حوار اسرائيل شنكر مع بيكيت، فى النيويورك تايمز، 5 مايو 1956

ترجمة أمير زكى
يوليو 2010
شكر خاص لـ ريس ترنتر
Special thanks to Rhys Tranter

اسرائيل شنكر (ولد عام 1925) صحفى أمريكى بالنيويورك تايمز، ينشر الحوار المهم الأول مع صمويل بيكيت.

***
أبواه أيرلنديان، ولد فى دبلن عام 1906، وبعد هذا التاريخ بخمسين عاما أصبح لدى صمويل بيكيت – رجل الأدب الكئيب البائس – مسرحية تعرض ببرودواى.

النقاد والجمهور وحتى الممثلين فى (فى انتظار جودو) يتساءلون عما يريد بيكيت قوله، هناك اتفاق عام على إنه غير مدعى ولكن هذا لا يخفف كثيرا من غموض رسالته.

بيكيت لا يميل لتقديم تفسيرات، وهو يصر على أنه لم يجر حوارات، ويحيل هؤلاء الذين يطلبون آراءه إلى أعماله المنشورة.

لقاء بيكيت أقل صعوبة نسبيا من لقاء جودو، الذى لا يظهر قط فى المسرحية* على الرغم من أن الجميع بانتظاره. عنوان بيكيت بباريس لا يزال سريا، ولا يوجد هناك أكثر من دزينة أفراد يعرفون مكان منزله الريفى.

بيكيت رفيع الجسد، وذو مظهر مهيب، وكأنه رسول حاد الطباع، ولكنه لا يهتم بشكله، فإذا بدت ملابسه وكأنه نام بها (وهى كذلك) فلا يبدو أنه يلاحظ.

شقته بباريس تقع بالطابق الثامن فى عمارة ليست أقل كثيرا من عمارات الطبقة المتوسطة بالمدينة. عدد من لوحات الكانفا معلق على الحوائط. منزله الريفى تم شراءه من مقابل حقوق (جودو). أرضية الحديقة مغطاة بالحصى، عمل بيكيت لساعات طويلة لينظف المكان وليشذب عشب الأرضية.. غرس هناك أشجارا، ولا يزال يعمل كبستانى بسيط ونشيط. هناك صديق علق على ذلك وقال: " بيكيت لديه ميل للانحطاط، ليبعد نفسه عن التفكير، كشخصية من شخصيات كتبه."

يتكلم بيكيت بتردد معذب، بالضبط مثل شخصياته، ولكنه يتكلم أيضا بذكاء، هو يخاف أن يستسلم لكلماته، فهو يعرف أن الكلام هو مجرد طريقة أخرى لإثارة الغبار. وإذا كان سيتخفف من موقفه تجاه الحوارات فهذا هو ما سيقوله (لقد قال الآتى كله، بنفس صياغة الجمل):

" جئت باريس لأول مرة كطالب بكلية ترينيتى عام 1926، وجئت أيضا كمحاضر بمدرسة المعلمين العليا عام 1928. ثم تم اختيارى كمساعد أستاذ للغة الفرنسية فى دبلن لفترة 3 سنوات، استقلت بعد أربعة فصول دراسية، لم أحب التدريس، ولم استطع الاستقرار للعمل، لذلك تركت أيرلندا."

" ذهبت إلى ألمانيا، إلى لندن، وعدت لدبلن، كنت أتنقل من هنا لهناك، هذه كانت فترة مربكة لعقلى."

" لدىّ أخ أكبر، يعمل مُسّعِر مبانى، مثل أبى، أخذ أخى عمل أبى على عاتقه بعدما توفى الأخير."

" لم أحب العيش فى أيرلندا، أنت تعرف هذا، الثيوقراطية، الرقابة على الكتب، هذه الأشياء.. أفضل العيش بالخارج، فى 1936 عدت لباريس وعشت فى فندق لبعض الوقت، ثم قررت أن أستقر وأعيش حياتى هنا."

" عندما كانت أمى حية كنت أذهب إليها لمدة شهر كل عام، توفت أمى عام 1950."

" أنا لم أكن أبدا سكرتيرا لجويس، ولكنى ساعدته مثل كل أصدقاءه. هو كان عاجزا بدرجة كبيرة بسبب عينيه.. قمت بأعمال صغيرة له، كترقيم الفقرات أو القراءة من أجله، ولكنى لم أكتب أبدا أيا من أعماله."

" لقد كنت فى أيرلندا عندما بدأت الحرب عام 1939، ثم عدت لفرنسا، لقد فضلت فرنسا فى الحرب على أيرلندا فى السلم.. لقد فعلت ذلك فى الوقت المناسب، لقد كنت هنا حتى عام 1942، وبعدها كان علىّ أن أرحل، لذا ذهبت إلى فوكليز** بسبب الألمان."

" أثناء الحرب، كتبت كتابى الأخير بالإنجليزية، والذى كان (وات)، وبعد الحرب عدت لأيرلندا عام 1945، وعدت مع الصليب الأحمر الأيرلندى كمترجم وأمين مخازن، ولكنى لم أبق طويلا مع الصليب الأحمر."

