سلافوى جيجيك[1]

ترجمة: أمير زكى
فبراير 2011
***
ليس أمامك سوى أن تلاحظ الطبيعة الإعجازية للأحداث فى مصر. هناك شىء حدث لم يتوقعه الكثيرون، شىء تجاوز توقعات الخبراء. فالانتفاضة لم تكن فقط نتيجة الأوضاع الاجتماعية بل تدخل فيها أيضا هذا العامل الغامض الذى يمكن أن نطلق عليه – بالطريقة الأفلاطونية – المثال الأبدى للحرية والعدالة والكرامة.

لقد كانت الانتفاضة عالمية، وقد كان من الممكن لنا جميعا – فى كل أنحاء العالم – أن نستوعبها – أن نعرف ما الذى يدور فيها، بدون الحاجة لتحليل ثقافى لطبائع المجتمع المصرى. بالمقارنة بثورة الخمينى فى إيران (حيث كان على اليساريين أن يدسوا رسالتهم داخل الإطار المسيطر عليه مسبقا من قبل الإسلاميين) هنا كان الإطار يحتوى بوضوح على النداء العلمانى العالمى، على الحرية والعدالة، حتى أن الإخوان المسلمين أصبح عليهم أن يتبنوا خطاب المطالب العلمانية.

أكثر اللحظات سموا كانت حين اشترك المسلمون والمسيحيون الأقباط فى صلاة مشتركة فى ميدان التحرير، يهتفون: (نحن واحد)، مقدمين الحل الأمثل للعنف الدينى والطائفى. هؤلاء المحافظون الجدد الذين ينتقدون التعدد الثقافى من أجل القيم العالمية للحرية والديمقراطية يواجهون الآن لحظة الحقيقة، فهل يريدون حرية عالمية وديمقراطية؟، هذا هو ما يطلبه الناس فى مصر. إذن فلماذا لا يشعر المحافظون الجدد بالارتياح؟، هل لأن المتظاهرين فى مصر يطالبون بالحرية والكرامة فى نفس الهتاف الذين يطلبون فيه العدالة الاجتماعية والاقتصادية؟

من البداية كان عنف المتظاهرين رمزيا تماما، مجرد فعل للعصيان المدنى الجذرى والجمعى، أوقفوا سلطة الدولة، ولم يكن هذا فقط تحررا داخليا، ولكنه تحرك جماعى يحطم أغلال العبودية. أما العنف البدنى فتم من قبل البلطجية الذين استأجرهم مبارك، والذين دخلوا ميدان التحرير على الأحصنة والجمال وضربوا الناس، وأقصى ما فعله المتظاهرون هو أنهم دافعوا عن أنفسهم.

ورغم كونها مثيرة للتحدى إلا أن رسالة المتظاهرين لم تكن القتل، فالمطلب هو أن يرحل مبارك، وهذا يفتح أفق الحرية فى مصر، الحرية التى لا يستثنى منها أحد. هتاف المتظاهرين للجيش وحتى للشرطة المكروهة لم يكن (الموت لكم)، وإنما كان (نحن أخوة.. شاركونا)، هذا الملمح هو ما يميز المظاهرات التحررية عن المظاهرات الشعبية اليمينية، فرغم أن تحركات اليمين تدعى الوحدة العضوية للشعب، فهى وحدة ترتكز على إبادة عدو محدد: (اليهود.. الخونة).

إذن فأين نحن الآن؟ عندما يصل النظام المستبد لأزمته الأخيرة، فانحلاله يميل إلى أن يسير على خطوتين، فقبل الانهيار يحدث اضطراب، كل هؤلاء الناس غير المتوقعين يعلمون أن اللعبة انتهت، هم لم يعودوا خائفين، فالنظام ليس فقط يفقد شرعيته، وإنما ممارساته للقوة أيضا لوحظ أنها كانت عاجزة ومذعورة فى رد فعلها. نحن جميعا نذكر هذا المشهد الكلاسيكى فى أفلام الكارتون؛ القط يصل إلى حافة هاوية ولكنه يبقى على سيره، متجاهلا حقيقة أن لا أرض تحت قدميه، ويسقط فقط عندما ينظر إلى أسفل ويكتشف الهاوية. عندما يفقد النظام سلطته فهو مثل القط على حافة الهاوية ولكى يسقط علينا أن نذكره أن ينظر إلى أسفل.

