيف نتدبرها، لا أنا ولا أنت. لا بد أن ننتظر زمنا طويلا أيضا".
 
***
 
"... في رأيي أن أقرب الناس إلينا يصعب علينا أن نحبهم أكثر مما يصعب علينا أن نحب غيرهم. إن الإنسان لا يحب إلا من بعد... إننا لا نستطيع أن نحب إنسانا إلا إذا ظل مختفيا عن نظرنا. فمتى لمحنا وجهه تبدد الحب".
 
***
 
"... لنفرض مثلا أنني قادر على أن أتألم كثيرا. إن من الصعب على شخص غيري أن يعرف عمق الألم الذي أعانيه، وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس أنا بل آخر، ثم أنه يعز على المرء دائما أن يسلم بألم غيره (كما لو كان ذلك عزة وإباء!) فهل تعلم لماذا يعز عليه دائما أن يسلم بألمي؟) ربما لأن رائحة فمي كريهة، أو لأن وجهي غبي أو لأنني دست على قدمه في يوم من الأيام!"
 
***
 
"... إن الإنسان يحلو له أن يرى سقوط الرجل الصالح وتلطخ شرفه بالعار".
 
***
 
"عزيزي أليوشا، أبلغ أخاك دمتري تحيتي، وقل له ألا يحقد على هذه الوغدة؛ أنا. كرر على مسامعه هذه الكلمات على لساني: "وهبت جروشنكا نفسها لرجل بائس، لا لك أنت النبيل"؛ قل له أيضا أنني أحببته ساعة واحدة، فليتذكر تلك الساعة مدى الحياة، إن جروشنكا هي التي تأمره بذلك".
 
***
 
"...إنه ينتمي إلى هذه الفئة من الغيورين الذين يتخيلون أفظع الأشياء متى ابتعدوا عن المرأة المحبوبة، ويعانون عذابا رهيبا من تصور "خيانتها" لهم أثناء غيابهم. ولكن ميتيا كان متى التقى بجروشنكا مرة أخرى مضطربا قلقا يائسا معذب النفس من يقينه بأنها خانته، لا يلبث أن يسترد شجاعته حين يرى وجهها الضاحك الرقيق المرح، فإذا هو يطرد من فكره كل شيء، ويشعر بالخجل من غيرته، ويلوم نفسه على قلة الثقة".
 
***
 
"الغيرة! "ليس عطيل غيورا، إنه واثق" كذلك قال بوشكين. إن هذه الملاحظة البسيطة تشهد بعمق عبقرية شاعرنا القومي. إن ما عاناه عطيل من قلق النفس واضطراب الأفكار ناشيء عن إنه "فقد إيمانه بمثله الأعلى". ولكن عطيل ما كان له أبدا أن يرضى لنفسه هوان المرابطة في مكان ما من أجل أن يتجسس ويترصد ويترقب: إنه أكثر ثقة من أن يفعل ذلك. بالعكس: كان لا بد من دفعه ومن تقديم البراهين له، ومن تحريضه بالأدلة الدامغة لحمله على تصور الخيانة. ولا كذلك الغيور الحق. لا يستطيع المرء أن يتخيل مدى ما يمكن أن يهوى إليه الغيور من درك الدناءة والحطة دون أن يشعر بأي خجل من ذلك. وليس معنى هذا أن الغيورين يتصفون بحقارة النفس حتما. لا... رب رجل نبيل القلب نقيّ الحب مخلص العاطفة، يرتضي مع ذلك أن يختبي تحت السرر، وأن يرشي أناسا قذرين، وأن يستخدم أحط أنواع التجسس! وما كان لعطيل أبدا أن يذعن للخيانة – أقول يذعن للخيانة ولا أقول يغفرها – رغم أن له نفسا رقيقة بريئة كنفس طفل صغير. ولا كذلك الغيور الحق! ما من شيء إلا ويمكن أن يذعن له الغيور وما من شيء إلا ويمكن أن يغفره عند الحاجة. إن الغيورين أسرع الناس إلى الغفران، والنساء يعرفن هذا! هم قادرون – مثلا – على أن يمسحوا خيانة مشهودة (بعد أن يثوروا ثورة عنيفة في البداية طبعا)، وقبلات وعناقات رأوها بأعينهم، شريطة أن يستطيعوا أن يقولوا لأنفسهم "إن هذه آخر مرة" وأن الغريم سيغيب وأنه سيرحل إلى بلد في آخر العالم، أو أنهم سيمضون هم أنفسهم بحبيبتهم إلى منطقة نائية لا يستطيع الخصم الكريه أن يدركها فيها يوما. ثم لا تدوم المصالحة أكثر من ساعة طبعا. ذلك أنهم، ولو اختفى الخصم، ما يلبثون أن يكتشفوا خصما جديدا منذ الغد، فإذا هم يستأنفون عذاب أنفسهم بسبب هذه "الخيانة" الجديدة. رب متسائل يتسائل: ما في نظرهم قيمة حب يقتضي هذه الاحتياطات كلها، ويتطلب هذه المراقبة الدائمة المتصلة، وهل المرأة التي يتصورون خيانتها تستحق منهم هذا الحب كله. إلا أن هذا السؤال بعينه هو ما لا يلقيه الغيورون الحقيقيون على أنفسهم، مع أن منهم أناسا لهم نفوs سامية رفيعة، وهناك أمر جدير بالملاحظة أيضا: إن ذوي العواطف النبيلة من هؤلاء الغيورين يستطيعون، وهم مختبئون في ركن من الأركان للتجسس والمباغتة، يستطيعون أن يفهموا تماما، "لنبل قلوبهم" أنهم ينحدرون من الخزي والعار، ولكنهم مع ذلك لا يشعرون بشيء من عذاب الضمير، ما ظلوا مختبئين في أوكارهم على الأقل".
 