" على الرغم من أننى كنت مضطرا إلى أن أرحل عام 1942، إلا أننى كنت قادرا على الاحتفاظ بشقتى فعدت إليها وبدأت الكتابة مرة أخرى بالفرنسية، شعرت برغبتى فى هذا، الكتابة بالفرنسية كانت خبرة مختلفة عن الكتابة بالإنجليزية وأكثر إثارة بالنسبة لى."

" كتبت أعمالى سريعا جدا، ما بين 1946 و1950، لم أكتب شيئا من ساعتها، أو على الأقل ليس شيئا ذا قيمة بالنسبة لى. الأعمال التى كتبتها بالفرنسية أوصلتنى إلى نقطة إننى كنت أقول نفس الشيء مرارا وتكرارا. بالنسبة لبعض الكتاب تسهل الكتابة كلما كتبوا، بالنسبة لى تكون أكثر صعوبة، فالإمكانيات تضيق أكثر فأكثر."

" لقد قرأت كافكا بالألمانية، قراءة جادة، باستثناء بضعة أشياء بالفرنسية والإنجليزية، (القلعة) بالألمانية، علىّ أن أقول إنه من الصعب الوصول للنهاية. بطل كافكا لديه وحدة غرض، هو ضائع ولكنه غير مهتز روحيا، إنه غير محطم، شخصياتى تبدو محطمة. هناك اختلاف آخر، ستلاحظ أن شكل كافكا كلاسيكى، يمضى كعربة رصف، وهو خامد غالبا، يبدو وكأنه مهدد طوال الوقت، ولكن الذعر يكون فى الشكل. فى عملى، فالذعر يكون فيما وراء الشكل، لا الشكل."

" مع نهاية عملى لا يتبقى سوى الغبار، سوى المسمى. فى كتابى الأخير (اللا مسمى) هناك تفسخ كامل، ليس هناك (أنا)، ليس هناك (ملكية)، ليس هناك (وجود)، لا فاعل، لا مفعول، لا فعل، لا توجد طريقة للاستمرار."

" العمل الأخير الذى كتبته (نصوص من أجل لا شيء) كان محاولة للخروج من هذه الحالة ولكن المحاولة فشلت."

" بالنسبة لجويس فالاختلاف بيننا هو أنه متمكن تماما من أدواته، ربما يكون الأعظم، هو يستخدم الكلمات بحيث تقدم الحد الأقصى من المطلوب. لا يوجد مقطع زائد عن الحاجة. بالنسبة لعملى فأنا غير متمكن من مادتى. كلما عرف جويس كلما عمل، هو يميل لفكرة العلم والقدرة الكلية للفنان، أنا أعمل فى العجز والجهل. لا أعتقد أن العجز استغل فى الماضى. يبدو أن هناك نوع من البديهية الاستطيقية ترى أن التعبير هو إنجاز، أو لا بد أن يكون إنجازا. اكتشافى الضئيل هو لهذا المدى الكامل من الوجود الذى كان دوما يوضع جانبا من قبل الفنانين كشيء غير مفيد، كشيء بالضرورة متضارب مع الفن."

" اعتقد أن أى أحد فى هذه الأيام يلقى انتباها ولو ضئيلا لخبرته الذاتية، سيكتشف أنها خبرة عدم المعرفة، وعدم الاستطاعة (الشخص الذى لا يستطيع). النوع الآخر من الفنانين (الأبولونى) هو بالضرورة غريب عنى."

ولما سؤل بيكيت إن كان نسقه هو غياب النسق قال: " أنا لا أستطيع رؤية أى أثر لأى نسق فى أى مكان."

هل بيكيت غير مهتم بالاقتصاد؟، ألا يعالج أبدا قضايا مثل كيف تكسب شخصياته عيشها؟ قال بيكيت: " شخصياتى ليس لديها شيء." ثم ترك الموضوع.

سألته: لماذا اختار أن يكتب مسرحية بعد كتابة الروايات؟ أجاب: " أنا لم أختر أن أكتب مسرحية، الأمور حدثت هكذا."

النقاد قالوا إن بناء مسرحية (جودو) ومضمونها يجعلان المؤلف قادرا على أن يترك قلمه فى أى لحظة. يرفض بيكيت: " فصل واحد كان قليلا جدا، وثلاثة فصول كثيرة جدا."

يتحرك بيكيت كحيوان مجروح فى شقته بباريس. ويشكو قائلا: " رواية اللا مسمى وضعتنى فى موقف لا أستطيع أن أحرر نفسى منه."

ماذا ستفعل إذن عندما لا تجد شيئا تفعله، هل ستفعل مثل الآخرين، ستستمر فى المحاولة؟
أجاب بيكيت: " هناك آخرون، مثل نيكولاس دى ستيل***، ألقوا أنفسهم من النافذة بعد سنوات من الكفاح."


* فى انتظار جودو
** بجنوب فرنسا
*** 1914-1955 فنان تشكيلى فرنسى من أصل روسى، انتحر ملقيا نفسه من النافذة بعد معاناة مع الاكتئاب Nicolas de Staël