ففى حالة الشاهنشاه، وفى قصة كلاسيكية عن ثورة الخمينى، حدد ريشارد كابوشينسكى[2] اللحظة الحاسمة للاضطراب، ففى إحدى مفترقات طهران رفض متظاهر واحد أن يتحرك عندما صاح فيه شرطى أن يرحل، الشرطى المرتبك تراجع، وفى خلال ساعات عرفت طهران كلها عن الحادثة، ومع وجود حرب شوارع لعدة أسابيع، عرف الجميع أن اللعبة انتهت.

هل هناك شىء مشابه يحدث فى مصر؟ لمدة يومين فى البداية بدا أن مبارك كان بالفعل فى موقف القط المذكور. ثم شاهدنا خطة محكمة للغاية لاختطاف الثورة، قذارة ذلك جعلت المرء يلهث. نائب الرئيس الجديد عمر سليمان (وهو رئيس الشرطة السرية السابق ومسئول عن عمليات تعذيب جماعى) قدم نفسه على أنه الوجه الإنسانى للنظام؛ الشخص الذى سيشهد التحول الديمقراطى.

صراع مصر على البقاء ليس صراعا فى الرؤى، ولكنه صراع بين رؤية الحرية وبين التمسك الأعمى بالسلطة التى تستخدم كل الوسائل الممكنة: الإرهاب، التجويع، الإشعار بالضجر، والرشوة وزيادة الأجور لتخمد إرادة الحرية.

عندما رحب الرئيس أوباما بالانتفاضة كتعبير شرعى عن الرأى يحتاج لأن تعترف به الحكومة (المصرية) كان الاضطراب شاملا؛ الحشود فى القاهرة والإسكندرية لم ترد أن تعترف الحكومة بمطالبها، فهم أنكروا شرعية الحكومة، هم لم يريدوا مبارك كمشارك فى الحوار، هم يريدون من مبارك أن يرحل، إنهم ببساطة لا يريدون من الحكومة الجديدة أن تستمع إلى آرائهم، هم يريدون إعادة تشكيل الدولة بأكملها، هم ليس لديهم مجرد رأى، إنما هم الحقيقة فيما يحدث فى مصر. مبارك يفهم هذا أفضل كثيرا من أوباما، لا مكان للحلول الوسط هنا، مثلما لم يكن لها مكان عندما تمت مواجهة الأحزاب الشيوعية فى نهاية الثمانينيات، فإما أن يسقط نظام مبارك تماما، وإما أن يتم تحييد الانتفاضة وخيانتها.

وماذا عن الخوف من أنه بعد سقوط مبارك ستصبح الحكومة الجديدة معادية لإسرائيل؟ إن كانت الحكومة الجديدة بالفعل تعبر عن الناس الذين يفخرون بحريتهم إذن فلا يوجد داع للخوف، فمعاداة السامية تنشأ فحسب فى أحوال اليأس والقمع (فى تقرير للسى إن إن من مدينة مصرية أظهر كيف أن الحكومة نشرت شائعات تقول إن منظمى المظاهرات صحفيين أجانب بعثهم اليهود لإضعاف مصر، هذا آخر ما يقال عن مبارك صديق اليهود.)

واحدة من أقسى المفارقات فى الوضع الحالى هى اهتمام الغرب بأن الانتقال يجب أن يتم بطريقة شرعية، وكأن مصر لديها حكم شرعى حتى الآن، هل نسينا حقا أنه من سنوات عديدة كانت مصر تحت قانون الطوارئ المستمر؟، مبارك أوقف الحكم الشرعى وأبقى الدولة كلها فى حالة من الجمود السياسى، خانقا الحياة السياسية الحقيقية. هذا أنتج إحساسا عند الناس فى شوارع القاهرة بأنهم يشعرون بكونهم أحياء لأول مرة فى حياتهم. ما الذى سيحدث بعد ذلك؟ ما يهم هو أن لا يموت إحساس الحياة ذلك بواسطة السياسة الواقعية النفعية.


[1]   Slavoj Zizekفيلسوف سلوفينى
[2] Ryszard Kapuscinski صحفى بولندى