***
 
"يا رب! اقبلني رغم حطتي، ولكن لا تحكم عليّ. اللهم اسمح لي أن أجيء إليك دون أن أمثل أمام محكمتك... لا تحكم عليّ، ما دمت قد حكمت على نفسي بنفسي.... لا تحكم عليّ، لأنني أحبك يا رب! اللهم إنني خبيث دنيء، ولكني أحبك، وحتى في الجحيم، إذا أنت أرسلتني إلى الجحيم، سأظل أحبك، وسأظل أهتف لك بحبي إلى الأبد، ولكن دع لي أن أحب حبي الأرضي حتى النهاية.. إسمح لي أن اظل أحب، في هذه الحياة الدنيا، خمس ساعات أخرى، إلى أن تطلع شمسك الدافئة.. إنني أحب ملكة قلبي، ولا أملك أن أمتنع عن حبها، اللهم إنك تراني كلي في هذه اللحظة، سوف أهرع إليها، فأرتمي عند قدميها، وأقول لها: لقد كنت على حق حين نبذتيني، وداعا.. إنسي ضحيتك، ولا تدعي لذكراي أن تعذبك يوما".
 
***
 
"إنني أدرك اليوم أن رجالا مثلي يحتاجون إلى أن يضربهم القدر، يحتاجون إلى أن يضربهم القدر ضربة تدمر كيانهم وتوقظ في أنفسهم قوى الحقيقة العليا. ما كان لي أبدا، أبدا، أن أستطيع النهوض من تلقاء نفسي".
 
***
 
"هناك أمور يصعب شرحها. إن هذا الفلاح يتصور أن التلاميذ يُجلدون في المدرسة، وأن الأمور يجب أن تكون كذلك. ما تلميذ لا يُجلد. فلو قلت له بفظاظة إننا لا نُجلد في المدرسة لما فهم شيئا ولأحزنه ذلك".
 
***
 
"... إنني قد أُلهمت حقا حين نكلت عن وعدي ورفضت أن أصبح زوجتك. أنت زوج لا يطاق. هبني تزوجتك، ثم كلفتك بأن تحمل رسالة إلى عشيقي: لسوف تقوم بهذه المهمة، ولن تقتصر على حمل الرسالة إليه بل ستجيئني بالرد أيضا".
 
***
 
"... لقد استشرت عددا كبير من الأطباء: إنهم يملكون قدرة هائلة على تشخيص المرض، ويشرحونه بأدق التفاصيل.. أما أن يشفوه فهذا أمر يعجزون عنه. حتى لقد أتيحت لي فرصة التحدث مع طالب متحمس من طلاب الطب، فقال لي فرحا: "هبك مت من هذا المرض.. لسوف يتيح لك ذلك في أقل تقدير أن تعرف على وجه اليقين حقيقة الداء الذي أماتك". وانظر بعد ذلك إلى طريقتهم تلك في إرسالك إلى أخصائيين حين يقولون لك: "مهمتنا نحن تقتصر على تشخيص المرض. بقى عليك الآن أن تذهب إلى الأخصائي فلان أو فلان، فهو الذي سيشفيك". واحسرتاه! إن الطبيب الجيد القديم الذي عرفناه في الزمان الماضي وكان يداوي من جميع العلل والأسقام قد اختفى تماما، تماما، أؤكد لك!.. لم يبق اليوم إلا الأخصائيون، والصحف ملأى بالإعلانات عنهم، إذا شعرت بآلام في الأنف، أرسلوك إلى باريس: يظهر أن في باريس أخصائيا له شهرة في أوروبا كلها، يعرف معرفة رائعة كيف يعالج كل ما له علاقة بالأنف، وتذهب إلى باريس فيفحص الأخصائي أنفك، فيقول لك: "أنا لا أستطيع أن أشفي إلا منخرك الأيمن، لأنني لا أهتم أبدا بالمنخر الأيسر فهو لا يدخل في دائرة اختصاصي، فعليك بعد اتباع معالجتي أن تذهب إلى فيينا حيث يوجد أخصائي حاذق جدا سيفعل لك ما يجب فعله لمعالجة منخرك الأيسر".
 
***
 
"إن الإيمان بالله هو الذي يمكن أن يعد شيئا رجعيا في زماننا هذا، أما أنا الشيطان، فإنه مباح تماما أن أُصَدَّق".