دعاء
 
دعوت للثورة وأنا دون السابعة.
ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير:
-         بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا.
غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطيء السعادة،
ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد.
 
***
 
دين قديم
 
في صباي مرضت مرضا لازمني بضعة أشهر. تغير الجو من حولي بصورة مذهلة وتغيرت المعاملة. ولت دنيا الإرهاب، وتلقتني أحضان الرعاية والحنان. أمي لا تفارقني وأبي يمر عليّ في الذهاب والإياب، وإخوتي يقبلون بالهدايا. لا زجر ولا تعيير بالسقوط في الامتحانات.
ولما تماثلت للشفاء خفت أشد الخوف الرجوع إلى الجحيم. عند ذلك خلق بين جوانحي شخص جديد. صممت على الاحتفاظ بجو الحنان والكرامة. إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفني ذلك من عناء. وجعلت أثب من نجاح إلى نجاح، وأصبح الجميع أصدقائي وأحبائي.
هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضي.
 
***
 
"ما الحب الأول إلا تدريب ينتفع به ذوو الحظ من الواصلين".
 
***
 
"من ملك الحياة والإرادة فقد ملك كل شيء، وأفقر حي يملك الحياة والإرادة".
 
***
 
قطار المفاجآت
 
"في عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب. وقفنا جماعة من التلاميذ في بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة. وبيد كل سلة من القش الملون مملوءة بما قسم من طعام. وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين. قطار يذهب إلى القناطر الخيرية، وآخر يمضي إلى جهة مجهولة يسمى بقطار المفاجآت.
قال أحدنا:
-         القناطر جميلة ومضمونة.
فقال آخر:
-         المغامرة مع المجهول أمتع.
ولم نتفق على رأي واحد.
ذهبت كثرة إلى قطار القناطر،
وقلة جرت وراء المجهول."
 
***
 
حمام السلطان
 
حلمت مرة أنني خارج من حمام السلطان. تعرضت لي جارية ودعتني إلى لقاء سيدتها. ومالت بي في الطريق إلى  حجرتها لتهيئتي للقاء كما يملي عليها واجبها. وألهاني التدريب عن غايتي حتى كدت أنساها. ولما وجب الذهاب، ذهبت إلى السيدة الجميلة وأنا من الخجل في نهاية. ووقفت بين يديها منهزما وقد علاني الصدأ.
هكذا تحول الحلم إلى كابوس.
وكان لا بد من معجزة لتشرق الشمس من جديد.
 
***
 
التحدي
 
في غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيرا:
-         هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يلوث؟
فأجاب الوزير متحديا:
-         إليك – على سبيل المثال لا الحصر – الأطفال والمعتوهين والمجانين،
فالدنيا ما زالت بخير..
 
***
 
المليم
 
وجدت نفسي طفلا حائرا في الطريق. في يدي مليم، ولكني نسيت تماما ما كلفتني أمي بشرائه. حاولت أن أتذكر ففشلت، ولكن كان من المؤكد أن ما خرجت لشرائه لا يساوي أكثر من مليم..
 
***
 
الطاهر
 
رأت الشيخة رجلا حائرا وهي تسير في السوق بجلبابها الأبيض وخمارها الأخضر فسألته:
-         عم تبحث يا رجل؟
 
فأجاب بصبر نافد:
-         أبحث عن ماء طاهر.
فقالت بلهجة لم تخل من عتاب:
-         لا يوجد ما هو أطهر من عرق المرأة.
 
***
 
الفتنة
 
كنت أتمشى عند الباب الأخضر فصادفت درويشا منتحيا جانبا بامرأة. كانت وسيطة العمر، ريانة الجسم فواحة الأنوثة، محتشمة النظرة.
ولما اقتربت منها سمعتها تقول:
-         يا سيدنا، إني أرملة، أعيش مع شقيقتي، مستورة والحمد لله، ولكني أخاف الفتنة.
فقال لها:
-         أدي الفرائض.
فقالت بصدق:
-         لا تفوتني فريضة.
وأضافت:
-         وأسمع تلاوة القرآن لدى كل فرصة.
فقال:
-         لن يمسك الشيطان.
فقالت:
-         ولكني أخاف الفتنة.
 
***
 
المهمة
 
قالت لي أمي:
-         إذهب إلى جارتنا وقل لها هاتي الأمانة.
فسألتها وأنا أهم بالذهاب:
-         وما الأمانة؟
فقالت وهي تداري ابتسامة:
-         لا تسأل عما لا يعنيك ولكن احفظها عندما تتلمسها كأنها هي روحك.
وذهب إلى جارتنا، وبلغتها الرسالة فحركت أعضاءها لتطرد الكسل، وقالت:
-         يجب أن ترى بيتي قبل ذلك.
وأمرتني أن أتبعها ومضت أمامي وهي تتبختر.
وانقضى الوقت مثل نهر جار.
وكان أمي ترد على خاطري أحيانا، فأتخيلها وهي تنتظر.
 
***
 
"كان أول ظهور الشيخ عبد ربه  في حينا حين سمع وهو ينادي:
"ولد تائه يا أولاد الحلال"
ولم سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:
-         فقدته منذ سبعين عاما فغابت عني جميع أوصافه."
 
***
 
"مضى زمن قبل أن يلتفت إليّ وتلتقي عينانا. ولما شاعت ابتسامة في ملامحه، وثبت إلى جانبه وقلت:
-         اقبلني في طريقتك...
فسألني:
-         ماذا يدفعك إلينا؟
فقلت بعد تردد:
-         أكاد أضيق بالدنيا وأروم الهروب منها.
فقال بوضوح:
-         حب الدنيا محور طريقتنا وعدونا الهروب".
 
***
 
تعريف
 
سألت الشيخ عبد ربه:
-         ما علامة الكفر؟
فقال دون تردد:
-         الضجر.
 
***
 
الوفاء في المِلاح
 
قال الشيخ عبد ربه التائه:
آه من تلك المرأة الجميلة التي لا وفاء لها.
لا هي تشبع، ولا عشاقها يتعظون.
 
نجيب محفوظ
أصداء السيرة الذاتية
مكتبة الأسرة 2004